طيوب عربية

إضاءاتٌ نقديّةٌ لِديوان “سلامي لكَ مطرا” للشّاعرة آمال عواد رضوان

بقلم: عبد المجيد عامر اطميزة

غلاف_سلامي لك مطراً

قصيدة: “سلامي لك مطرا”- من قصائد الديوان

في دُروبِنا العَتيقَةِ

تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ

إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟

بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ

تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني ../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ

لِتَرْسُوَ مَراكِبُ ذُهولي المَحْمومِ

عَلى صَفَحاتِ لَيْلِكِ المائِجِ

أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ/ في شِتاءاتِ الخَطايا؟

سَرْبِليني بِمِعْطَفِ عَطْفِكِ الآسِرِ

لأُطفِئَ بَرْدَ الأَوْهامِ

يا مَنْ تَرْتَسِمينَ بَتولاً في أيْقونَةِ الطَّهارَةِ

لَوْحَةً سَماوِيَّةً تُشْرِقينَ/ عَلى تِلالِ ذِكْرَياتي

لأَظَلَّ ضَميرَكِ اليَسْتَتِرُ/ خَلْفَ جِبالِ صَمْتِكِ

عَلى شَواطِئِ العَتْمَةِ

يَدْرُجُ نَوْمُكِ اليَتَّكِئُ / عَلى عُكّازِ صَحْوَتي

وَفي إغْماءَةٍ شَهِيَّةٍ

يَشُدُّني حُنُوًّا/ إلى صَدْرِ غَفْوَةٍ سِحْرِيَّةٍ

أنا مَنْ أَثْمَلَني السَّهَرُ

ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ/ في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ

لكِنّي.. أَصْحو

لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ/ يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ

يَتَمَطّى مُتَثائِبًا/ في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ

عَلى مَوائِدي التَزْدَحِمُ

بِرَقائِقِ بَسْمَتِكِ الشَّقِيَّةِ/ بِفَطائِرِ حُبِّكِ المَعْسولَةِ

أَأَقْتَرِعُ… عَلى

كِ سْ رَ ةٍ/ مِنْ خُبْزِ نُعاسِكِ؟

أَأُقامِرُ على/ نَ غْ مَ ةٍ

مِنْ ماءِ هَذَيانِكِ؟

أَتُبَعْثِريني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ

مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟

مَعْصِيَتي النَّقِيَّة!

مَذاقُ الدَّهْشَةِ كافِرٌ

يُعَرْبِدُ فارِعًا بِكِ/ فارِغًا إِلاّ مِنْكِ

يُعاكِسُ خُطى صَمْتِكِ/ في مَرايا غُموضِكِ

أَيَّتُها الغابَةُ التَتْرَعينَ بِوَحْشِيَّةِ الجَمالِ

إلامَ يَظَلُّ يَفْتَرِسُني ضِياؤُكِ الشّرِسُ؟

إلامَ تَظَلُّ تُلَوِّنُني رائِحَةُ عَتْمَتِكِ الوَضّاءَةِ؟

يا مَنْ/ عَلى عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ

تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ

يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي

أَتَقولينَ: سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟

سَلامُكِ!/ تَصْدَحُ بِهِ حورِيّاتُ النُّجومِ/ في سُهولِ لَيْلي

لِتَحْتَفِيَ بِأَعْراسِ حُزْني

سَلامُكِ!/ يَبُثُّ احْتِراقَ عُيوني/ بِعُذوبَةٍ مُتَوَحِّشَةٍ

بِلُغَةٍ خُرافِيَّةٍ/ تُضيئينَ تَثاؤُبَ وَهْمي/

بِنورِ غُيومِكِ/ يُثَرْثِرُ قُزَحُ نَبْضي

وَبِفِرْشايَةِ أنْغامِكِ أَذوبُ موسيقى

تَتَلَوَّنُ في مَفاتيحِ البَوْحِ

تُمْطِرينَ سَلامَكِ/ فَيْضَ روحٍ عَلى روحي

وَسَلامي ظامِئٌ/ يَرْتَشِفُ طَلَّ فَجْرِكِ

يَتَرَدَّدُ صَدى مَلَكوتِكِ/ وَلَهًا.. حَنانًا..

وتخشعَ سَمائي مَزْهُوَّةً

بِتَسابيح نَوافيرِ أنْفاسِكِ!

المقدّمة: يتضمّنُ تحليلي في كتابي (من أعماق القول- في شِعر آمال عوّاد رضوان)، ثلاثَ قصائدَ مِنَ ديوانِ (سلامي لكَ مطرًا)، وقدِ امتطَتْ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان صهوةَ قصيدةِ النّثرِ بحِنكةٍ، وسارتْ في مَراكبِها بدرايةٍ، وحقّقتْ أهمَّ خصائصِها باقتدارٍ وثباتٍ، وسنعرضُ سطورَها الشِّعريّةَ على آراءِ مَن كَتبَ مِنَ النُّقّادِ في دراساتِهم للقصيدةِ النثريّة.

“سلامي لكَ مطرًا”؛ هو الدّيوانُ الثّاني الّذي صدَرَ للشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان عام 2007، وأسْمتْهُ بهذا الاسْمِ نسبةً للقصيدةِ الثّالثةِ في مُحتوى الدّيوانِ، والّذي يتكوّنُ مِن اثنتيْ عشرةَ مقطوعةً، وشاعرتُنا آمال عوّاد رضوان استوعبَتْ قصيدةَ شِعرِ النّثرِ باقتدارٍ، وجالتْ في ثناياها بحِنكةٍ، وسارتْ في طريقِها باستنارةٍ، وقبلَ الولوجِ في عالمِ ديوانِ الشّاعرةِ لا بُدّ لنا مِن وقفةٍ تأمُّليّةٍ، لنرى طبيعةَ القصيدةِ النّثريّةِ، وآراءَ بعضِ النّقّادِ فيها.

يقولُ النّاقدُ أحمد يزن: باتَ مِنَ المُؤكّدِ أنّ مَن يَبرَعُ في كتابةِ قصيدةِ النّثرِ مِنَ الشّعراءِ العرَبِ، هو مَن يَستطيعُ استيعابَ علاقةِ الشِّعرِ بشِعريّةِ أحلامِ التّكنولوجيا؛ لذلكَ قِلّةٌ شعراءُ قصيدةِ النّثرِ المُبدِعون، وكثيرةٌ قصائدُ النّثرِ الّتي نستطيعُ أن نرميَها في البحرِ بلا أسفٍ”.

