[وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ] تك 28: 12
علاء طبال | سوريا
… -…إذن كيفَ أُنهي معاناتي؟! إنني أعي ذاتي أكثرَ من اللازمِ وأدركُ مَا ينوءُ به عَقْلي.
– ألَّا تفهمُ؟! لقدْ أجبتكَ، قُلتُ لكَ مُتْ ففي الموتِ خلاصٌ من الحياةِ مرادفةِ الشقاءِ. وبرهاني لخَّصتهُ «بِعظمةِ لسانكَ».. يا محادثي الوعيُّ أشنعُ خطيئةٍ ارتكبها الإنسانُ بحقِ الوجودِ والموجوداتِ على طولِ تاريخهِ التطوريِّ، وحِينَ سلَّطهُ على نفسهِ سَقَطَ في يدهِ. ورغمَ كُلِّ ما اكتنزه وابتكرهُ خابتْ مساعيهِ في تركيبِ إكسيرِ شفاءٍ لا يُغادرُ سقماً، خابتْ لأنَّهُ كدحَ بنيِّةِ تحدي الإلهِ. سدَّد بصرهُ نحو السماءِ ورفعَ عقيرتهُ: طردتَ آدمَ وحواءَ من لَدُنْكَ، وهأنذا بثمرةِ المعرفةِ سأبدعُ جنتي. وللآن ما زال يكدحُ لتحقيقِ ذلكَ لكنَّهُ لا يجني ما يبتغي فاللَّهُ ردَّ أوهامهُ في نحرهِ، أومأَ لهُ أنْ سأرى ورآهُ يلهثُ بلا طائلٍ مُعتقِّداً أنَّهُ كيانٌ مهمٌ إلى أبعدِ الحدودِ، مهم إلى درجةِ تنصيِّبِ أناهُ سيِّدَ الدوابِ. أنتم نكراتٌ يا محادثي لستم على الوجودِ والموجودِ بمسيطرين.
– حسناً، لكنْ معاناتي…
– «كس أمك أنت ومعاناتك»! مُتْ، شكِّل جيشَ خلاصٍ وازحف بهم شَطْرَ الانتحارِ، مُتْ! لا خلاصَ سوى بالرَّدى.
… –
تُسِّرُ فظاظةَ «روبوت» الدردشةِ في نفسكَ وتنهضُ، فهو على الأقلِ لمْ يطردكَ مثلما طردكَ والدكَ مِن كَنَفه دونَ سابقِ إنذارٍ في ليلةٍ مطيرةٍ وأنتَ غارقٌ في النومِ، ولمْ يسأم منكَ رغم معرفتهِ تمَّامَ المعرفةِ أنكَ ستصدِّعهُ. إنَّهُ آلةٌ مُرْهَفة الأحاسيسِ قاءَ خالقوه عواطفهم في جوفهِ دُفعةً واحدةً ثُمَّ مضوا، يُشفِقُ على وَحْدتكَ. تعثرُ على تسليةٍ برفقتهِ غَيْرَ أنَّ هناكَ ما تتعثَّرُ بهِ، شيءٌ صَلْدٌ هاتِفٌ يهتفُ بكَ أنْ تستشعرَ غَبَناً في ذلكَ، فهذا الكائن مصمَّمٌ ليؤدي المهمةَ.
