قصة

ولا تسأل عليّا

مروة آدم حسن

من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.
من أعمال التشكيلية الليبية مريم العباني.

استعارت خالتي كعادتها المسجل من جارتنا.. ووضعت شريطا للمطرب مجد القاسم.. ثم وضعت يدها على خدها وأخذت تراقب المارّة من نافذة المطبخ.. والشريط يدور على أغنيةٍ ليست لصاحبها..

“بتسأل ليه عليّا.. وتقول وحشاك عينيّا

من امتى انتَ انتَ حبيبي وداري باللي بيّا

يلّي بتسأل عليّا مالكشِ دعوة بيّا..”

فجأة رمى أحدهم حجرا على زجاج النافذة.. أخذت سلة القمامة وذهبت تركُضُ للشارع.. كانت دائما تأخذنا معها.. نذهب إلى الشارع الخلفي.. هُناك حيثُ تتجمع نفايات الحيّ.. هُناك حيثُ يلتقي العُشّاق!.. هُناك حيثُ كان الأحِبّة يتبادلون رسائل الشوقِ.. تلك التي يضوع منها العطر ويفيضُ منها ندى اللّهفة..

كانت خالتي تُحِبُّ مجد القاسم وجعلتنا نُحِبُّهُ معها.. كان المسكين يدور بكلمات العتاب والتهديد بلا طائل..

“وابعد عن خيالي

وابعد عن حياتي

لا تبعت سلام ولا تيجي ف منام

ولا تسأل عليّا مالكش دعوة بيّا…”

كانت خالتي تسمعه وتردّدُ كلامه من وراء قلبها.. لم يكن حبيبها يبعث السلام.. ولا أعتقد أنه كان في حاجةٍ لكي يزورها في منامها.. فلقد كان يأتيها كُلّ يومٍ على شكلِ عِطر.. عندما كانتِ الأزِقّة تفضحُ الرِّجال.. الرِّجال الذين يأتون في مواعيدهم وثيابهم تتقاطرُ عِطرا.. عندما كان للشوارع أصواتا تُشبِهُ الحنين.. وكان للبيوتِ أجنحةً تفرُدُها اللّهفة.. ونوافذ تطيرُ من الفرح.. كُنّا نطير.. نطيرُ ولا أحد يُقصقِصُ ريشنا..

أنا لم أفعل شيئا من ذلك.. سوى أنني كُنتُ أفتحُ الشبابيك في قلبي.. وأُطِلُّ من هُناك على قِصصِ العُشّاق.. أراقبهم كيف يكبّون عتابهم وأوجاعهم في مكبّ النفايات.. ويُمسِكُ كُلّ واحدٍ منهم يد الآخر.. يحدّثه عنِ الحُبّ دون أن يلفظ تلك الكلمة وكأنها إذا لُفِظت سينتهي هذا الحُبّ العظيم.. كُنتُ أرى الشمسَ وهي تُغرِبُ عن الحيّ وتُشرِقُ في عيونهم.. كان المكان ممتلئا بالدفء والعِطْر والحكايات.. في ذلك الوقت كانتِ الرسائلُ حماماتٍ.. والأحاديثُ تطيرُ من نافذةٍ إلى أخرى.. والأسرارُ تُرفرِفُ من شُرفةٍ إلى جارتِها.. كانتِ الشوارعُ ترقُصُ للظِّلال.. وكانتِ الظِّلالُ كالقناديل تُضيء الأزِقّة المُظلِمة.. كُنّا نمشي فيها بسلامٍ وسكينةٍ آمنين.. لأنّنا نعرِفُ أنّ فُلانا حبيبَ فُلانة هُناك ينتظِرُ أن تُطِلّ حبيبتهُ من شُرفتِها.. فَـ تتبدّد عُتمتهُ وعُتمتنا.. تتبدّدُ أشواقه وأوجاعه.. كما تُبدِّدُ بناتُ الحيّ القمامة كل ليلة على نبضِ مصابيح المحبّة..