وكما قالَ ماكس جاكوب: “لتكونَ شاعرًا حديثًا، يجبُ أن تكونَ شاعرًا كبيرًا جدًّا”.(1)

وتقولُ جمانة حدّاد، عن عبّاس بيضون، في جريدة السفير 26/6/2006: “أُنسي الحاج” أعظمُ شاعرٍ منذ المتنبّي…”.

{لكنّ شعراءَ بيروت، مِنَ المتعلِّمينَ بالفرنسيّةِ، لم يتعرّفوا عليها، كقصيدةٍ مخصوصةٍ، إلّا بعدَ صدورِ كتاب سوزان برنار. لم يتعرّفوا على قصيدةِ النّثرِ مِنَ الأعمالِ الشّعريّةِ نفسِها، (شجونُ باريس مثلًا، أو الأنطولوجيّات الخاصّة بهذا الجنس الشِّعريّ)، بل من الأطروحة الأكاديميّة، أي العمل النقديّ. ولو فرضنا أنّ هذا العملَ لم يَصدرْ، فهل كانتْ هذه القصيدةُ ستنالُ في بيروت كلَّ هذه الحظوةِ في الفترةِ ذاتِها؟ وهل كانَ لشعراء بيروت في الفترةِ ذاتِها، ما أصبحَ لهم بفضلِ الاطّلاعِ على كتابِ سوزان بيرنار؟ مِن ثمّ نفهمُ، كيفَ أنّ الحركةَ البُنيويّةَ للسّتينيّاتِ والسّبعينيّاتِ، بما حملَتْهُ مِن تفرُّعاتٍ منهجيّةٍ، مِن شِعريّةِ الاستعارةِ إلى شِعريّةِ الإيقاع، ومِن دلائليّةِ غريماس أو دلائليّةِ يوري لوتمان، إلى الدّلائليّةِ التّحليليّةِ لجوليا كرسطيفا.

عائلةٌ بكاملِها التقى فيها أهلُ الّلسانيّاتِ والفلسفةِ والتّحليلِ النّفسيّ والأنتربولوجيا بدلائليّينَ وشاعريّين. ما استأثرَ بالقراءةِ والتّنظيرِ لدى حركةِ النّقدِ الجديدِ، هو أعمالُ ساد، ورامبو، وملارمي، ونيتشه، وأرطو، وبونج، مُفيدينَ مِن فردناند دو سوسير، وموريس بلانشو، وجورج باطاي، والشّكلانيّينَ الرّوس. وكانتِ الكتابةُ المَوقعَ الّذي تختارُهُ أعمالُ هؤلاءِ، مُعوِّضينَ بذلكَ مفهومَ الأدبِ بمفهومِ الكتابة.

وحسب رولان بارط، “ليستِ الكتابةُ هي الكلام، وهذا التّفريقُ بينهما حصَلَ في السّنواتِ الأخيرةِ على تكريسٍ نظريّ، ولكنَّ الكتابةَ ليستِ المكتوبةَ أيضًا، أي التّدوين؛ فأنْ تكتبَ ليس هو أن تُدوِّنَ. في الكتابةِ ما هو أكثرُ حضورًا في الكلامِ (بطريقةٍ هستيريّةٍ)، وأكثرُ غيابًا في التّدوينِ (بطريقةٍ إخصائيّة)، بمعنى أنّ الجسَدَ يعودُ، ولكن عن طريقٍ غيرِ مباشرةٍ، مَقيـسَةٍ وموسيقـيّة، حتّى تقول كلَّ شيءٍ بدقّةٍ، عن طريقِ المُتعةِ لا عن طريقِ المُتخيّلِ (الصّورة)”.

تصريحاتٌ واعترافاتٌ بأنّ العربَ لم يَفهموا قصيدةَ النّثرِ ولم يَكتبوها. وأضيفُ إنّهم لم يَفهموها ولم يَكتبوها بمعانٍ مُتعدِّدةٍ. ليسَ الشّكلُ وحده ما لم يَفهموهُ، بل تاريخ هذه القصيدةِ السّابق على بودلير، واسمها، ومكانتها ضمنَ الشِّعرِ الفرنسيّ، (ومنه شِعر وكتابات بودلير)، وطبيعةُ هذه القصيدةِ الّتي هي ابنةُ باريس، تحديدًا، المدينةِ الفرنسيّةِ الكبيرةِ في زمنِ الثّورةِ الصّناعيّةِ، واكتساحِ الخِطابِ العِلميِّ فضاءَ البحثِ العِلميِّ، كما فضاء الحياةِ الفرنسيّة، ثمّ بُعدُها الميتافيزيقيّ، كما أعطاهُ إيّاها بودلير، شاعرُ “الانحطاط” بامتياز.

المغاربةُ، المغاربيّونَ، يَختارونَ صمتًا هو فتْحُ الأسرارِ. بهِ يُؤالفونَ بينَ المغربِ والمَشرقِ. وبهِ يُنادونَ على أصدقائِهم المَشرقيّينَ. يُهيّئونَ لاستضافتِهم، والاحتفاءِ بهم وتكريمِهم. دعواتٌ لا تتوقّفُ. بيوتٌ مفتوحةُ الأبواب. ابتهاجٌ يمتدُّ ليلَ نهار. هذا هو المغربُ، المغربُ العربيّ. وأنا أعلمُ أنّ شعراءَهُ، نُقّادَهُ وباحثيهِ، يَفعلونَ ذلكَ دفاعًا عن فِكرةٍ جديدةٍ عن العالمِ العربيّ، عن ثقافتِهِ ومُستقبلِهِ. وهُم في صمتِهم يُقاومونَ. صمتٌ لا يَبلغُ مقصَدَهُ إلّا أهلُ الذّوقِ، مِن أصحابِ العِلمِ العرفانيّ، بما نحنُ فيهِ وما نحنُ إليهِ سائرونَ. صمتٌ أقسى مِن الكلامِ، في زمنٍ نفتقـدُ السّؤالَ عمّا نفعلُ، ولماذا نفعل؟ وكيف نفعل؟ صمتٌ هو تجربةُ الإقامةِ في الزّوابع، على حافّةِ الخطرِ، بجسدٍ كلُّه عيونٌ. صمتٌ هو سيّدُ الكلام.} (2) وأمّا طبيعةُ القصيدةِ النّثريّةِ قبلَ الغوصِ في أعماقِ قصائدِ شاعرتِنا آمال عوّاد رضوان، والتّدقيقِ في صُورِها الشّعريّةِ وإيقاعاتِها وبُنيتِها التّركيبيّةِ.

