كاستمرار لمسلسل الوجع الذي نعيش – ولا اعتراض على حكم الله – هاهو أحد قامات ليبيا يضمه الثرى، ولأنني أعتقد بأننا فرادى لا يساوي أيٌ منا شيئاً، فنحن نستمد قيماً لذواتنا، من قيم ما يحمله الوطن من مفاخر، ومن هنا فإن ما أنتجه المبدعون الليبيون، إنما هو ملك للجميع، لكونه يشكل ما يستدعي الزهو والفخر بهذه الرقعة التي انتمينا إليها، دون محاولة استدعاء لأي فكرة أو خاطر يشتت هذا الزهو والفخر، باستدعاء المواقف العابرة ووجهات النظر المتضاربة…
الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه عنوان يُفتخر به، في مجال الأدب والثقافة، مسيرته طويلة، إنجازاته عظيمة، وحضوره كان طاغياً في المحافل الأدبية ليس في رقعة ليبيا فحسب بل أقطاراً أخرى وصلت لأوروبا وآسيا…
جمعتنا العلائق، وكان دوماً يستفسر عن جديدي في سنوات خلت، إلى أن فاجئته يوماً مصرحاً بأن من ضمن ما قرأت له، كان عملاً مسرحياً قُدم في عاصمة الضباب، لكون أصل كتابته كما قيل لي كان باللغة الإنجليزية ثم تُرجم، ولاعتبار وجود النية لدىَّ في خوض غمار الإخراج الدرامي تلفزيونياً أو سينمائياً، فإنني رغبت الابتداء بعمل يُعد صعباً ومعقداً، لكنه يشكل تحدياً لي، وسألته: هل تسمح لي بالتفكير في إنتاج مسرحية “الغزالات” وكان رده سريعاً متحمساً: “لك كامل الحرية دون قيد أو شرط” لكنه استغرب مني هذا الاختيار الصعب، وبعد زمن، التقينا لاستأذنه مرة أخرى في تفصيل دقيق متعلق بسماحه لي بإضافة مشاهد وشخصيات ثانويه، والسبب كان لكسر رتابة المكان لكامل القصة والذي هو مجرد صحراء قاحلة، وأيضاً، بحماس كبير مرة أخرى، أذن لي…
كما يمكن أن يتوقع المرء “الليبي” تداخلت الأحداث ونسيت الموضوع، رغم أنني بدأت في إعادة صياغة المسرحية تلفزيونياً…
الدكتور أحمد ابراهيم الفقيه، شخصية يرغب أي صحفي له علاقة بالحركة الأدبية والفنية أن يحاوره، ولحسن الحظ وبشكل غير مرتب، التقيته ذات عام في إحدى المكتبات في طرابلس وكنت حينها أجري تحقيقات صحفية وأصورها، للبحث عن أسباب العزوف عن القراءة والتردي الملحوظ في التلقي المعرفي عند الشعب الليبي.. وكانت التحقيقات لمجلة “الجليس” الذي رأس تحريرها الزميل “الدكتور عبدالله مليطان” ورافقه الزميل “جلال عثمان”.. وعندما التقيته، ما كان بالإمكان تفويت الفرصة خاصة أنه كثير الترحال، وأنه وقتها على وشك نشر روايته الاستثنائية “خرائط الروح” والمتكونه من إثني عشر جزءاً…
وهكذا كان.. حاورته وصورته، وتطرقت لمواضيع مختلفة معه، لم أتردد في لقائي به من طرق مفاصل مهمة استدعت استفزازه، وكان إلى حد كبير مستجيباً لكل ما نغصت به عليه من أسئلة…
على سبيل المثال لا الحصر، عندما سألته عن واقعنا الثقافي من حيث النشر أجاب: ”للأسف لنقل إن ليبيا تقع في آخر القائمة في الإنتاج الثقافي، وإنتاج الكتب، بما يعني أننا لسنا من الدول المدرجة في إحصائيات صدور لا البحوث، ولا الكتب، ولا الترجمات، وهذا يجب أن يعالج. نحن في آخر القائمة قياسا بالوطن العربي، بل لماذا لا نقارن انفسنا حتى بالعالم؟ لماذا لا نقارن أنفسنا بالعدو؟ لماذا لا نتفوق عليه، للأسف الكيان الصهيوني وحده يكاد يفوق انتاجه كل الدول العربية وليس ليبيا وحدها، وهذا يكفينا لعدم الذهاب للمقارنة بدول مثل أسبانيا أو إيطاليا“…
