1
الغرفة كالعادة لا تدخلها الشمس إلا ما ندر، تحكي جدرانها عن حياة رتيبة دونما غاية، ألزمن فيها باردٌ ثقيلٌ ويمرّ في عجلٍ إلى الفناء، زمنٌ ميت الأحساس كنجمة غارقة في الضباب، نجمةٌ في عُرف السماء الطليق تحبّ أنْ تعاتب الصباح النّدي والغمام المهدور وبساتين الصباح.. جالس في الغرفة لا هو راضٍ ولا ساخطٌ ؛ في عينيه كما في رأسة أسئلة كثيرة لا حصر لها عن مجرى القدر وبؤس العيش. وكما أعتاد أنْ يبدد العمر في لحظات بلهاء تشبه الجنون طال سفرها من غير قدوم ومن غير رجوع ظلّ يجابه المحن الهوجاء..
2
بين اللحظة واللحظة له حديث مع الورق، كل ما تبقى له في الدنيا من متاعٍ وما تبقى من كٌتب قديمة هي أغلى شيء يمكن للمرء أنْ يقتني، في عالم العبث الضائع الغرفة مازالت تعج بخواطر من ايامه الخرساء وجيوش الغبار، يلبس نظارة ذات طوق بني، بلغ من العمر عتيا، ظهره قليل الأنحناء، رأسه لم يعد طرياً لتقبل الجديد، يعيش في دوامة مراقبة قطار الزمان المترع بالسخف، يخشى من الغرق في صفاحته المدهوشة للغاية، لا يتحدى الخرافة ولا يثوب إلى رشده.. في هذه الغرفة يجلس دون أنْ يكف لحظة عن هزّ رأسه، يتحدى زمن الرتابة والملل، يراجع أوراقه الغارقة في النسيان، قلبه متعب من تكرار أيامه المُملة، حيران يأكله الشك والمصير المجهول، منهمك بالتفكير في اللاشيء.. حلّ بالغرفة ظلام كثيف ووحشة متدفقة، عرف أنّه سيمضي من العمر هذه اللحظة وحيداً في هذه الغرفة، مضى جالساً لا يتحرك، لم يكن يتخيل ذلك، زمنٌ يُمضيه في العزلة في حضرة أشباحٍ خرساء، تظاهر بأنّه لم يفكرفي ذلك، بينما ريح خفيفة اخذت تنقر شباك غرفته بانتظام.
3
في السماء سحائب شاردة ونجمة من دون احساس تبحث عن الضوء الضرير في مغارة دُجى ليلٍ جهول في كونٍ فاني أو كون خيالي.. الغرفة ضيقة ولا يبالي، أجل لا يبالي، أعتاد على ذلك كل لحظة، لايبالي لحظة بلحظة حتى عاد كزاوية مظلمة في غرفة تناجي أيامه الخالية، لا يرى أية جدوى في أيّ لحظة تمرّ على جسر السخافة، يتطلع إلى ز حف العجائب لا يرى إلا العجائب، يناجي شرفات الخيال، يخاطب شيخوخته فيرى نهارها مثل ليلها، يتناهى إلى مسمعه عويل الريح وهي تسري كرنّة الناي في القفار.. أدهشه ايقاع الريح وهي تهزّ شباك الغرفة ملتحية بالغمام والتشرد، تنفس بعمق، حدّق في صورة معلقة على حائط الغرفة فرأى البحر والموج المتدفق برذاذه مُغطياً الصخور والأخاديد المبللة بحبات المطر.. أعتدل في جلسته ثمّ وقف وحدق مرة أخرى في البحر وغاص في موجه الساحر.
