المقالة

أوراق الصباح 3

من أعمال التشكيلي عبدالقادر بدر


هذا الصباح الخريفي رماديٌ أيضا..

رائحة العيد وروحه تتخبّـآن في عطلة نهاية الأسبوع.. متخفّفتان من التزامات العمل والتدريس، ومن شغل البيت الذي ما يفتأ يلاحقني.. هذا الطقس يوحي بالقراءة وكتابة الشعر، وربما أيضاً بالإستماع إلى شيء من الموسيقى يسمو بالروح.

أجلس الآن لأكتب أوراق الصباح..

صرت أشعر بشيء من التوق إليها قبل النوم وبعد الإستيقاظ! هل هي الجلسة نفسها؟.. هل هي الأوراق البيضاء تمتليء شيئاً فشيئاً بهذه النمنمات السوداء؟  هل هو الشعور بجمال روح الكتابة نفسها؟

ولكن.. هل هذه كتابة؟

إنها حديث مع النفس وعن النفس ليس غير.. إنها نظر في المرآة، وتفحّص في الحنايا.. وكما قالت جوليا كاميرون فإن هذا سيقود فيما بعد إلى الكتابة والإبداع.. فهل ستكون هذه الوصفة طريقاً نحو عودتي إلى الشعر؟  ياااريت!

لقد مرّ وقت طويل منذ أن كتبت آخر قصيدة في توديع زميلاتي في جامعة الملك سعود.. ورغم أني لا أحفظ شعري إلاّ أنني أتذكر منها مطلعها الذي يقول:

مُقـامي بعيداً عن طرابلس موجِع      وتـركيَ أحـبــاب الـرّيـاض لأوجـعُ

***

آهٍ من جفاف القريحة.

لماذا لم تلن قناة الشعر لي منذ تلك الفترة؟

صحيح كان يلزمني وقت للتأقلم بعد عودتي من السعودية.. فمعظم كتبي ما زالت في الصناديق، وأنا مبعثرة وفي حاجة إلى كثير من إعادة التنظيم.. ولكن ماذا عن مكان الكتابة؟

الذين يهتمون بموضوعات الإبداع والكتابة يؤكدون على ضرورة تخصيص مكان ما.. ركن، زاوية، مكتب يكون خاصاً بهذا الطقس الوجداني الذهني.. إلاّ أنّ بعض أولئك المهتمين، وجوليا كاميرون من بينهم، يوصون بتغيير المكان أحياناً للهروب من الروتين، فينصحون بالذهاب إلى ركن هاديء في مقهى أو مكتبة أو حديقة. ولكن.. ماذا يهم المكان إذا حضرت الرغبة وتنزّل الإلهام؟

لعلّ المقصود من ذلك هو الجو، المزاج، التهيئة النفسية، أو ذلك التوتر النفسي الممزوج بالحدس والتوق.. أي أن الفنان لابدّ أن يرتّب بيته الداخلي الذي يفترش حناياه وأعماقه.. وها أنا أحاول أن أجلي عن قلمي الصدأ، وأشحذه بعد عودتي لأمريكا، وتوقفي عن كتابة زاوية “مداخلات” بملحق صحيفة الرياض الثقافي، التي استمرت سنوات.. وأخذاً بنصيحة جوليا كاميرون، ها أنا أكتب دون الإلتفات إلى الصياغة أو الأفكار أو حتى التسلسل، كل ما يجب الحرص عليه هو كتابة ثلاث صفحات.. وها أنا أفعل.

الكتابة الفنية عالمٌ، يُغرق الكاتب ويستغرقه.. مثلما يعانق السبّاح أمواج البحر الزرقاء، فيحتضنها ويتركها تدفع به أنّى شاءت.. عالمٌ ما أن يضع الكاتب قدميه على عتبته حتى يقذف به إلى آفاق ذات دفقة روحانية عجيبة..

ولكن ماذا عن الكتابة المنهجية؟.. تلك التي تتناول فكرة ما أو قضية، وتقتضي جهداً ذهنياً وإعمال فكر؟ إنها أيضاً لها عالمها.. ربما يشبه هذا النوع رياضة تسلق الجبال، حيث يُبذل الجهد وتُشدّ العضلات ويتصبب العرق، وتتوالى الإحباطات والإنجازات.. ولهذا النوع من الكتابة أيضاً لذّته وإبداعه.. وهو يتطلب درجة أعلى من الإلتزام، أي أكثر من العمل الإبداعي، الذي هو تعبير عن الذات.. وفي كلٍ لا شك إلتزام ومسؤولية.. فرب عملٍ إبداعي حمل في ثناياه رسالة أعظم من تلك التي يحملها العمل الفكري!

رسالتي عن القصة القصيرة في ليبيا التي نلت بها الماجستير يجب أن أعود إليها لأبعثها من جديد، فأنقحها وأنشرها.. لقد اطّلع عليها بعضهم وأخذ منها ما أخذ ونسبه لنفسه! كانت الأولى من نوعها في منتصف السبعينيات، لكن الناقد المثالي الذي بداخلي تآمر ضدي مع ظروف السفر إلى أمريكا، ولم يشجعني على نشرها.. وصارت الآن رغم قيمتها التاريخية، ومجلد النصوص القديمة الملحق بها، خارج المقام والسياق.. إلا إذا انكبّ عليها الإنسان، ورمم جوانبها ونقحها بطريقة فنية مبتكرة.

مشاريع كثيرة في ذهني، لكنها لا تعدو أن تكون أحلاماً وأمنيات، لا حياة فيها ولا أثر لها إلا إذا وضعتُ لها خططاً قابلة للتنفيذ.. إلا إذا وجدتُ ذلك الشغف، وتلك الهمة.. الهمة التي اعتبرها بعض العلماء اسم الله الأعظم الذي تتحقق به الآمال!

البديع.. علاّم الغيوب.

مقالات ذات علاقة

هل أنا علماني؟!!

المكي أحمد المستجير

لم أنتبه إلا لصوت واحد

المشرف العام

حول رحيل الدكتور وهبي البوري

أحمد إبراهيم الفقيه

اترك تعليق