ثم سألته وأجاب:
– دكتور أمام تاريخك الحافل بالعطاء و تميزك المشهود به، يبرز في ذهني سؤال قد يكون منطلقا من أرضية محبطة أو جاهلة.. لا يهم، هل تجد نفسك قد أحدثت تغييراً ما على ارض الواقع؟ أو انك مجرد كسبت تحقيقاً لذاتك؟
> لا يمكن فصل الذات عن موضوع ما في إطار ما، قد نسميه دور في الحياة، فبالضرورة مهنة القلم، مهنة فيها شي نبيل متأتي من التواصل مع الناس بما ينفع الناس، فعندما أقرأ لنجيب محفوظ أستمتع معه، وقد أقرأ له وأجد فوق المتعة شئ يثري الوجدان والفكر والعقل، فكما يقولون القراءة إضافة لتجارب الحياة، تضيف تجارب لم تتم معايشتها أو المعاناة منها فعلياً، وكثير من النظريات الأدبية تتكلم على التماهي مع العمل الأدبي، التوحد مع العمل الأدبي كأنك أنت من عاش الأحداث أو المشاعر، إذاً الأدب، وليس الأدب فقط، فإنه فيه نفع للناس، هذا بالضرورة، إذاً أنت بالضرورة تؤدي دوراً ما، في ناحية ما، في رفع درجة من الدرجات أو تعميق قيمة من قيم الحياة، هذا من الناحية الأدبية، من ناحية أخرى فإن جانب الرسالة قوي، وهو الجانب الغير الأدبي فيما كتبناه، أي بمعنى أنه لو أخذت المقالات التي جمعتها في كتاب “ليلى سليمان” حيث تحدثت عن أمور رأيت فيها جيب من جيوب التخلف في ليبيا في إطار قضية المرأة، إذ أنها كانت محاولة لتحرير المجتمع من التخلف، ساهمت بها بغض النظر عن أنها قد نجحت في إحداث تغيير أم لا، أنا هنا أشبه هذا الشأن كمسألة ما يعرف عندنا بالرغاطة وهو التعاون الجماعي لمجتمع القرية أو القبيلة من أجل إقامة بناء أو حتى جزء منه، أنت لن تكون شمشون الجبار الذي بني أو هدم المعبد، عليك أن تضع لبنة في هذه (الرغاطة).. فلهذا السبب وبشكل ما لك دور، دون ضرورة التوقف عند حجم و قوة هذا الدور، أو هل هذا الدور اتفق مع أحلامك وطموحاتك عندما بدأت تكتب؟ أو فيما أذا كنت واع به أو لم تكن.
– وصف الناقد الدكتور شعبان عبدالحكيم قرية (قرن الغزال) في روايتك (حقول الرماد) بأنها رمز للوطن الآيل للسقوط، إذا اتفقت مع وصف الناقد لهذه القرية، ألا ترى بأن ما تعانيه القرية قد امتد ليشمل رقع أكبر من مساحة (قرن الغزال)، وإذا كان الحال كذلك، هل يمكن اعتبار الرواية منشور قائم يدق ناقوس الخطر؟
> أنا كتبت رواية (حقول الرماد) وصدرت عام 1985، وتحدثت عن حقبة ما قبل الثورة حيث كان هناك نوع من الاحتقان السياسي، ونوع من التمرد والنقمة على السياسات المتبعة قبل الثورة، فهي إذاً لم تكن وصفاً لوطن ينهار بل لنظام ينهار.. ووضعاً آيلاًً للسقوط أي مرحلة ما قبل السقوط والذي فعلا تحقق بمجئ الثورة التي أجهزت عليه وانتهى إلى غير رجعة. ولكن كان هذا مجرد خيط رفيع في الرواية، فالرواية أساساً لم تتحدث عن الوضع السياسي حيث أن السياسة شكلت جزءاً بسيطاً جداً يمكن تحديده بنسبة 5 %، أما باقي الرواية فقد تمحورت حول تاريخ مشاعر، وانفعالات، وعلاقات بين البشر، كانت فيها سلطة،فيها ظلم، ولكن فيها حب، فيها ضعف إنساني وفيها عادات وتقاليد، (قرن الغزال) كانت واحة وفيها شئ وجودي فلسفي، وهو غربة الجمال في البيئة القاسية القبيحة التي كانت تحيط بتلك الوردة التي مثلتها بالبطلة، وكيف كان هذا الجمال غريباً وحزيناً في تلك البيئة القديمة وعاداتها المسرفة في انغلاقها وفي القوانين الظالمة في ذلك الوقت.
