حين كنت في زيارة للدوحة وقطر علمت بمعرض “تشكيليون أردنيون” للفنان الصديق وليد الجعفري والفنان رزق عبد الهادي، وحين مررت عبر عمَّان عاصمة أردننا الجميل عائدا للوطن، لم أضيع الوقت فاتجهت إلى صالة عرض الفنون في بنك القاهرة عمان برفقة الفنانة التشكيلية ربا أبو دلو لمشاهدة المعرض، فلوحات الفنان وليد الجعفري لها عبق خاص وسبق أن شاهدت الكثير من أعماله أثناء مشاركتي في معرض الكتاب في الشارقة قبل سنوات، وصورت اللوحات وكتبت مسودة قراءة نقدية انطباعية عن ابداع الفنان، لكن عطل فني طارئ بحاسوبي أضاع جهدي أثناء العودة، فوجدت في المعرض الحالي فرصة كبيرة لاستعادة ذاكرة بعض مما فقدت.
الفنان وليد والفنان رزق أبدعوا في هذا المعرض المشترك، وسأتناول في إطلالتي هذه أعمال الفنان وليد الجعفري ثم سيلي ذلك أعمال وإبداع الفنان رزق عبد الهادي، فالفنان وليد وبجولة في أعماله التي شاهدتها في المعرض تميز بقدرة فنية كبيرة وبصمة خاصة به، فهو يستخدم مادة أذكر أنه قال لي أنها من ابتكاره من خلال جهد كبير من التجارب، وهي مادة تمنح اللوحة أبعاد ثلاثية وشكل أشبه بالسيراميك ولكنها ليست سيراميك، وأعماله التي شاهدتها معروضة بالمعرض بلغت 25 عملا، يمكننا أن نحيلها إلى ثلاث فضاءات حسب الموضوع في اللوحة، فالمجموعة الأولى كانت تحلق في فضاء المكان بينما المجموعة الثانية في فضاء الوجوه والأجساد والثالثة حلقت في فضاء الرمز، وسأتناول نماذج من هذه المجموعات:
فضاء المكان: الوطن السليب لم يفارق الفنان في لوحاته، فالفنان من مدينة الرملة التي هُجر أهلها عام 1948 وهو نفس العام الذي ولد فيه الفنان في مدينة لم يستطع أن يراها بطفولته، لكنها كما الوطن لم تفارقه وهذا ما نلمسه من خلال مؤلفاته العديدة وأبحاثه كدكتور في العلوم السياسية، وما أذكره من حديثه عن الوطن في لقائنا الأول ربيع 1974 في بغداد حين كنت طالبا بالجامعة إبانها، وفي هذا المعرض شارك بخمسة من لوحاته عن المكان كان القاسم المشترك في أربعة من اللوحات مدينة القدس بمآذنها وأبراج كنائسها وبيوتها التراثية الضاربة القدم في تاريخها، إضافة أن لوحة من اللوحات الأربعة تميزت بوجود عبارات مكتوبة تمازجت مع المكان ومنحته قدسية خاصة (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله)، وإضافة للعبارات المكتوبة كانت هناك الرموز الكنعانية والمتوارثة عبر الآف السنين، ولم يغفل الفنان الرمز الفلسطيني الذي يرمز لحلم العودة وهو المفتاح، فمن المعروف أن الكثير حين أجبروا على الهجرة حملوا مفاتيح بيوتهم على أمل العودة القريبة والتي طالت كثيرا، فتوارث الأبناء والأحفاد هذه المفاتيح التي أصبح لها رمزية وقدسية خاصة، بينما اللوحة الخامسة من فضاء المكان كانت تختلف عن سابقاتها فقد صورت الطبيعة والأرض وشجر الزيتون بطريقة لافتة للنظر وليس مجرد مشهد طبيعي عابر، فعبرت بصمت عن الالتزام المتبادل بين الإنسان والأرض.