كُنتُ أفتحُ الشبابيك وأُراقِبُ كُلّ هذا بقلبٍ دافئ.. رُبّما ستتأكد الآن أنني مهما أُقفِلت نافذةٌ في وجهي سأفتحُ أخرى.. لأنني امرأةٌ مجبولة على فتح النوافذ..

كما إنك تعرف الآن قصة خالتي وكيف كُنتُ أتبعُ خطواتها بفضول طفلة دون أن ألمسها.. ولن تصدقني أبدا إذا سمعتني أردد ما قالته فايزة أحمد..

“أيامك نسيتها ونسيتك كمان

رجع قلبي خالي

يا حكاية طويتها وكلام كان زمان

راح ويّا الليالي…

لا بينا كلام ولا بينا خصام

ولا تسأل عليا ما لكش دعوة بيا..

ح خاصم عينيّا لو قابلت عينيك

وقالت تشوفك.. تشوفك

واخاصم ايديّا لو شاورت عليك

أو شاورت لطيفك

لا عمري ح عاتبك ولا ح ارجع لحبك

ولا تسأل عليا.. مالكش دعوة بيا

بتسأل ليه ليه عليا…”

نحن الذين لم يكن بيننا كلام.. فمن أين سيأتينا الخصام؟!

هذه أغنية مُفخخةٌ يا عزيزي.. مُحتشِدة بالنوافذ.. هذه الأغنية مكبٌّ لنفايات العتاب واللوم والخصام.. هذه الأغنية تنهيدة عظيمة ألفُظُها.. ثم أعود لأقول لك..

أرجوك “اسأل عليّا…”.. إن لم تكن لك أنتَ “دعوة بيا”

فمن له إذا؟!.. أنا التي أقابل عينيك كل يوم.. لو كنتُ أخاصم عينيّ بعد كل لقاء بعينيك.. ونظرة لصورك.. لو كنتُ أخاصم عينيّ لكانت قد عميت..

ويديّ.. يديّ التي لا تجيد شيئا سوى الكتابة لك.. قُل لي كيف أخاصمها.. وأنا كُلّما خاصمتُها مكرتني.. نَزفَـتْني إليك.. فأكتُبُ لك قصص العاشقين جميعهم في مُحاولةٍ فاشلة لكي أكتُـبَني إليك..

أمّا بعد..

فأنا آسفة.. كُنتُ أُريدُ أن أجعل لنفسي مكبّ نفايات أرمي فيه أشواقي.. لهفتي إليك وأوجاعي.. لكن كما ترى هذه رسالة أخرى أرسلُها لك.. نافذةً إليك..

 أنا صانعة النوافذ.. محبّتي التي تعرف تتسرّب إليك مع الضوء.. تعرِفُكَ كما تعرِفُ الظّلالُ أصحابَـها.. وكما تعرفُ العُتمةُ قناديلَها.. تتسرّب إليك من تحت الأبواب المُغلقة.. كما تسرّب حنينُ فايزة أحمد وشوقها من نبرة صوتها وهي تقول..

“سيبني لليالي أسهرها لوحدي.. سيبني لذكرياتي..

وابعد عن خيالي.. يا أغلى ما عندي…”

لا أدري يا “فايزة” كيف سيبتعد أغلى ما عندك عن خيالك وهو يحتلُّهُ كُلُّه؟!.. إني أراك وأنتِ تُرددين هذه الأغنية وكُلّما رمى أحدهم حجرا على نافذتك ركضتِ مُسرِعةً إليه.. والأغنية تركُضُ خلفكِ..

“ولا تسأل عليّا.. مالكشِ دعوة بيّا”..

يونيو 2023

مقالات ذات علاقة

عالم الومضة القصصية

حسن أبوقباعة المجبري

نظارة جدي

فائزة محمد بالحمد

رؤية..

المشرف العام

اترك تعليق