خرجت “سليمة” من بيت والدها رفقة الأهازيج والأغنيات، وكان قلبها يكاد يطير من الفرح لأنها ستخرج من عالم بيت والدها إلى رحابة بيت الزوجية والزوج الذى سيهديها الحنان والحب
لم تأبه لمن أخبرها بأنها لن تكون ملكة بيتها لوحدها، لأن والدة زوجها ستشاركها البيت، ولكن ذلك لم يكن مصدر للخوف أو الاستغراب عندها فمعظم رفيقاتها، وقريباتها تزوجن في غرفة صغيرة من غرف بيوت أهل الزوج فذلك أمر ليس جديد أو غريب بمدينتها الصغيرة.
حين دخلت “سليمة ” إلى بيت زوجها، في ليلة زفافها جذب زوجها يدها وتوجه بها إلى إحدى غرف البيت، فطأطأت رأسها خجلا وهى تعتقد بأنها ستدخل غرفة النوم الجديدة، ولكنها وجدت نفسها وجها لوجه، أمام سحنة والدة زوجها الصارمة التي كانت تجلس على سرير كبير حديدي محدقة بعيون قوية ثاقبة بملامح وجهها الخجول المرتبك وبادرتها بالقول بصوت أجش قوى:
أهلا بعروستنا
وقبل أن تنبس بكلمة سمعت صوت زوجها يأمرها: قبلي يد ورأس أمي، تخشبت في مكانها خوفا من صوته الآمر، فأعاد طلبه بصوت صارم، هل انت صماء لا تسمعين، تقدمي قبلي رأس ويد أمي.. تحرك جسدها بارتباك وخوف، وقبلت رأس ويد الحاجة “سلطانة” التي تمتمت بصوت أجش: خلاص يا ولدى خوذ مراتك للدار
منذ تلك الليلة، كان على سليمة بأن تكون مطيعة ليس لزوجها فقط بل ولوالدة زوجها التي كانت ترى في ابنها الوحيد سر الحياة والوجود
بمرور الأيام أحبت زوجها، وكيف كان لها أن لا تحبه وهي التي لم تعرف في الدنيا رجل سواه، كانت طفلة عندما دخلت بيته، وكبرت تحت عينيه وعيون أمه وما يأمرانها به تنفذه بحذافيره، وتقضى ساعات يومها بين المطبخ وغسل الملابس و تنظيف البيت ، ويسدل الليل سدوله وهى منهكة فتلقى نفسها على السرير وتقدم جسدها بتعب لزوجها الذى لا يتهاون في إداء واجباته الزوجية كل ليلة ، مرت أشهر على زواجها ، فأحست بحركة طفل ينمو يجسدها وطار زوجها من الفرح حين أخبرته القابلة بأن زوجته حامل ، ولم تتوقف عن الحمل ، طفلا وراء طفل ، أولاد وبنات تقافزوا وراء بعضهم ، كان عليها أن تنجب فقط لتقوم “سلطانة” والدة زوجها بالعناية بالأطفال الأولاد منهم والبنات واحدا وراء الأخر
كبر الأطفال على الحب المغدق من جدتهم، فأحبوها أكثر حتى من محبتهم لأمهم ولم يكن يسمع أحد منهم صوت أو حديث او رأى للأم، فكل شئون البيت تدار حسب أوامر جدتهم سلطانة، لا شيء من أثاث البيت يتحرك من مكانه، أو يتغير إلا حسب أوامرها.
كانت فرائص “سليمة” ترتعد، حين تأمرها سلطانة بصوت عالي بعدم التلاعب بما حددته من أوامر في شئون البيت، وكانت الزيارات للجيران والأقارب مجدولة على حسب أوامر سلطانة التي منعتها من زيارة أهلها، وجعلت زياراتها العائلية حكرا على أهل زوجها فقط وحين كان يحلو لزوجها أحيانا، عصيان أوامر أمه، تستجديه “سليمة ” بأن لا يكسر كلمتها وينفذ ما تأمره منها، وكان هو يشتط غيضا من حالة انسحاقها تحت أوامر والدته وحتى أولاده لم يكونوا يهتمون لما يقوله، قدر ما كانوا يبحثون عن رضا أمه.
لم تأبه “سليمة” بتبرمه منها، وكانت تقوم بدورها العتيد في الطبخ والنفخ وترتيب البيت وإنجاب الأطفال طفل وراء طفل حتى وصل العدد إلى ثمانية أطفال
ذات يوم دخلت عمتها “سلطانة “، ومعها امرأة لم تراها سابقا وقالت لها؛ سلمى على جارتنا الجديدة “مصيونة”، نظرت إليها وابتسمت مرحبة بها ثم قالت لها، تفضلي هللت اهلًا وسهلا منطقتنا هادئة وجميلة والجيران من عائلات طيبة يا زينك جيرة
ابتسمت “مصيونة” وظهرت سن ذهب، ساطعة من فمها، وأجابتها: عارفة يا جويرتى الجديدة كلهم شكرولى المنطقة، انا كنت نسكن في الصابري لكن بعد توفى زوجي وترك لي بنتين على روس بعضهن نصحني الكثيرين بيش نشرى حوش في هالمنطقة المؤنسة الطيبة.
