كان صوت راديو سيارة جارنا يصدح عالياً والنوافذ مفتوحة وهو جالس بداخلها ينتظر أبناءه ليقلهم الى المدرسة، وكان صوت أم كلثوم من إذاعة الشرق الأوسط يردد:
يا صباح الخير
يلي معانا
يا هناه الي يفوق من نومه
قاصد ربه …ناسي همومه …
كان الصوت يتباعد كلما ابتعدت عن البيت واتخذت طريقاً مختصر يوصلني إلى مدرستي، بالقرب من المدرسة كان هناك بيت عمي “صالح”، أراه كل صباح وهو جالس على كرسيه يستند على سور بيته القديم يطالع المارة وبجانبه كوب من الشاي مازال ساخناً والبخار يتصاعد منه، كان عمي “صالح” عجوز قصير القامة، وبشرة قد لوحتها الشمس، وتجاعيد تحكي قسوة الحياة وتسرب العمر..
كان ما يشدني لبيت عمي “صالح” شجرة التوت التي تتدلى أغصانها على حاشية السور القصير، تتباهى بلون ثمارها الحمراء القانية المائلة الى السواد، تجذب الأنظار والشهية، وكنت ألتقط بعض الحبيبات وألتهمها في عجل وقد ترك عصيرها لونه على فمي وأصابعي، وهو ينظر إلي وتبدو على وجهة ابتسامة حنونة وخجولة، وفي طريق عودتي كان ينتظرني وهذه المرة بكيس صغير من البلاستيك فعندما يراني قد اقتربت يقف وهو يدعوني أن أقطف كل ما يحلو لي ويرجع الى كرسيه العتيق..
مرت مواسم كثيرة وأنا ألتقط التوت، ولم يبرح عمي “صالح” مكانه ولا الشجرة أخفت عني ثمارها إلا في أيام الشتاء الباردة والرياح الشديدة..
هذا الربيع ما عدت أرى سوى كرسيه المسنود على الجدار من دونه، وأختفى كوب الشاي، وحبات التوت قد تساقطت كدموع من الدم انسكبت على الأرض، وعرفت أن عمي “صالح” صار طريح الفراش لمرض ألم به، وبعدها سمعت أنه قد توفي وباع أولاده البيت..
مرت أعوام كثيرة وتغيرت وجهتي ومكاني، وذات يوم أخذني الحنين إلى هناك، كانت ڤيلا جميلة قد احتلت المكان لها أبواب كبيرة وسور عال قد ابتلع شجرة التوت وكأنها لم تكن يوماً هنا…