محمد دربي
صمتٌ
جالسٌ في احد زوايا المقهى، كهلٌ من “الهنود الحمر”، لا شحوب في وجهه ولا ترهل، وجنتاه فرحة بسمرة حمراء ، تجلس بجانبه اِمرأة جميلة تضع فوق رأسها قبعة صوف شتوية مزركشة الألوان، تلف حول عنقها شالاً فارسياً، يزيدها ثوبها من الحسن أناقة، لها مقلتان تشع ذكاءً ، زاد الثلج من حمرة وجنتيها، المقهى مزدحم، ثلجٌ يلقي بنتفه على مدخل المقهى يسقط ناعماً من سماء فضية، دفء المقهى يُغري على عدم الخروج، عرفته منذ زمنٍ، تجالسه من وقتٍ لآخر، لا يتكلم كثيرا، تحدثه عن كل شيء، يصغي باهتمام، سألته كثيراً وطافت به في حقول كثيرة، يبدو أنها سألته سؤالاً عتيقاً قديماً قدم الزمن، أجاب بهدوء رهيب ورصين دون تلعثم: البحث عن الحقيقة سيجعلكِ تشقين وتتعبين وتتحيرين بل وتتألمين إلى حد قد تفقدين فيه الصبر والراحة، ولكن بمجرد أنْ تصلين إليها أي الحقيقة إنْ وجدت، ستختفي كل هذه المتاعب والعوائق و تطمئنين للوجود.
الناس
نفس ذات الإمرأة الجميلة تجالس الكهل “الهندي” في نفس المقهى وفي نفس الشتاء، ينتظرها ولا يبدو أنّه ينتظر أحد، تبوح بأسرارها له، يحسن الإصغاء لها بسمعه العميق، يتعلم منها الفضائل الجميلة، المدينة تبدو شهية بالثلج الناعم ، موسم الثلج والدفء، يحتسي قهوته متأملاً وجهها الجميل، تستمع إلى صوته العميق ينثر الحكم في اِحدى مقاهي المدينة، حضوره يموج بها كاللهفة، يبدو أنها سالته سؤالاً غريباً فقد اخترق صوتها روحه المستيقظة ، تبسم، أجاب بهدو رهيب: حسناً، إذا كنت في مجلسٍ فيه مجموعة من الناس و بدأتِ تشعرين بأنهم لا يعيرون لك اِنتباهاً ولا يهتمون بوجودك من حولهم، فأعلمي إما أنكِ غير مرغوب فيكِ، أو أنّهم أصلاً غير موجودين. فلا تجهدي نفسك في التفكير في أكثر من ذلك، فالرقعة المُدنّسة منهكة.
سكون
مرة أخرى قابلته، كان يقرأ جريدته في سكون انتهى من “السوكو” وبدأ في الكلمات المتقاطعة، يرنو كعادته للمصير الجميل، انتظر ما في الغيب يحمل الشذى المُعطر، انقطعت سطوة الصمت في ذهنه، أقبلت الجميلة تحبو دلالاً، حيته بهجةً بابتسامة يحار لها الخيال، المقهى ينطق بالفرحة ، جلست والحُسن في عينيها، اعتذرت فقد تأخرت قليلاً بسبب رداءة الطقس، أحس بالدفء أكثر، طلب قهوتها المعتادة، تحادث في أشياء كثيرة، لا يتكلم كثيراً، يفرح عند رؤية الأميرة كطفلٍ، يبدو أنها سألته سؤالآ يشغلها طوال حياتها اليومية وربما عند السحر، أجاب بهدوء رهيب: تذكري يا عزيزتي أنّ مهمتك في هذه الدنيا الزائغة كاتمة أنفاس الحياة أن تتسلقي الجبل ولا تحملينه فوق كتفيكِ، أما عن الآخرين فقد قيل قديماً: ظهور أسدٍ امامكِ افضل بكثير من أن يكون خلفكِ ذئب خائن.
سكينة
بعد برهة من لقاء آخر حدّثها عن الإنكسار فقال: في كثير من الأوقات أحسّ بأنّني منكسر من الداخل إلى شظايا لا تًعدّ ولا تُحصى ولكنني تعلمت كيف أظهر أمام الناس في سكينة وهدوء وكيف أسير في الدرب المباح.. شرع ينظر للجميلة وهي مصغية بشوقٍ وتعجب واضاف: الحيلة الذكية الفطنة أن تتعلمي كيف تعيشين في خضم معاناتك اليومية منتصرة حتى وإنْ انكسرت في داخلك كل الشظايا. توقف عن الكلام، سألته بفضول شديد، استمع إليها باهتمام عميق.. يبدو أنها سألته عن “النت”، أجاب بهدو رهيب: “النت” كما أراه بحدسي البسيط يجعل لك بريقَ موقعٍ على الأرض يبصره الغرباء ولكنه بغير قادرٍ أن يجعل لك موقعاً في الحياة. لا تستجدي بريق التيه والنت والرمضاء، فماذا ترين؟
المعنى
توقف الثلج عن السقوط هذه المرة، سبقته إلى المقهى، وصل يحبو في خطو متنسكٍ، شامخُ الكبرياء، حياها، وقفت احتراماً له، أجلسته في مقعده المعتاد، حدّق في عينيها يحدث نفسه: ليس سواك يا أميرتي من يصغي ويفهمني.. طافت به بين كلام جميل وكلام مطلسم وكلام فيع روائع الشعر، يعشق سماع اسئلتها، شاهقة الرؤى في كلّ مرةٍ ، يختبئ في كلامها بما تعطيه له من عزمٍ ، تحفزه على التكلم في غياب شهقة الثلج، يقرأ في محياها الأماني الحائرة، تكلم طاعةً للطقس في ثنايا هذه المدينة، ليس فيها من مجالٍ للنسيان، يبدو أنها سألته عن المعنى الذى حار فيه الحكماء، برهة الرؤيا تشع في مقلتيه، أجاب بهدوء رهيب يغرف من ارحام السنين: عزيزتي، عليكِ أن تتدركين أنّ ما أصابك في الحياة من شقاءٍ وتعبٍ يحمل كثير من المعاني وبعضها لا معنى لها، غير أنّ النتيجة في التحليل الأخير واحدة وذاك غياب المعنى في الإثنين. تجنبي البحث عن المعنى في الحياة وكوني كما أنتِ في الحياة.