فردت سلطانة: مرحبتين بيك ونحنا هلك وأي حاجة تحتاجيها نحنا ما نقصروا
غدت مصيونة ضيفة يومية، على بيت سلطانة وزوجة ابنتها” سليمة”، ذات يوم تصادف وجودها مع دخول مختار للبيت، فتعالى صوت أمه: تعال يا مختار سلم على جارتنا الجديدة وبرقت عينا مختار وهو ينظر إلى طولها الفارع وجسدها الوافر وتمتم متظاهرا بالخجل أهلين جارتنا
كانت سليمة منهمكة في غسل الملابس على يديها، اللتان تشققتا من الغسل بالمياه الباردة حين دخلت عليها عمتها سلطانة وسألتها هل نام مختار بالأمس بالبيت؟
فردت عليها سليمة وهى غير عابئة منذ ثلاثة أيام لم ينام في البيت، أخبرنني بأن لديه مأمورية تلزمه بالمبيت ليليا بالعمل.
فصرخت عمتها سلطانة في وجهها: يا درويشة مختار تزوج منذ أربعة أيام من جارتنا الجديدة وهو ينام يوميا عندها في بيتها
صعقت سليمة من الخبر، كيف حدث ذلك، ومتى؟
ضحكت عمتها قائلة: أنتى اللي درويشه، اللي زي مصيونة لا يمكن ان تعيش من دون رجل من أول ما شفت نظرة عيونها الى أبنى عرفت بأنى أدخلت أفعى لبيتي
تكورت سليمة على نفسها وانخرطتا في نوبة بكاء، فجذبتها سلطانة من ذراعها وصاحت في وجهها: هذا ليس وقت البكاء، لن اسمح للأفعى بأن تأخذ أبنى منى لازم تمشى للمحكمة وتطلبي الطلاق من أبنى، كي نضغط عليه ليطلق هذه الأفعى
فغرت سليمة فاها مصدومة وأصاب الدوار رأسها، تطلب الطلاق من مختار، وكيف تعيش من غيره وهى لا تعرف في الحياة غيره، ومن سيقيم أود الأفواه الثمانية الذين أنجبتهم منه طيلة أربعة عشر عام من الزواج
فأجابتها بخوف وهى ترتعش لا يا عمتي سلطانة لن اطلب الطلاق، كيف أربى هؤلاء الأطفال من دونه؟
حدقت فيها سلطانة بغضب وبان شرر من عينيها وهى ترد عليها: بل ستطلبين الطلاق منه وأنا سأساعدك في تربية الأولاد هل نسيت بأنى أعمل. فراشة في مدرسة ولدى مرتب وهو سيتفق عليهم وبقوة المحكمة والقانون لا تخافي وترتعبي لن اجعل هذه الأفعى تهنأ بانفرادها وسرقت هذا لأبنى
هاج مختار وماج حين أخبرته سليمة بأنها ستقيم ضده قضية طلاق ولكمها على انفها ح بذلك ولكن أمه وقفت حائلا بينها وبين إقامة احتفالية ضرب لها
في اليوم الثاني ذهبت سلطانة مع سليمة للمحكمة وأقامت قضية طلاق ضد زوجها
كانت الدموع تنهمر من عيون سليمة، وهى ترتعش كطير مذبوح أثناء رجوعها من المحكمة
لم يدخل مختار بيت أمه ليرى أولاده خلال مدة رفع قضية الطلاق، كان غاضبا من والدته لأنه يعرف بأنها هي التي حرضت زوجته التي يدرك بأنها مسحوقة تحت رحمة أمه وتفعل جميع ما تمليه عليها، ولكنه لم يعبأ بهم، كان يعيش أحلى أيام حياته مع زوجته الجديدة بعيدا عن أوامر أمه وانسحاق زوجته الاولى أمامها، كانت “مصيونة” شخصية مرحة وقوية ، تعمل موظفة ، لديها أسلوب في استمالة قلوب الرجال بذكائها و معاملتها ودبلوماسيتها وضحكتها الرنانة وأحاديثها التي لا تنقطع عن أي شيء وكل شيء ، مال قلبه لها وأضحت زوجته الأولى صورة باهتة ، لا معنى لحضورها أو غيابها بصمتها ، وارتباكها وخوفها ورعبها من كل شيء
كره شخصيتها المرتعبة دائماً منه ومن والدته مع الأيام شعر بأنها ليست ملكه بل ملك والدته، ولم يشعر بأي تأنيب ضمير حين تركها تحت رحمة والدته وفر بجلده من سطوة والدته تاركا زوجته وأولاده تحت رعايتها
عام وراء عام كبر الاولاد والبنات، واستقل كل واحد منهم بحياته في بيت زوجية جديدة