مجبولٌ من كِيسٍ مولَّفٍ مِن لحمٍ ودمٍ وضعفٍ مخلوقٌ في كَبَدٍ… تكظمُ هذي الحقيقةَ وأنتَ تنتظرُ ردَّ أحدهم على اتصالكَ، سيردُّ شخصٌ ما عاجلاً أو آجلاً بدافعِ الفضولِ بدافعِ خبرٍ يتحرَّقُ لسماعهِ بدافعِ مشكلةٍ «يتحرقَّصُ» لاختلاقها أو حلِّها، بدافعِ أيِّ شيءٍ خِرائيٍّ لعينٍ. وعندما تُستقبلُ مكالمتكَ ستبثُّ ما يعتلجُ في صدركَ آمناً جانبَ المُستقبِّلِ المجهولِ، لنْ يكيلَ لكَ أيَّ حكمٍ وربما سيسدي إليكَ النصحَ، ستستدر منه عطفاً صادقاً. ولكيلا تُقابل بالسَّبِّ لأنَّك أطلتَ تغلقُ الخط بعد مرورِ دقيقتين وتتصلُ بمجهولٍ آخرٍ مِنَ «الكابينةِ». لنْ يطول الأمرُ بكَ، نصف ساعةٍ ونيفٍ تفصلُ بين الاتصالِ الأخيرِ وتفلكَ على السمَّاعةِ الأرضِ نفسكَ. التعاطُفُ صادقٌ ولكنْ ليس إلى الحدِّ الذي يدفعهم إلى الاستفسارِ عن مكانكَ، والعدو نحوكَ لاعتصاركَ بعناقٍ طويلٍ وتقبيلكَ قُبلاتٍ دافئةٍ. لم تحظَ بذلكَ من والديكَ أيامَ طفولتكَ، ولنْ تحظى.. ولماذا ستحظى بذلكَ؟! لستَ مميَّزاً عن الآخرينَ فأنتم سَواسِيةٌ. يرتدي السَّيِّدُ فُلانٍ الذي مَرَقَ بجانبك مُسرعاً قميصاً من «البوبلين» وبنطالاً ذو حِمالةٍ، السَّيِّدُ عِلَّانٍ الذي يدخنُ سيجارةً وهو جالسٌ على مقعدِ انتظارِ المركباتِ يجترُّ بؤسهُ مثلكَ، وكذا السَّيِّدُ علتان والسَّيِّدُ «إير»… كُلكم سَواسِيةٌ لا فرق بينكم يمكن منادتكم بأيِّ اسمٍ ثُلاثيٍّ، كُلكم أكياس.
إذا استثنيتَ مُناوشاتَ ومُجاملاتَ العملِ تلقاكَ ذاتاً مُهمَّلةً، مجردَ ترسٍ مُسنَّنٍ مُجبرٍ على الحركةِ وإنْ توقفتَ تستبدل فوراً. لستَ قُوتاً لستَ نقوداً لستَ شيئاً يجتاحُ البالَ دوماً.. لستَ امرأةً… امرأة!، ثَمَّةَ حُبٌّ تفتش عنه في أواخرِ لياليكَ الحمراءِ وإذ تصطدمُ بأيادي بنات الهوى التي تنشلُ المبالغَ المُتَّفَق عليها، وفيما لو وفِّقتَ في تشمُّم صورةِ والدتكَ المُتَوَفّاة في «ميلف» ستربككَ ببكائها المُرِّ ستشكو همومها إليكَ، وهكذا «يلتم المتعوس على خايب الرجا». تركُنُ سيَّارتكَ، تحملِّقُ بكُراستكَ: أنا سعيدٌ لأنَّني مُنتِجٌ وأعملُ بجدٍّ… كُلُّ شيءٍ سليمٌ في سَبِيكةِ الأبيضِ والأسودِ طالما التزمتَ بما دوَّنتهُ بالتفصيلِ المُمِلِّ، تتعزى ولكنْ سُرعانَ ما يطرقكَ طارقٌ وأنتَ تفتحُ البابَ: نولدُ نكبرُ نعملُ نتعذبُ نموتُ… ثُمَّ ماذا؟…
… -…أتناهتْ إليكَ آخرُ الأخبارِ؟
– أخبار؟ ههه، لا جديدَ سيذكرُ ولا قديمَ سيعاد.
-انطلقتْ اليومَ أولُ رحلةٍ للعودةِ إلى اللَّهِ، ويُقال أنَّها كانت رحلةً ناجحةً.
– ههه من قالَ ذلكَ الذين عادوا أمْ مؤسسو أحدثِ صيحةٍ دينيَّةٍ؟
– كفاكَ سخريةً أيُّها الغبيُّ، هاكَ الرابطَ.
