محمد نجيب عبدالكافي
رحلاتي عبر ليبيا
سافر تجد بدلا عمّن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النّصب
– السفر مدرسة
نصيحتان يجود بهما علينا الإمام الشافعي ولعمري فيهما ما فيهما من الفائدة والفوز. أعتقد أن الأولى لا يختلف اثنان في قبولها والعمل بها. أما الثانية، وهي النّصب أي التّعب، فكثيرون لا يرون فيها لذة العيش كما قال الإمام رضي الله عنه، إما لكسل أو عدم الحاجة وكثرة ما باليد. ليعتنق كلّ فرد الرّأي الذي شاء، أما أنا، محبّر هذه الأسطر، فإني أؤمن بالنصيحتين وعملت بهما منذ بلغت سنّ المراهقة. نعم، عملت وتعبت وسافرت وتجوّلت، في بلادي أوّلا، ثم في بلاد الله فتعلّمت. أوّل درس لقننيه التّرحال هو ما قمت به عفوا وبحكم الظروف، أعني معرفة مختلف أركان الوطن قبل زيارة بلاد الآخرين، لأنّ البداية بمعرفة ما عندك وما هو لك تمكّنك، عند الاطلاع على ما هو لغيرك، من صحيح المقارنة، وعادل الحكم، وظاهرالمعرفة وعدم جهل ما تُنسب إليه ويُنسب إليك، فتستطيع الافتخار أو الوصف أو نفي الكذب أو تصحيح الخطأ. بعد هذا فالترحال دروس ومعارف وثقافات وتواريخ لا تحويها كتب لأنّ ملقنيها هما الطبيعة والإنسان، بما في الأولى من جمال وما للثاني من حرارة وتأثير.
– الجبل الغربي
عندما قادتني الأقدار والظروف وساقيّ فنزلت ليبيا، كثر عبرها ترحالي بالضرورة والاختيار. أوّل ما زرت بلدة نالوت – كما ذكرت في حديث سابق – فلم تخل الزيارة، رغم قصرها والظلمة، من لمس صدق مشاعر بعض أهلها. كان ذلك قبل هجرتي وإقامتي الطويلة التي بدأت هي الأخرى بمنطقة الجبل الغربي. لماذا؟ لأنّ قريبي ابن العمّ – ابن الخال حسب التعبير الليبي لأن الصلة من ناحية الأم – عمّي أبوبكر الزليطني الذي كان يومئذ كبير متصرّفي المنطقة، استضافني فبقيت أسبوعا بغريان الثرية بشريا وإنسانيّا، وانتقلت فزرت وعرفت المنطقة بأكملها، عن قرب، وبفضل دراية مرافقيَّ مختلفي الوظيفة والمسؤولية. أوّل ما شدّ انتباهي هو غياب الشرطة – قد يكون ذلك بالمقارنة لما تركت ورائي بتونس -فسألت سيدي بوبكر عن ذلك فضحك وقال: كيف يمكن تسيير إقليم بلا مصلحة أمن ورجالها؟ لكننا لسنا بحاجة لاستعراض عضلات، ولا نشر خوف، فالمنطقة كما ترى آمنة مطمئنة، واستغلَّ المناسبة فعرّفني بالمسؤول عن الأمن والشرطة السيد خيري العرادي، متعه الله بالصحة، فعرفت مثال رجل الأمن في بلد حرّ مستقل، علاوة على ما تحلّى به خيري من مشاعر وطنية، برهن عليها بمواقف وأعمال مساعدة، بعضها تحذيري وبعضها عملي، لنشاطنا كتونسيين ثمّ مع الإخوة الجزائريين.
– مدن الجبل
عرفت إذن المنطقة بلدة بلدة: يفرن التي مدحها الشاعر محمد ساسي قرادة بقصيدة شعبية بليغة مطلعها، ”يفرن عروس الكاف يازايرها … يسرك هواها ويعجبك منظرها” وزرت جادو، نالوت، كاباو، الزنتان، وغيرها، وتمتعت بمشاهدة آثار شامخة لا يعرفها غير أهلها ويا للأسف. فمن يعرف قصر الجبل وقصرإيران بيفرن أو الشقارنة أو قرية أباناين أو تصرار قرب كاباو، أو بثغيت قرب نالوت مثلا؟ أنا عرفتها وغيرها، لأن الرحلة أو هي الزيارة، كانت أثرى من ألف درس. أوّل ما عرفته هو الفسيفساء الإثنية البشرية المكوّنة – لما نسميه الشعب الليبي – بأصولها وميزاتها واختلاف عاداتها وتقاليدها، وعيشها في انسجام وتلاحم وهناء. تعرفت، في تلك الزيارة وحدها، على رجال اتصفوا بكل ما في الرجولة من محاسن، أصبحوا بعد ذلك أصدقاء أذكر منهم – مثالا لا حصرا – الشيخ العارف مانا قاضي المنطقة، إنسان طيّب أكثر من الطيبة، المربّي عبد الله بورخيص، منصور ونجم الدين كعبار، الأستاذ منير برشان، سالم شلبك وقد ذكرته سلفا، وبوراس من جادو وغير هؤلاء كثير، عرفتهم من بعد، مثل محمد بورخيص وجمعة ابراهيم منصور، والقائمة طويلة، تزخر بهم المنطقة مقدّمين ما يستطيعون إداريا أو اقتصاديا أو اجتماعيا فبهم وبأمثالهم نهضت ليبيا التي عرفت وفيها تجولت.
بالذاكرة المزيد، فلي عودة إن طال العمر.
____________________________________
* الصورة قصر نالوت وغرفه الاثرية.