4
الغرفة في مسكنه في بيث صغيرفي مدينة يقطنها من فترة طويلة، غرفة اختلطت فيها الوقائع بالوهم والخيال، نعم، وقائع مرّت كلمح البصر، مرت كالتاريخ الأسطوري وهو يتلاشى في الهواء هباءً، ولا يترك أثراً.. المدينة كبقية المدن التي في الغربة لا يعرفها ولا ينتمي إليها ولا تكتسب أية اهمية له وليس لها معنى سوى أنّه يعيش فيها.. هذا يوم آخر يمرّ من دون هدفٍ في هذه الحياة المندفعة بسرعة الومض، يوم آخر يمرّ ولا يحس به رغم تقدمه في السن، سليب الأرادة، ساهياً إلى درجة الغفلة، لا يفهم معنى وجوده في الحياة، لماذا يجد فيها سنوات من المصاعب اكثر من سنوات الرخاء ؟ سؤال آخر يفزّ داخل رأسه : أهو مقيم في كهف عزلته ؟ يمضي اليوم كالامس بنفس الأيقاع الممل الرتيب، اليوم صار لديه مجرد محطة ينتقل من واحدة إلى أخرى.. الريح مشغولة تهزّ الشباك بحماسة.. يشرشف القهوة في تمهل تحت سقف الغرفة البارد.. أوغلت الغرفة في صمتٍ دون أيّ حديث، حدق في الورق، أخذ ورقة، سحب قلماً، الغرفة صارت مسكونة بالهدوء الجاف، أحاطته لحظة تذكّر فيها أنّ مصاعب السنين تمضي وتنقضي وتصبح ذكرى من ذكريات الماضي، ذكريات تلاشت، ليست إلا كسراب القفار.
5
السماء هابطة على الغرفة عابثة بالريح، دخل في نوبة من الصمت العميق، بدا يهجس بهاجس من القلق، تبسم بأسى، كان يفكر أن يكتب خاطرة عن مدينته ” الزاهرة ” التي خبأها في القلب طول العمر، هرب للحظة قلبه إلى الفرح، هرب الفرح، صار داخله منهك ومكسور، لا سمع ولا بصر، فجأة تذكّر الطوفان البغيض عندما في خلسةٍ من ثوانٍ اجتاحها منهمراً في جنون فأفسد الرّوض والنّوار، لم يرإلا رماد الايام وطين الأرض، وغمامة مترعة بالحسرة، أحس أنّ جدار الغرفة تأكله الرطوبة، ألتفت حوله، لم يجد الورقة ولا القلم، الغرفة بأثاثها العتيق بدت له كسحب من الدخان، دخل في صمت عميق مرة أخرى، رأى لأول مرة بيته فارغ وبارد ومُتعب، كانت الأسئلة تتداعى بصوتها العالي بين عقله وقلبه، ماجدوى السؤال من غير جواب، انتابه خاطر أنْ يضحك مع نفسه، أدار بصره في أرجاء الغرفة المكسوة بالهدوء والهواء البارد، ضحك ليكسر وحدته، لكن كلّ ماحدث الآن ظلّ يجتره الصمت العنيد، لم يضحك طويلاً، انتبه إلى صوت الريح، سأل نفسه سؤالاً غريباً : هل يمضي العمر وننسى فيه كلّ شيْ أم نظلّ نحس مرارة الذاكرة؟
6
الليل، أقبل الليل الوجيع مسرعا، أقبل قاطعاً صحراءَ تيهٍ، قال لنفسه محدقاً في صورة البحر المعلقة على جدار الغرفة بأنّ البحر يوحي بالغوص في امواجه الفاتنة، حينها تذكر أنّه يهرب من زمانه إلى أيّ زمان مفتوح كالبحر في كفه بريق الحقول، الليل وحده صار يصغي إلى عويل الريحً قبل المساء وبعد المساء، قضى ما تبقى من الليل في الفراغ الهش، انتظر الطوفان الغدار يبكي مطراً أزرقاً على مزارع الليمون.. يسمع من جديد عويل الرياح وطنينها، قلّب النظر في الغرفة وظلّ يحلم بهدير البحر ومدينة لا يغزوها الفيضان، أفاق من الحلم.. ظلّ في الغرفة يسمع هدير الريح في ليل زمانه مسافرأً لا يقف عند حدود ساعات السّحر ولا عند أحلام النجوم البعيدة، فجأة أيقن أنّه لم يتقدم سوى خطوة واحدة إلى الأمام فلم يتفوه بأي كلام بعدها.