– قلتَ: “أجمل الأوطان وطن تزهر فيه الأغاني” متى كان فصل إزهار ألاغاني في ليبيا بهيجاً؟
> أنا في الحقيقة قلتها.. ولكن، هناك أقوال أخرى رددت هذا المعنى، ابن خلدون شبه فن الغناء والألحان كزهور الشجرة، فعندما تسقط الأوطان والحضارات فإن أول ما يتم تدميره في الأوطان هي الفنون لأن هذه الزهرة هي أول ما تتم إصابته في الشجرة عندما تستهدف، و أول شئ يتفتق هي الأزهار فهي أول ما يضرب وآخر ما يظهر، هي مرحلة تغيير وتتويج لمرحلة الازدهار تماماً كالشجرة، هكذا ضرب ابن خلدون المثل و هذه علامة خطيرة، فالفن يعكس حقيقة الأوضاع.
– ”بالحب وحده نمتلك العالم وننتصر على عوامل القهر والإحباط” كتبتَ هذا مؤخراً، ولكن هذه المعادلة.. ألا يلزمها لتثبيت فاعليتها ومنطقيتها، أن يكون هذا الآخر مؤمن بالمقولة ذاتها؟
> هذه المقولة تجسد معنى من معاني الرسالات السماوية، خذ المسيحية مثلاً فقد ركزت على الحب والغرب المسيحي ارتكب من الآثام ضد هذه الرسالة مما آذى هذه الرسالة بالحروب الصليبية والكوارث الكبرى، ما لم يكن مخططا لا من سيدنا عيسى ابن مريم ولا من سيدنا محمد ولا نوح، كانت دائما رسالة الحب جوهريه في أي فلسفة كبيرة وفي أي مذهب، الحب قيمة ايجابية، والكراهية قيمة سلبية وكذلك الكذب والبخل كلها سلبية، ويتحقق الحق، العدل، الجمال عندما تنتشر القيم الموجبة، أما السالبة فهي التي تصنع الحقد، عندما يسود المجتمع الحب تكون قد ضمنت كل الذي يحب بلده ويدافع عليها والذي لا يقهر، وهو الذي يصنع النهضة والتقدم. أنا عندي عقيدة بأن الحب طاقة ايجابية قوية، ونحن كبشر يوجد ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا لأننا نتكلم عن الأوزون وعن أمراض في البشر مما يجعل البشرية تحتاج إلى أن تقف مع بعضها في ظل عالم أصبحت فيه بلدان مهددة بسبب المتغيرات المناخية مما يعني سيول وفيضانات قد تغرق بلدان وقارات بأسرها، فالتنبؤات تخرج من هنا وهناك تهدد بكوارث، فماذا لو جاء الزمن الذي عشنا فيه هذه التنبؤات. فقد تم الحديث عن جزر سانتي المهددة بالاختفاء، وتكلموا عن الدلتا بمصر، والتي هي مستوعبة لعدد كبير من سكان مصر قد يصل إلى نسبة 75% تقريباً، اعتقد بأن القوى الإنسانية التي كانت خلف مؤتمرات تعالج مثل هذه القضايا وقضايا المرأة رسالتها قوية، لأنها تهدف إلى التكاتف ومحركها الحب، وهذه دعوات مثالية. نعلم جميعاً بأن البنتاغون والسي أي أيه، والوايت هول في بريطانيا سيستمرون في مخططاتهم.. ولكن يمكن للشعوب نفسها أن تحاصرهم بحب بعضهم البعض.. جدار من الحب يمكنه أن يبطل اختراق القوى الظلامية سواء كانت عندهم أو عندنا، وصدق الذي قال “أن الصراع ليس صراع غرب أو شرق إنما صراع أصوليات“.
الحوار كان طويلاً، شائكاً، مستفزاً أحيانا.. أكتفي بهذا القدر منه.
غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، والعزاء لأهله وذويه، وسنبقى متطلعين إلى الثريا، حيث سكنت إبداعاته، تزين الوطن كشهادات إبداع وتألق لهذا الوطن “ليبيا”…
(2 مايو 2019)