كما ترى سوزان برنار أنَّ قصيدة النّثرِ هي: “قطعةُ نثرٍ موجزةٍ بما فيهِ الكفاية، مُوحّدةٍ، مضغوطةٍ، كقطعةٍ من بلّور… خلْقٌ حُرٌّ، ليسَ لهُ مِن ضرورةٍ غيرَ رغبةِ المُؤلّفِ في البناءِ، خارجًا عن كلِّ تحديدٍ، وشيءٌ مضطربٌ، إيحاءاتُهُ لا نهائيّة»(3). ولقد أضافتْ سوزان برنار في كتابها المرجع: “قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن”، خصائصَ عدّةً لقصيدةِ النّثرِ، وقد وظّفتْ شاعرتُنا آمال تلكَ الخصائصِ وهي:

الإيجاز: وتعني الكثافةَ في استخدامِ اّللفظِ سِياقيًّا وتركيبيًّا .

التّوهُّج: وتعني الإشراقَ، أي يكونُ الّلفظُ في استخدامِهِ مُتألّقًا في سِياقِهِ، كأنّهُ مصباحٌ مُضاءٌ، إذا استبدلْناهُ بغيرِهِ، ينطفئُ بعضُ البريقِ في الدّلالةِ العامّة، وفي الجَمالِ التّركيبيِّ النّصّيّ.

المجانيّة: وتعني الّلازمنيّة، أي يكونُ الّلفظُ غيرَ مُحدّدٍ بزمنٍ مُعيّنٍ، فالدّلالةُ مُتغيّرةٌ، حسبَ السّياقِ والرّؤيةِ والتّركيب، وتكونُ قصيدةُ النّثرِ ذاتَ دلالةٍ مفتوحةٍ، يمكنُ أن تُفهَمَ على مُستوياتٍ عدّة.

الوحدةُ العضويّة: وتعني أن يكونَ النّصَّ كُلًّا واحدًا، ونترُكَ وحدةَ البيتِ، ويكونَ النّصُّ كلُّهُ وحدةً واحدةً، لا يمكنُ أن يَقرأ بمَعزلٍ عن أيِّ جزءٍ مِن أجزائه.(4).

قصيدةُ النّثر- كما عندَ شاعرتنا آمال- (هي قصيدةٌ تتميّزُ بواحدةٍ أو أكثرَ مِن خصائصِ الشّعرِ الغنائيّ، غيرَ أنّها تعرضُ في المطبوعاتِ على هيئةِ النّثر، وهي تختلفُ عن الشِّعرِ النّثريّ بقِصَرِها وبما فيها مِن تركيزٍ. وتختلفُ عن الشِّعرِ الحُرِّ بأنّها لا تهتمُّ بنظامِ المُتوالياتِ البيتيّة. وعن فقرةِ النّثرِ، بأنّها ذاتُ إيقاعٍ ومؤثّراتٍ صوتيّةٍ أوضحُ ممّا يَظهرُ في النّثرِ مُصادفةً واتّفاقًا مِن غيْرِ غرضٍ، وهي أغنى بالصّورِ، وأكثرُ عناية بجماليّةِ العبارة، وقد تكونُ القصيدةُ مِن حيثُ الطّول مساويةً للقصيدة الغنائيّة، لكنّها على الأرجح لا تتجاوَزُ ذلك، وإلّا احتُسِبتْ في النّثرِ الشّعريّ(5). وسنرى أنّ تلكَ الخصائصِ توفّرَتْ في ديوان شاعرتِنا الثّاني “سلامي لكَ مطرًا”، وسوفَ ندخلُ عالمَ قصائدِهِ، ونُلقي على بعضِها إضاءاتٍ نقديّةً.

ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ: السّلامُ هو التّحيّةُ في جميع الأديانِ السّماويّةِ، والسّلامُ هو المنشودُ الّذي تَنشدُهُ وتتمنّاهُ البّشريّةُ والإنسانيّة، والـمطرُ هو الخيرُ والبَرَكةُ والخصْبُ والازدهارُ والحُبُّ والطمأنينة. وعنوانُ الكتابِ مأخوذٌ مِن إحدى قصائدِ الكتابِ نفسِه.(6).

والعنوانُ مُكوّنٌ مِن جُملةٍ اسميّةٍ؛ سلامي: المبتدأ، وهو مضاف، وياء المتكلم في محلّ جرّ مضاف إليه، و”لك” شبه الجملةِ في محلّ رفع خبر للمبتدأ، و”مطرًا”: تمييز منصوب.

ولْنُدقّقْ في العنوانِ مرّةً أخرى، بعدَ أن نستجليَ معاني السّلام، و”السَّلَام: اسمٌ مِن أَسمائِهِ تعالَى، والسَّلَام التّسليم، والسَّلَام التّحِيَّة عند المسلمين. والسَّلَام السّلامةُ والبراءةُ مِن العيوبِ، والسَّلَام الأَمان، والسَّلَام الصُّلْحُ، والسَّلَام النّشيدُ الوطنيُّ الرّسميّ. والسَّلَام ضربٌ مِن الشّجر. ودارُ السَّلامِ: الجنّة. ومنهُ في التّنزيلِ العزيز: (لَهُمْ دارُ السَّلَامِ) الأنعام آية 127، والسَّلَام بَغْدَاد.(7)

والمعنى الّذي تومِئُ إليهِ الشّاعرةُ يتمثّلُ في السَّلام والأَمانِ والصُّلْحُ بينَ بَني البَشر، وليسَ الحربُ والقتلُ والتّدميرُ كما في شريعةِ الغاب، واختزلَتِ الشّاعرةُ فيما تريدُهُ في ثلاثِ كلماتٍ، راعَها القتلُ والتّدميرُ والتّخريبُ والتّنكيلُ فيما يَجري حولَها وفي العالَمِ، هالَها احتلالُ وطنٍ والتّنكيلُ بأهلِهِ، راعَها القسوةُ بينَ بني البَشر، أفجعَها تدميرُ بلدانِ كما العراق، وإرجاعِهِ للعصرِ الحجَريّ…

وفي العنوانِ يتجلّى السّؤالُ: لمَنِ السّلام؟ فالسّلامُ مُوجّهٌ إليكَ يا أخي في الإنسانيّةِ، ليسَ لأخِ الشّاعرةِ ولا لبنيها ولا لأبناءِ وطنِها فقط، بل للعالمِ بأسرِهِ، وهنا مَكمَنُ الإيجازِ، ونعني به: الكثافةُ في استخدامِ الّلفظِ سياقيًّا وتركيبيًّا، وهذا ما تَحقّقَ عندَ شاعرتِنا.