ورغم زواج والدهم وبعده عن بيتهم، في بيته الثاني إلا أنه لم يتركهم، وكان يرعاهم وينفق عليهم ويهتم بتفاصيل حياتهم، طار كل ولد وبنت إلى عشه الجديد وأضحت سليمة وجها لوجه في البيت وحدها مع سلطانة
كان يبدو كما لو أن سلطانة هي قدرها، الذى لا فكاك لها عنه، خمسين عام وهى رفيقة كل يوم من أيام حياتها منذ أن تستيقظ مستقبلة شمس الصباح حتى نهاية اليوم ودخولها لغرفتها للنوم
كان عليها أن تنفذ أوامرها وتعليماتها، كما رسمتها طيلة خمسين عام، وعندما كبر الأولاد والبنات وطار كل واحد منه إلى عشه، أصبح لدى “سليمة” قدرة صغيرة على الاعتراض أحيانا على أوامر وتعليمات والدة طليقها، وأضحى من الطبيعي أن يشاهد الجيران والأقارب مناوشاتهما أحيانا ولكنها سرعان ما تطأطئ رأسها وتقبل رأسها قائلة سامحيني يا عمتي سلطانة وتمضى لتؤدي مهامها بخضوع واستسلام
كانت سلطانة بكامل قوتها وصحتها، رغم انها تجاوزت التسعين عام، لا تغيب عن أي مناسبة فرح أو عزاء للأقارب والأهل والجيران، شابها بعض الوهن والضعف، واضمحل جسدها الذى فارع الطول، ولكنه لم تفقد أي زاوية من ذاكرتها وتركيزها ومعرفتها بكل من تلتقى به في المناسبات الاجتماعية العائلية
منذ أشهر لاحظت مصيونة بأن سلطانة لم تعد تستطيع الصعود للسطح حيث كانت متعودة على تفقد طيورها وعصافيرها، والجلوس تحت أشعة السماء الصافية وملاعبة أحفادها، وغدت تركن لغرفتها، والنوم في سريرها، ولم تعد تحتمل الصوت وضجيج احفاد أبناء وبنات أبنها الثمانية
استيقظت “سليمة” وفتحت نافذة سلطانة، وشرعتها ليغمرها نور الشمس الذى تحب رؤيته كل يوم ونادت عليها كي تستيقظ كي تفطر معها كما تعودت كل يوم ولكن سلطانة لم تجبها ولم تتحرك من سريرها، توجهت نحوها مصيونة وحركت يدها فارتدت اليد متدلية فوق السرير صرخت ومضت تجرى وصعد سلالم بيتها ودقت على شقة ابنها الذى يقطن فوق شقتها وحين فتح الباب مدهوشة من طرقاتها العنيفة. بإدارته بصوت مجموع: تعال انزل شوف جدتك، اناديها فلا ترد على
حمل أبنها جدته الى المستشفى وبعد ساعات جاءها خبر موتها بكل هدوء
ماتت سلطانة، هكذا بهدوء ودون ضجيج، عكس سيرة حياتها الطويلة الضاجة بالحكايات والتعليقات وسلاطة اللسان والسيطرة على كل شاردة وواردة لأكثر من تسعين عاما.
ماتت سلطانة ولكن “سليمة” لم تنام تلك الليلة، فلقد استرجعت خمسين عام من حياتها مع والدة زوجها السابق التي رفضت الذهاب للعيش مع ولدها وزوجته الجديدة وبقيت معها لتساعدها في تربية الأولاد، وبالرغم أنها مع الوقت والمواقف والحياة المشتركة أحبتها، إلا أنها شعرت بأنها اليوم تحررت تماماً
كان وجود سلطانة قيد كبير تشعر به حول عنقها، وحول جسدها ولكن اليوم كل القيود تساقطت واحدا وراء الأخر، بعد خمسين عام من العبودية، تحت حكم أو امر وتعليمات سلطانة
أخيرا تحررت، وهى التي كانت تعتقد بأنها ستموت دون أن تتحرر من قيودها فلقد طال المقام في الحياة مع سلطانة، ولكنها اليوم لأول مرة بعد خمسين عام ستنام بهدوء وهناء وبشعور كبير مزدان بطعم الحرية.
2 تعليقات
اختي الفاضلة انتصار تذكريني في رواية ومسلسل سلطانة للمرحوم غالب هلسا ولكن سلطانة في المسلسل هي رمز المرأة وكل من في اردننا الغالي يتمناها له وهي ترمز لروح الوطن الغالي في أدب غالب هلسا المصحوب بالسيرة الذاتية وعبقرية المكان والزمان لباتشر
نشكر مرورك الكريم