قصة

بئر السلم

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

كنت اسمع وقع خطوات اخوتي وهي تتسابق نزولا للبحث عني، سليم يتلعثم في نطق اسمي وفاضل يتباطأ في النزول، ترسلهم أمي لمناداتي ولكني لا أستجيب إلا بعد أن يخرجوا للشارع، أراقب فئران تطل برؤوسها الصغيرة من تحت الكراتين تصدر أصوات خشخشة كنت أخمن سر أفعالها لم أستوعب، ولكني عندما كبرت عرفت ذلك.

رسومات وخطوط قرب المدخل أضيف إليها حروف اسمي متناثرة وأخفيها بخربشات كثيرة لتمويه فربما يحضر أحدهم مثلما حضرت ويكتشف أن لهذا المخبأ مرتادون غيره!

على الجدار صورة مغنية أجنبية لا أعرف نطق اسمها المكتوب بالإنجليزية ولكني كلما جلست أعد أصابع يدها اليسرى الممسكة بالمايك ووقفتها المثيرة أمامي، حاولت تقليدها سواء هنا في الظلمة أو في غرفة نومي وأنا أمسك المشط أمام المرآة، أضم قضبتي وأتخيل نفسي على المسرح والجمهور يصفق ويتراقص معي.

ذات مرة أيقظني من تخيلاتي صوت تحطم شيء تحت قدمي، خشيت أن يكون أحد الفئران المارة بالمكان، تسمرت في مكاني مرتجفة ثم انحنيت والتقطته بهدوء تحسسته بأصابعي أملس وطوله بطول سبابتي تقريبا، رطب ولزج من الأعلى وصلب من الأسفل، ليس جسم كائن حي بالتأكيد حاولت أن أخمن ما هو في الظلام لكني لم أتمكن من ذلك، أسرعت للكوة الصغيرة في بداية الممر و بسطته في يدي، شهقت عندما رأيته كان أحمر شفاه مكسور الرأس و لكن لمن!  لا أعرف، كنت كمن وجد سلاح جريمة وصار يبحث عن الفاعل.

 خبأته في جيب بنطالي وخرجت مسرعة ونبضي يزداد في طريقي. كنت في العاشرة تقريبا و شقيقي أكبر مني سليم يكبرني بسنة و فاضل بثلاث سنوات، أنا البنت الوحيدة لأهلها و التي يجب أن يهتم بها الجميع ويتابع حياتها حتى وإن لم تكن في حاجة اليهم.

احتفظت بهذه الأسرار في خزانتي، فلا أنا بالشجاعة لأخبر أمي ولا يمكن أن يغفر لي عمي جرأتي على كشف سره وليست لدي القدرة على نسيان مار أيت منذ تلك الحادثة وأنا أخشى أن أتعثر بأشياء أخرى، على الدرج أو في مدخل البناية قد تفتق تفكيري لأبعد الحدود، على السطح كنت أخفض نظري باتجاه لأرض وأشبك أصابعي لأَمُرَّ بسلام.

مرت تلك الأيام من طفولتي وصار بئر السلم موقع الأسرار، نتسلل أنا وليلى ونجلس على مقربة من مدخله لأقرأ لها قصيدة كتبتها في غفلة من أمي أو تحكي لي هي حكاياتها التي لا تنتهي ووجيب قلبي يزداد كلما تحدثت، نتابع هسيس الفئران ونضحك بصوت خافت حتى لا نزعجها، زادت حالتنا فصرنا أقصد أنا وليلى نطلق أسماء على تلك المخلوقات ونتجادل في الفروقات بينها وكيف نميز أحدها عن الآخر.

لكل منا بئر سلم في داخله يخشى أن يقترب منه البقية، ومثل ليلى التي كانت تصفني بأني بئر سلمها إلى أن اختفت فجأة ولم أتمكن من طي صفحتها أو أن أعود للمكان وحدي.

منذ أسابيع وعندما يبدأ القصف العنيف على المنطقة، تطلب منا أمي أن نسرع لبئر السلم، كان وقع كلمتها يهز داخلي فلا أعرف ما سيحدث هناك! و لا يمكنني الرفض أردت الابتعاد عن الجلوس معهم لكن دون جدوى .

كنت في صدمة ربما ولم أفق منها الا بيد أمي وهي تجرني مسرعة نحو الدرج تقول “أخوتك هناك، وعائلة عمك….” ولكن أين ليلى!

نتابع الأخبار من مذياع عمي الصغير، يبكي الصغار كلما اشتد القصف، تتمتم أمي بأدعية لا أستوضح كلماتها، تقول إحدى الجارات أن من المتوقع أن يستمر القصف لفترة طويلة فرؤساء الحرب كل منهم يمتهن وسيلة لترويع السكان أكثر.

لم يلتحق بنا فاضل أبداً في ملجئنا، في كل مرة نبحث عنه فيشتد القصف أكثر وننسى أمره لاحقاً لا أدري متى يعود للبيت وهل يكون هناك قبلنا أم علينا أن ننتظره أياماً ليسرد علينا حكاية لا تصدق كما كنت أشعر دائما.

كنت أقول لأمي ستنتهي الحرب ونعود إلى حياتنا ولكني في نفسي ألعن وجودي في هذا المكان وألعن كل من يخطر ببالي في تلك اللحظات.

أخبأ رأسي بين ذراعي وأكتم شهقات حارة، أغالب نفسي في كبت الكثير من الكلام، كنت أتمنى أن يصمت الجميع، يخرس الصغار وتنسى أمي أدعيتها وجارتنا المسنة تتوقف عن الأنين.

لم أعد أفكر في ليلى ولا في شقيقي سأتخلص من كل أشيائي القديمة التي تربك تفكيري، سأعود لغرفتي والشرفة المطلة على الشارع بأحواض القرنفل والنعنع وأهتم بها أكثر وطاولة في منتصفها أجلس إليها أكثر مما أجلس مع عائلتي، فقط أريد أن تنتهي الحرب.

مقالات ذات علاقة

قصص قصيرة

محمد زيدان

سيرةُ كرسي*

المشرف العام

رحلتك طالت

خليفة الفاخري

اترك تعليق