تقولُ: في دُروبِنا العَتيقَةِ/ تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ/ إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟/ بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ: صورةُ الشّاعرةِ وهي تتذكّرُ ما في خواطرِها، السّلامَ في بلدِها وما حولَها، سلامًا يحملُ في طيّاتهِ النّجابةَ والكرَمَ وسُمُوّ الرّوحِ والعتقِ، لكنّ ذاكرتَها لا تَلمَحُ ولا تتذكّرُ يومًا تنعمُ فيهِ بالأمنِ والسّلام، فهيَ بنتُ النّكبة.

وتتزاحمُ الاستعاراتُ، تتعتّقُ الخواطرُ، ولها ذاكرةٌ تطفو كما الشّيءِ فوقَ الماءِ، والنّسيانُ تُصوّرُهُ الشّاعرةُ برَجُلٍ لهُ وجهٌ، وللفرحِ غاباتٌ تُقدّمُها الشّاعرةُ للعالمِ عندما يَحلُّ السّلام.

تستخدمُ أسلوبَ النّداءِ، فهي تُنادي خواطرَها، وحرفُ النّداءِ محذوفٌ، والنّداءُ يُفيدُ التّعجّبَ مِن بُعدِ تحقيقِ السّلام، أو التّمنّي بحصولِ السّلام، لكن هيهات أنْ يَحُلَّ، كلُّهُ صاغتْهُ بعاطفةٍ صادقةٍ، واتّحدَ الشّكلُ معَ المضمونِ، فتقولُ: تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني ../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ/ لِتَرْسُوَ مَراكِبُ ذُهولي المَحْمومِ/ عَلى/ صَفَحاتِ لَيْلِكِ المائِجِ

لكلمةِ “تسوُّل” معنيان: معنى مُعجميٍّ يُفيدُ الاسترخاءَ، فنقولُ: تَسوّلَ البطنُ: أي؛ استرخى، لكنّ هذا المعنى تطوّرتْ دلالتُهُ ليُصبحَ بمعنى: سأَلَ واستعطى.

وهذهِ السّطورُ تتزاحمُ بالاستعاراتِ والكناياتِ، وهو ما يُعرَفُ بالانزياح والتّوسُّعِ الّلغويّ، فأنهارُ أحزانِ الشّاعرةِ تتوسّلُ وتستجدي ليسَ بسمةً، بل ظلّها، أو إن شئتَ قلتَ رائحةَ البسمةِ، وتريدُ الشّاعرةُ أن ترى إطلالةَ السّلام؛ لتتوقّفَ مَراكبُ الشّاعرةِ المَذهولةِ، مِن وقْعِ ما تُحدثُهُ الحروبُ والويلاتُ، مِن مآسٍ، وفواجعَ، وغيابٍ للسّلمِ والسّلام.

فللأحزانِ أنهارٌ تتوسّلُ، وللبسمةِ ظِلالٌ كما الشّجر، وللبسمةِ دموعُ الفرحِ ترحيبًا بالسّلامِ البَعيدِ المنشودِ، وللذُّهولِ مَراكبُ، وللّيلِ صفحاتٌ كما الكتابُ: كنايةً عن الدّمارِ والخراب، فهو مائجٌ كما البحر.

وإذا كانَ حجازي قد ركّزَ على الذّاتِ، فإنّهُ لم يُهمِلْ دوْرَ الّلغةِ في عمليّةِ التّحويل، لأنّ الشِّعرَ عندَهُ عملٌ فنّيٌّ يتميّزُ بلغةٍ تتّفقُ في جوانبَ معَ لغةِ الحياةِ اليوميّةِ، لكنّها تختلفُ عنها بأبنيتِها، وإيقاعِها، وما تَحملُهُ مِن رموزٍ وإشاراتٍ، وهي تكشِفُ رؤيةً داخليّةً لا يُمكنُ تَصوُّرَها خارجَ العملِ الفنّيِّ ذاتِهِ.(8).

وتَختتمُ الشاعرةُ هذا المقطعَ بالانتقالِ للأسلوبِ الإنشائيّ فتقولُ: أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ/ في شِتاءاتِ الخَطايا؟/ سَرْبِليني بِمِعْطَفِ عَطْفِكِ الآسِرِ/ لأُطفِئَ بَرْدَ الأَوْهامِ.

ففي السّطرِ الأوّلِ خرجَ النّداءُ عن معناهُ الحقيقيُّ؛ ليُفيدَ التّمنّي بتحقيقِ السّلام، وفي السّطرِ الثالثِ استخدَمَتِ الأمْرَ؛ ليُفيدَ التّمنّي، ليَتحقّقَ السّلامُ وتنزاحُ الأوهامُ.

وفي السّطرِ الثّالثِ تَجانُسٌ في الحُروفِ؛ لتَحقيقِ الإيقاعِ الصّوتيّ كما في لفظتَيْ: مِعْطَفِ عَطْفِكِ.

(أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ): كنايةً عن إلحاحِ الشّاعرةِ ليَحُلَّ السّلامُ.

(في شِتاءاتِ الخَطايا؟): كنايةً عن الذّبحِ والتّدميرِ الّذي يَحصلُ في العالم؛ نتيجةَ غيابِ الأمنِ والسّلامِ، فشاعرتُنا تَستجدي باكيةً بدموعِها البريئةِ أن يَعُمَّ السّلامُ في بلادِ الله؛ في حومةِ انتشارِ التّدميرِ والتّخريبِ.

