تعاليمٌ
أيّ دكتاتور أو سلطان متعطش للسلطة متمسكاً بها لم يعدم من التعلم من نصائح وتعاليم “ميكيافيلي” واتباع ما في استطاعته منها فهي واضحة وفي متناول الجميع ويشتد الحاحها الآن حتى عند المثقفين المخضرمين، فلم يكتبها ميكيافيلي للزُهاد في الدنيا أو يستصغر شأن نفسه بها، والحال هذا فإنْ رغب هذا الدكتاتور والقائد الملهم في الإستمرار في السلطة وتثبيت خلافته في الحكم لإطول فترة ممكنة فلا يكفي أن يكون ماهراً في أن يُري الناس انيابه البارزة كما يفعل الليث ملك القفار بل عليه أن يتعلم من “زقاطة” الثعلب ومكره البرئ و يرتدي ثياب الواعضين وتكنولوجيا العصر الرقمي والفلسفة الرقمية حتى ينجح في خداعهم آكلاً الأخضر واليابس، فلا يكفي أن يخيف الناس ويرهبها ويستخف بها ويتحكم في كل كبيرة وصغيرة في مملكته بل عليه أن يتحكم بذهنيتة الثعالبية، التي ورثها عن دكتاتوره السابق، في عقول الناس وتفكير الناس وإعتقاد الناس وحتى افضلياتهم وأذواقهم حتى لا يتلبسه الإلتباس وحتى لا يخدعه ثعلبٌ آخر. أحياناً لا يسلم من خداع النهج الثعلبي حتى أعتى القليل من فرسان الفلسفة والثقافة والشعر والرواية.
أعداء الشعب
الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” كان أحد أهم من أبرع وأجاد في اِتباع نصائح وتعاليم “ميكيافلي” بلا قيد أو شرط مستخدماً نهجا لغوياً مخادعاً كنهج “ألأخ الأكبر” في رواية جورج ارويل الشهيرة “1984”؛ ففي عام 2018 ظهرت في احدى برامج الـ “سي.ان. أن” راهبات حسان يجلسن بإحدى الكنائس في لقاء تلفزيوني حيث سألهن المذيع: ما الذي يجعلكنّ تقومنَّ بالتصويت لصالح “ترامب”، بل وبالاستمرار في الدعم له والإنتصار له على هذا النحو الشغوف؟ في لحظة خاطفة جاءته الإجابة الجامعة الكافية الشافية: لأنّ ترامب “مبعوث آلهي”مُنقذاً لأمريكا لا محالة كي يجعلها” عظيمة مرة أخرى”، حيث في ذات اللحظة كنّ يُشرنَ في لهفٍ واِبتسام إلى صورة ترمب المعلقة على الحائط والتي تُظهره وكأنه ” قديس” تحيطة هالة من نور. فلقد بدا لهن القديس ترامب على أنّه ذاك “المخلص” الذي بُعث من السماء هدية لأمريكا لكي يخلص المجتمع من براثن “أعداء الشعب” أولئك الملاحدة الكفرة واولئك الساسة الذين ساهموا في تشتيت وتقسيم وتمزيق النسيج الأخلاقي للمجتمع الأمريكي. فثمة علاقة حميمة بين الوقار الساخر من جهة وبين صرامة القديس من جهة أخرى. علاقة عجيبة لا يقف على سرها إلا من كان مهرجاً، الجدير بالذكر أنّ ترامب كان قد وصف الإعلام وكل منتقديه والمخالفين له في التفكير والرأي بـ “أعداء الشعب”.
إعتقال
كتب الفيلسوف “ارسموس” مرةً: “عقل الإنسان مُهيأ عند غياب الوعي لتلقي الكثير من المعلومات المغلوطة والمغشوشة أكثر من تلقي المعلومات الواضحة والأكثر صدقاً” والتي قد يقع فريستها الفرسان الزاهدين المتقشفين. فيرى حسب إعتقاده على أنّنا نحن البشر مُهياون للتعرض لكثير من أكاذيب “القادة التاريخيين” الماكثين لزمنٍ طويل في الحكم، ذاك لأنّ “القائد” المُبدع النابت في السلطة من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد قد يمتلك قدرة للتحكم في عقولنا والتلاعب بمشاعرنا وبالذات حول قضايا مصيرية مُوظفاً لغة محشوة بكل الآماني الزائفة (مثلاً طائرة خاصة لكل مواطن ليبي كما جاء على لسان أحد الساسة الليبين) بعيدة المنال واعدة بفراديس الأرض المستحيلة مستخدماً عبارات والفاظٍ وأفكارٍ متناقضة ومشوشة للذهن تحفز على القلق والخوف والكره والطمع والتكالب والغش والتزوير لدرجة تجعل العقل يشكّ فيمن حوله وفي الواقع المعاش الذي يعيشه وفي رسالة المجتمع السامية ومشروعه السياسي النبيل، فالقائد بسطوته تحكّم في رؤيتنا للواقع وغدت سمة من سماتنا واستلم مهنة التفكير نيابة عنا حتى لا نرى إلا مايراه لنا القائد “الأمير” التاريخي إلى حد الإعلان من عدنا مُغلّقيّ العقل والبصيرة والتفكير النقدي وعلى الملأ لسطانه ومعيته نهتف متحمسين من دون نعمة اليصيرة اِحتراماً للتاريخ: “بالروح بالدم نفديك يا قائدنا”.
السطر: ” قد تضيع صرختك المريرة في تجاويف السنين، حسبك فإنّ السراب ببطن البيد ختال”