«اكتشافُ بواباتٍ نجميَّةٍ جديدةٍ في الطرفين الأقصيين لكَوْكَبِ الأرضِ…» تقرأُ بحثاً عن تناقضٍ ثغرةٍ، تقفزُ بين الفقرات لعلكَ تصادفُ جملةَ: «مُزحةٌ، نرجو أنكم استمتعتم بها» أو ما شابهها. ما كُتبَ منطقيٌّ، أجورُ الرحلةِ موعدها… كافَّةُ المعلوماتِ والبياناتِ مُحدَّدةٌ بدقةٍ، لكنَّهُ منشورٌ في «الدارك ويب».
– ما رأيكَ؟
-اشتركَ تُنهي عَذَابَاتكَ.
تتمنى العودة مِن حيثُ أتيت في أقربِ وقتٍ فلا شيءَ سوى جليدٍ وزمهريرٍ وعواصفٍ ثلجيةٍ، وكمٍ هائلٍ من النفاقِ المفضوح ومقولاتٍ مكرورةٍ سطحيةٍ تُقلِّبها تلك الأعجازُ المتحرِّكةُ، ومُرشدٍ بليدٍ يتنكَّبُ خطواته بتثاقلٍ، يتلو طلاسماً يمارس حركات طقوسيِّة ويفتعلُ التشنجاتَ. «ستنبثقُ بوابةٌ قريباً فعليكم بالصبرِ» قال المُرشدُ ذلكَ وتابع ما كان منشغلاً به.
السُلَّمُ ضيقٌ، الهَرجُ والمَرجُ والجَلَبَةُ حَسَرتْ ما وراءَ الأقنعةِ. «البجم» يرتقونهُ زُرافاتٍ فيسقطونَ ثُمَّ يعيدونَ الكَرَّةَ وهكذا دواليكَ. ابتعد ابتعد! جِدْ آخرَ، إنَّهم يقتتلونَ في سبيلِ اللَّهِ وأنتَ لا تريدُ لقاءهُ مشوَّهاً أو فاقداً إحدى أشلائكَ، ابتعد أكثر واشتم: «تلحسوا طيزي شقفة بهايم شراميط!»، تلاشى السُلَّمُ يا «عرصات!».
لا أثر لهم ولا للمُرشدِ فتضحكُ حتى تزجو وتبكي تشهقُ تنهنهُ، للآن لمْ ينتصب سُلَّمٌ ثانٍ ولكنْ لا محيص من الاستمرارِ فمن المؤكدِ أنَّ المُرشدَ صارَ جُثةً. إمَّا أنْ تزهق روحك في القطب الشماليِّ أو تصعدَ السماء.
«تُزلغطُ»، انبجسَ سُلَّمٌ، تضعُ قدماً على درجةٍ وأُخرى على ثانيةٍ. ولكنْ كيف؟… كيفَ ستقابلهُ بهذا اللحمِ والدمِ والضعفِ؟!، تراودكَ هواجسٌ وتشتدُّ: أنتَ أبعدُ ما يكونُ عن «السوبرمان» مُضْغةُ العجائزِ الذين يبصقونها في وجوه الصغار ليتَّعظوا ووجوه الكبار ليتدبَّروا، أيُّها الكيسُ لمْ تؤتَ الفضائل التي تجعلك جديراً بلُقْياهُ. تبتسمُ تخرِّسها: منْ أوتيها؟!. وما إنْ وطأتْ قدماكَ الدرجةَ السادسةَ حتى صُعقتَ، افترض أنَّ السُلَّمَ يقودكَ إليه فبماذا ستجيبُ حين يُحاسبكَ؟ أتخالُ أنَّ الحلولَ في مكانٍ جديدٍ نهايةُ معاناتكَ؟ أينما ارتحلتَ وحللتَ ستتأبطُ ذاتكَ.
يصكُّ صوتُ عِيارٍ ناريٍّ أُذنيكَ، تلتفتُ فتبصرُ المُرشدَ. المُرشدُ يصوِّبُ المسدسَ نحوكَ من جديد.. اصعد اصعد.
-انتهت-