وتستخدمُ الشّاعرةُ أسلوبَ النّداءِ الّذي يُفيدُ الأسى والتّحسُّر، وتنتقلُ لأسلوبِ الأمْر، “سَربليني”؛ لتُجَسِّمَ وقْعَ هوْلِ المأساة.

يا مَنْ تَرْتَسِمينَ بَتولاً في أيْقونَةِ الطَّهارَةِ/ لَوْحَةً سَماوِيَّةً تُشْرِقينَ/ عَلى/ تِلالِ ذِكْرَياتي/ لأَظَلَّ ضَميرَكِ اليَسْتَتِرُ/ خَلْفَ جِبالِ صَمْتِكِ.

وتُنادي الشّاعرةُ مُناجيةً دموعَها وأحزانَها الطّاهرةَ البتولَ مريم، مُتمنّيةً تحقيقَ السّلام، وتلجأ الشّاعرةُ للانزياحِ، باستخدامِها الاستعاراتِ والكنايات والتّجسيم والتّشخيص: فالدّمعةُ كما المرأة البتول، ترتَسِمُ كما اللوحة السّماويّة المُشرقة، وللذّكرياتِ تلالٌ، وللصّمتِ جبالٌ، وهنا مواءَمةٌ بين لفظتَيْ: “تلال” وَ “جبال” وتقولُ: عَلى/ شَواطِئِ العَتْمَةِ/ يَدْرُجُ نَوْمُكِ اليَتَّكِئُ/ عَلى/ عُكّازِ صَحْوَتي/ وَفي إغْماءَةٍ شَهِيَّةٍ/ يَشُدُّني حُنُوًّا/ إلى صَدْرِ غَفْوَةٍ سِحْرِيَّةٍ

وما شدّني في هذا المَقطعِ والمَقطعِ السّابقِ كلمتَيْ: “اليَسْتَتِرُ” وَ “اليَتَّكِئُ”، ففيهِما اختراقٌ تركيبيٌّ عن طريقِ الحذفِ، وتقديرُ كلّ: الّذي يَستَتِرُ، والّذي يتّكئُ.

والشِّعرُ لهُ لغتُهُ الخاصّةُ به، وإنّ الحُكمَ على لغةِ الشِّعرِ ينبغي أن يَنبثقَ مِن إدراكٍ لطبيعةِ هذه الّلغة، دونما تحكيمٍ لمعاييرِ لغةِ الكلامِ العاديّ، لأنّ مثلَ هذا الحُكمِ يؤدّي إلى أن تفقدَ الّلغةُ الشِّعريّةُ كثيرًا مِن سماتِها(9).

تقولُ الشّاعرةُ: “شواطئ العتمة”؛ كلمتانِ قصيرتانِ ومعناهُما كبيرٌ جدًّا، فهذهِ هي الكثافةُ الشِّعريّةُ والتّوهُّجُ العاطفيُّ، الّتي لا يُتقنُهُما إلّا الشّاعرُ الّذي مَلَكَ ناصيةَ الشِّعرِ، ففي العبارةِ كنايةً عن غيابِ الأمنِ والسِّلمِ العالميّ، وللعتمةِ شواطئُ كما البحر، والبحرُ ذو لجّةٍ وصعبٌ ركوبُهُ، عباراتٌ موحِيةٌ، والإيحاءُ فيهِ التّلميحُ، وهو أبلغُ مِنَ التّصريحِ، ووقْعُهُ في النّفسِ أعمقُ على طريقةِ الرّمزيّينَ.

والنّومُ يتكئُ على عكّازة الشّاعرة، والشّاعرةُ مُغمًى عليها، هروبًا مِنَ الواقع وتشتهي ذلك؛ لهَوْلِ ما ترى مِن كوارثَ، ولا تَستطيعُ الوقوفَ على قدمَيْها، تستعينُ بعكّازتِها مِن هوْلِ ما ترى، ومِن فواجع ما تسمَعُ.

تَشعرُ بحلاوةِ الغفوةِ، كما تشعرُ بشهوةِ الإغماءِ، فلم تَعُدْ قادرةً على أنْ تعيشَ الواقعَ المُرَّ، واقعَ شريعةِ الغابِ، يا لَها مِن شاعرة! ويا لحلاوةِ ألفاظِها! روعةٌ في التّعبيرِ، وجَمالٌ في التّصوير، ودَفْقُ عواطفَ تَخلِبُ الألبابَ وتأسرُ العقولَ، فالنّومُ يتّكئُ على عكّازةِ الصّحوة، وللإغماءِ شهوةٌ، وللغفلةِ صدرٌ وسِحرٌ.

أنا مَنْ أَثْمَلَني السَّهَرُ/ ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ/ في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ/ لكِنّي.. أَصْحو/ لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ/ يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ/ يَتَمَطّى مُتَثائِبًا/ في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ.

وتُتابعُ شاعرتُنا نصَّها بالأسلوبِ الخبَريِّ، تقديرًا وحُبًّا في إحلالِ السّلامِ والسِّلمِ العالميّ، فلقدْ أحبّ السّهرُ شاعرتَنا ومالَ إليها، لكثرةِ سهرِها وهي تترقّبُ مجيءَ السّلامِ في أرضِ السّلامِ، وهي لن تكُفَّ عن مَطلبِها، وهي ليستْ في عجلةٍ مِن أمرِها ولن تجزعَ، تترقّبُ أن يَبزُغَ فجرُ السّلامِ، وتُريدُ ممّنْ يتفوّهُ بالسّلام أنْ يُحقّقَ السّلام، وألّا يَسلُكَ مَسالِكَ ضبابيّةٍ. والنّصُّ حافلٌ بالكِناياتِ والاستعاراتِ، ومِن أساليبِ الانزياحِ ممّا يُحقّقُ الجَمالَ الشِّعريّ:

“ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ”: كنايةً عن إصرارِ الشّاعرةِ بمُطالبتِها بتحقيقِ السِّلم والسّلام.

“في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ: كنايةً عن صبْرِها، وهي تنتظرُ السّلامَ.

لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ: شبّهَتِ الفجرَ بنسيجٍ أو بثوبٍ لهُ خطوطٌ، والفجرُ: كنايةً عن إطلالةِ السّلام.

“يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ”: كنايةً عنْ وجودِ إشاراتٍ خفيّةٍ بتحقيقِ السّلامِ. “يَتَمَطّى مُتَثائِبًا”: شبّهَتِ الفجرَ بإنسانٍ يَتثاءَبُ ويتمطّى، وكلمَتَيْ (يتمطّى وَيتلصّصُ) جاءتا على نفسِ الوزنِ، لخلْقِ إيقاعٍ جميلٍ، وفيهِما إيحاءٌ يُلمِّحُ على أنّ السّلامَ بعيدُ المَنالِ، ولا يَجدُ مَنْ يَدعو لتحقيقِهِ فِعلًا، مِن أصحابِ المَصالحِ المُتنَفِّذينَ بالقوّة، والمُتسلِّحينَ برأسِ المالِ.

“في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ”: كنايةً عنْ ضبابيّةٍ في إحلالِ السِّلمِ والسّلامِ العالميِّ. فلُغةُ الكَلامِ اليوميِّ تَهدفُ فيما تَهدفُ إليهِ، الإفهامَ والتّوصيلَ، ولا تَستخدِمُ مِن عناصرِ النّظامِ الّلغويّ إلّا القدْرَ الضّروريّ الّذي يُحقّقُ لها هدفَها، في حين أنّ الّلغةَ في الأدبِ تتجاوزُ تلكَ المُهمّةِ، إلى تحقيقِ مُواصفاتٍ جَماليّةٍ(10).

عَلى/ مَوائِدي التَزْدَحِمُ/ بِرَقائِقِ بَسْمَتِكِ الشَّقِيَّةِ/ بِفَطائِرِ حُبِّكِ المَعْسولَةِ/ أَأَقْتَرِعُ.. عَلى/ كِ سْ رَ ةٍ/ مِنْ خُبْزِ نُعاسِكِ؟/ أَأُقامِرُ على/ نَ غْ مَ ةٍ/ مِنْ ماءِ هَذَيانِكِ؟/ أَتُبَعْثِريني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ/ مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟

المُنتصِرونَ على الإنسانيّةِ المُعذّبةِ: وتتساءَلُ الشّاعرةُ مُخاطِبةً طُغاةَ العالَمِ، والّذينَ يَستوْلونَ على ثرواتِ الشّعوبِ المَغلوبةِ على أمْرِها: أيُرضيني فتاتُ مائدتِكَ المَجبولةِ بعرَقِ إهانتي واستهتارِكَ، وماكينةُ إعلامِكَ المُزيّفةُ أيّها المُتغطرسُ بقوّتِكَ؟ فكلامُكَ غيرُ أفعالِكَ.

“أأقامِرُ على نغمَةٍ مِنْ مَاءِ هذَيانِكِ”، وَ “أَتُبَعْثِرينَني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ/ مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟”: كنايةً في كلٍّ، عن رفْضِ الشّاعرةِ تصديقَ ادّعاءاتِ طغاةِ العالَمِ بتَشدُّقِهم بالسّلام. والاستفهامُ يُفيدُ النّفيَ والاستنكارَ.

مَعْصِيَتي النَّقِيَّة!/ مَذاقُ الدَّهْشَةِ كافِرٌ/ يُعَرْبِدُ فارِعًا بِكِ/ فارِغًا إِلّا مِنْكِ/ يُعاكِسُ خُطى صَمْتِكِ/ في مَرايا غُموضِكِ.

مُشكلةُ المُعذَّبينَ في الأرضِ، أنّ أقوالَ ووعودَ طُغاةِ العالَمِ بمساعدَتِهم للضّعفاءِ تنطلي عليهِم ويُصدّقونَها، لنقاءِ نفوسِهِم، ولغةُ طغاةِ العالمِ تَحتمِلُ المعنى وضِدّهُ، هي المُراوَغةُ بعيْنِها.

وكلمتا: “فارِعًا” وَ “فارِغًا”، فيهِما جناسٌ غيرُ تامٍّ، يُولّدُ إيقاعًا”، وهُما مِن صيغةٍ واحدةٍ؛ “اسمُ فاعل” وعلى وزنٍ واحدٍ، وكذلكَ التّقفيةُ في كلمَتَيْ: “صَمْتِكِ” وَ “غُموضِكِ”: انتهَتْ في كِلا الّلفظتَيْنِ بصوْتِ الكافِ، “إلّا أنّ هذا يجبُ أنْ لا يُوهِمَ بوصْفِ الإيقاعِ على أنّهُ مُجرّدُ وسيلةِ إطرابٍ، أو استجابةٍ لحاجةٍ نفسيّةٍ صرف، فهو “ذو قيمةٍ خاصّةٍ مِن حيثُ المعاني الّتي يُوحَى بها. وإذا كانَ الفنُّ تعبيرًا إيحائيًّا عن معانٍ تَفوقُ المعنى الظّاهرِ، فالإيقاعُ وسيلةٌ هامّةٌ مِن وسائلِ هذا التّعبيرِ، لأنّهُ لغةُ التّواترِ والانفعالِ”(11).

إنّ النّصَّ الشِّعريَّ ما هو إلّا “جملةً طويلةً مُركّبةً، والّذي يُميّزُها عن الكلامِ العاديّ هو كيفيّةُ تنظيمِ وحداتِها الّلغويّة”(12). هذا التّمييزُ يَتِمُّ بواسطةِ التّركيبِ، فلا “يَخفى على أحدٍ مِنَ المَعنِيّينَ بقضايا الشِّعرِ، أنّ روحَهُ الفنّيّةَ كامنةٌ في تَركيبِهِ الّلغويّ”(13).

أَيَّتُها الغابَةُ التَتْرَعينَ بِوَحْشِيَّةِ الجَمالِ/ إلامَ يَظَلُّ يَفْتَرِسُني ضِياؤُكِ الشّرِسُ؟/ إلامَ تَظَلُّ تُلَوِّنُني رائِحَةُ عَتْمَتِكِ الوَضّاءَةِ؟

الّلغةُ الشِّعريّةُ أحيانًا “لا تَستجيبُ– في كلِّ حينٍ– لمَعاييرِ القياسِ الّلغويّ، الموصوفِ في كُتبِ الّلغةِ والنّحوِ المَضبوطةِ والمَوزونةِ بالقواعدِ الصّرفيّةِ والنّحويّةِ المَعروفة، وتعملُ الّلغةُ ضمنَ الاستخدامِ الكَلاميِّ العاديّ، على تأكيدِ طبيعتِها المُنتظَمةِ، في حينٍ يَقومُ الاستخدامُ الشِّعريُ على كسْرِ ذلكَ الانتظامَ، فلا يُصبحُ لِلُّغةِ في النّصِّ الشّعريِّ أيّةَ علاقةٍ ثابتةٍ تَحفظُ وجودَها المُنتظَمَ، على الرّغمِ مِن أنّ النّصَّ الشِّعريَّ “في حالةِ تَشَكُّلِهِ، يَخضعُ لقوانينِ الّلغةِ العاديّةِ.. يُشكِّلُ في ذاتِهِ لغةً جديدةً، بقدْرِ ما يَخلقُ أشياءَ يُقيمُ بينَها علاقاتٍ معيَنةً”(15).

يا مَنْ/ عَلى/ عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ/ تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ/ يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي/ أَتَقولينَ:/ سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟

وخاتمةُ هذا المَقطعِ “سَلامي لَكَ مطَرًا!”، هو البُنيةُ الأساسيّةُ للنّصِّ،” والاستفهامُ في “أتَقولينَ” يُفيدُ التّعجُّبَ مِن بُعدِنا عن السّلامِ وتَحقيقِهِ، بيْدَ أنَّ النّصَّ الشِّعريَّ يُمكنُ أنْ يَصهَرَ في بوْتقتِهِ أكثرَ مِنْ تَقنِيّةٍ فنّيّةٍ تنتمي إلى أجناسٍ أدبيّةٍ أخرى، ومنها التّقنيّةُ السّرديّةُ عامّةً، أو أحَدُ أدواتِها الفنّيّةِ، وأعني بهِ الحوارَ حيثُ يُطوِّعُهُ الشّاعرُ، وحسبَ السِّياقِ الشِّعريِّ للنّصِّ- ويُفيدُ مِنْ إمكاناتِهِ وآليّاتِهِ، ويُوَجِّهُهُ الوجهةَ الّتي مِن شأنِها أنْ تنعكسَ على معمارِ القصيدةِ، وتَهَبَها القدرةَ على التّشويقِ والنّفاذِ إلى قلبِ المُتلقّي وفِكرهِ.

وعندَ شاعرتِنا، فإنّ “الشِّعرَ الحقيقيَّ ما كانَ نتيجةً لِتَجربةٍ شعوريَّةٍ صادِقةٍ، مُنبثقةٍ عن تَوَتُّرٍ نفسيٍّ مُتَأجِّجٍ، تُحرِّكُهُ خلجاتُ النّفسِ وانفعالُها بِمَشهدٍ معُيّنٍ، ولَعَلَّ هذا التَّوَتُّرَ النّفسيَّ أضحى في زمانِنا أكثرَ وهجًا، وأعظمَ تأجُّجًا، فالشّاعرُ الرِّساليُّ المُعاصِرُ، يُؤلِمُهُ ما يرى عليهِ مُجتمعُهُ مِن سُلُوكاتٍ وأخلاقٍ، تَتَنَافَى معَ عقيدتِهِ ومبادئِهِ، فتراهُ غيرَ راضٍ ولا مُطمئنٍّ، تَحُزُّ في نفسِهِ هذهِ المَشاهدُ المُؤْلِمةُ، وتُؤْرّقُهُ هذهِ المَظاهرُ السَّقيمةُ، حتّى “أصبحَ فريسةَ ضغوطٍ هائلةٍ لا تُطَاقُ، تَنْصَبُّ عليهِ مِن كُلِّ مكانٍ”[16].

سَلامُكِ!/ تَصْدَحُ بِهِ حورِيّاتُ النُّجومِ/ في سُهولِ لَيْلي/ لِتَحْتَفِيَ بِأَعْراسِ حُزْني/ سَلامُكِ!/ يَبُثُّ احْتِراقَ عُيوني/ بِعُذوبَةٍ مُتَوَحِّشَةٍ/ بِلُغَةٍ خُرافِيَّةٍ/ تُضيئينَ تَثاؤُبَ وَهْمي/ بِنورِ غُيومِكِ/ يُثَرْثِرُ قُزَحُ نَبْضي/ وَبِفِرْشايَةِ أنْغامِكِ أَذوبُ موسيقا/ تَتَلَوَّنُ في مَفاتيحِ البَوْحِ.

وتبدأ الشّاعرةُ هذا المَقطعَ والمَقطعَ الّذي سبَقَهُ بقوْلِها: “سلامُكِ”، وهو مُنادى يُفيدُ التّعجُّبَ، وحرْفُ النّداءِ محذوفٌ، وتُبيِّنُ الشّاعرةُ مُتعجِّبةً، مِن أنَّ السّلامَ الّذي يُنادي بهِ طغاةُ العالَمِ، والّذي تَصدَحُ بهِ حوريّاتُ النّجومِ ما هو إلّا وهْمٌ وخِداعٌ يَختفي في سهولِ ليلِ الشّاعرةِ، ويَبُثُّ الحُرقةَ بوحشيّةٍ في عينيْها، والتّكرارُ جاءَ لتوليدِ الإيقاعِ، ولتأكيدِ معنًى يُفيدُ مُراوَغةَ طغاةِ العالمِ في إحلالِهم للسّلام، ومَقاطعُ القصيدةِ حافلةٌ بالصُّوَرِ الفنّيّةِ، والاستعاراتِ، والكناياتِ، والمَجازِ، وهو يَندرجُ كلُّهُ في مَصبِّ التّحوّلِ، والانزياحِ، وخلْقِ حالةٍ جَماليّةٍ في النّصّ: فللنُّجومِ حوريّاتٌ تصْدَحُ كما للبحرِ، وفي العذوبةِ تَوحُّشٌ، وللخرافةِ لغةٌ، وللغيومِ نورٌ، وللأنغامِ فرشاةٌ، وللموسيقى مفاتيحُ تتلوّنُ.

تُمْطِرينَ سَلامَكِ/ فَيْضَ روحٍ/ عَلى/ روحي/ وَسَلامي ظامِئٌ/ يَرْتَشِفُ طَلَّ فَجْرِكِ/ يَتَرَدَّدُ صَدى مَلَكوتِكِ/ وَلَهًا.. حَنانًا../ وتخشعُ سَمائي مَزْهُوَّةً/ بِتَسابيح نَوافيرِ أنْفاسِكِ: والشّاعرةُ توّاقةٌ للسّلامِ، تُريدُهُ مطرًا وخيرًا يُشفي غليلَ روحِها، واستخدَمتْ أفعالَ المضارعةِ في هذا المَقطع، لبَثِّ الحيويّةِ، والنّشاطِ، وخلْقِ حالةٍ مِنَ الاستمراريّةِ. “فالشِّعرُ” لغةُ النّفسِ بكلِّ ما في النّفسِ مِن تَوتُّرٍ وانفعالٍ، في حينٍ أنّ لغةَ النّثرِ أقربُ إلى برودِ العقل”.(17).

وإنّ الشِّعرَ على حدِّ تعبيرِ – بول فاليري – (لغةٌ داخلَ لغةٍ)(18). ولقدْ أجادتْ شاعرتُنا في نصِّها هذا، مُلِحَّةً على طلبِ السّلمِ والسّلامِ ومُنادِيَةً بهِ، فهيَ مؤمنةٌ بما جاءتْ بهِ الدّياناتُ السّماويّةُ الّتي جاءتْ مِنْ أجلِ خيْرِ البّشريّةِ وأمْنِها وسلامتِها، “فلفْظُ السّلام” في القرآنِ الكريمِ: ورَدَ في أربعٍ وأربعينَ آيةً.

قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمِ}.

وإنجيلُ المسيحِ هو رسالةُ سَلامٍ مِنَ اللهِ للإنسانِ. (لوقا 2: 14)، فهوُ “الكلمةُ الّتي أرسَلَها.. يُبشِّرُ بالسّلامِ بيسوعَ المَسيحِ. هذا هو ربُّ الكُلِّ” (أع 10: 36). وقد صارَ “لنا سلامٌ معَ اللهِ بربِّنا يسوعَ المَسيح”. (رو 5: 1). ومَن يُنادونَ بالإنجيلِ إنّما يُبَشِّرونَ بالسّلامِ وبالخيراتِ (رو 10: 15).

وشاعرتُنا آمال عوّاد رضوان إنسانيّةٌ في فِكرِها وطرْحِها، فهيَ تَنطلِقُ في إبداعِها مِنْ منظورٍ إنسانيٍّ رحْبٍ، مَنبعُهُ قِيمُها العليا، ومِن مبادئِها المُثلى، ومِن منظومتِها الأخلاقيّةِ السّاميةِ، المُتمثّلةِ في الحقِّ، والخيْرِ، والجَمالِ، والعدالةِ، والحُرّيّةِ، مُنَفِّرَةً مِنَ القهرِ والظّلمِ الّذي اكتوَتْ بهِما روحُها، مُعبِّرةً عن أحاسيسِها برموزٍ فنّيّةٍ وإبداعاتٍ شِعريّةٍ. فهي لا تُريدُ السّلامَ فقط لنفسِها، ولا لعشيرتِها، ولا لوطنِها فقط، بل تريدُهُ للعالمِ أجمع بغضِّ النّظرِ عن العِرْقِ، أو الجنسِ، أو الدّين، أو الّلونِ، وهذا شِعرٌ إنسانيٌّ خالدٌ جديرٌ بالبقاء.

_____________________________

الهوامش:  

  1. جريدة السفير 9/6/2006، أحمد يزن.

2.المصدر نفسه، السفير 9/6/2006 محمّد بنّيس

  1. سوزان برنار: ( جماليّة قصيدة النّثر، قصيدة النّثر من بودلير إلى أيّامنا)، ترجمة د. زهير مجيد مغامس، مطبعة الفنون، بغداد، ص 16.‏
  2. قصيدةُ النّثرِ المفهوم والجَماليّات- مقال دكتور مصطفى عطيّة جمعة،

http://dvd4arab.maktoob.com/f20/1504189.html

  1. انظر: رشيد يحياوي: قصيدة النثر ومغالطات التعريف، علامات، م8، حـ32، أيّار 1999، ص56.
  2. ديوان سلامي لك مطرا، آمال عوّاد رضوان، من ص 35 – ص 41، دار الزاهرة للنشر والتوزيع، المركز الثقافي الفلسطينيّ- بيت الشّعر، رام الله – فلسطين 2007.
  3. المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس ورفاقه، ص471، ط2، القاهرة

وانظر مختار الصحاح، الرازي311، دار الفكر العربي، بيروت 1973

  1. حديث الثلاثاء: أحمد عبد المعطي حجازي (ج2) دار المريخ للنشر والتوزيع دار الرياض 1988.
  2. ينظر: الّلغة المعياريّة والّلغة الشّعريّة/ يان موكاروفسكي، ترجمة: ألفت كمال الروبي، فصول، ع1، مج5، ص 45، 1984 .
  3. نظرية اللغة في النقد الأدبي /عبد الحكيم راضي: 28، مكتبة الخانجي، مصر، د.ت.
  4. روز غريب، تمهيد في النقد الأدبيّ: 110، دار المكشوف، ط1، 1871، بيروت.
  5. أثر الّلسانيّات في النّقدِ الأدبيّ/ توفيق الزيدي: 73.
  6. الضرورة الشّعريّة: 17 ومفهوم الانزياح/ أحمد محمّد ويس، ص، التراث العربيّ، ع68، 1997.
  7. الّلغةُ الشّعريّة، دراسة في شعر حميد سعيد/ محمّد كتوني: 25 .
  8. صحيفة 26 سبتمبر، ص6، الاثنين 11/3/2013
  9. الضرورة الشعريّة ومفهوم الانزياح/ أحمد محمّد ويس، التراث العربيّ، ع68، 1997: ص117
  10. بنية الّلغة الشّعريّة، جان كوهن ص، 129 ترجمة: محمّد الوالي ومحمّد العمري، دار توبقال للنشر، ط1، 1986م .

مقالات ذات علاقة

هل النساء يملكن حرية الاختيار؟

المشرف العام

الحلم في “مرافئ الغيم”

زياد جيوسي (فلسطين)

عن الأبنودي والفيتوري.. وقسوةِ نيسانَ

المشرف العام

اترك تعليق