فضاء الوجوه والأجساد: من خلال سبعة لوحات غاص الفنان وليد الجعفري في أعماق الروح الإنسانية وعكس هذا في معظم اللوحات على الوجوه أو على الأجساد، فهناك 3 لوحات رسمت الوجوه مباشرة بأسلوب فني تشكيلي وكان القاسم المشترك فيها الحزن والألم ولكن قسمات الوجوه حملت أيضا ملامح الغضب، لكن الفنان في اللوحات الأخرى جعل التعابير في الجسد البشري سواء منفرداً أو من ضمن مجموعة، فكان الجسد هنا لغة ناطقة معبرة عن الألم والأمل، المعاناة والاحتمال، الأمس والغد، فكان الجسد بطريقة رسمه يروي حكاية بصمت إن لم تكن حكايات، والقدرة على تطويع الجسد البشري للتعبير مسألة ليست بالسهلة، فالوجوه يمكن منحها التعابير بسهولة بعكس الجسد الصامت بدون تعابير وحركات راقصة، فيعبر عن الألم الذي يجتاح الروح من خلال إبداع ضربات الفرشاة أو الأسلوب الفني المستخدم، ولو نظرنا الى لوحتين إحداهما لامرأة والأخرى لرجل وهي تمثل الجسد من منتصفه الأعلى، لشعرنا بحجم القهر الذي يسود الأعماق، بينما بالمقابل هناك لوحة تمثل شخصين متلاصقين معبرة عن الوحدة في مواجهة الألم والنظرة للوجهين نظرة مل للأمل
أمل للغد، وكذلك اللوحة التي ضمت سبعة أشخاص مثل كل جسد بها بعض من حكاية ألم مشترك، مع ملاحظة لجوء الفنان إلى رسم سبعة أشخاص بما يمثله هذا الرقم من موروث ديني وتراثي.
فضاء الرمز: اللوحات الحافلة بالرمزية واستخدامها لتعبر عن افكار الفنان وأهدافه كانت هي الفضاء الأوسع في لوحات الفنان، فعبر 13 لوحة لم يتوقف الفنان عن تدفق الرمزيات المرتبطة بالتاريخ الفلسطيني في لوحاته، فكان الرمز يعبر بهدوء وصمت عن تاريخ حضارة بدأها كنعان قبل أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة سنة من خلال بناء مدينة أريحا “مدينة القمر” الكنعانية، مرورا بالحضارة الإسلامية العربية والحضارات التي تمازجت مع الحضارة الكنعانية، فنشاهد بعض من التداخل في الرمزيات المستخدمة في اللوحات، فهناك لوحات ضمت رمزيات تعود للحضارة الفرعونية، ورمزيات أخرى مستمدة من حضارة ما بين الرافدين في العراق.
هذا التمازج بين الرمزيات كان أشبه بكتاب تاريخ مرسوم يشير لواقع كانت تحياه المنطقة بتلك الفترة، فالعلاقات بين تلك الحضارات تراوحت بين الجوانب التجارية كما تشير السجلات عند الفراعنة عن علاقات تجارية ربطتها بالكنعانيين، وأيضا بين حضارة الكنعانيين وبين حضارات ما بين الرافدين، وفي جانب آخر المعارك والاحتلالات التي خضعت لها فلسطين سواء من الفراعنة أو من البابليين، وهذا خلق تمازج حضاري بين شعوب المنطقة، وهذا ما نلاحظه بوضوح في لوحات حفلت بالرمزيات للفنان وليد الجعفري.
فاستخدام الكف وفي وسطه العين واستخدام الخرزة الزرقاء وهي من رمزيات مقاومة الحسد نجدها لدى الفراعنة إضافة للكنعانيين، والقباب والأهلة بعض من رمزيات تراوحت بين الفترة الكنعانية والفترة الإسلامية التي أعطت للمنطقة طابعها الخاص، إضافة للفخار المزجج (السيراميك) بألوانه الزرقاء الفيروزية المتميزة الذي تميزت به حضارات ما بين النهرين واستخدم نفس اللون في النقوش الفرعونية مع اختلاف الأسلوب الفني، ولو نظرنا إلى لوحة يتوسطها القلب لوجدنا فيها خلاصة الرمزيات التي كانت مستخدمة في الحضارة الكنعانية بشكل خاص، إضافة لكلمات تعبر عن ارتباط ابن فلسطين ببحره السليب، وحين ندقق بالرمزيات المستخدمة بأشكالها المختلفة نرى فيها النقوش التي تستخدم في تطريز الثوب الفلسطيني والذي تعود نقوشه المستخدمة للفترة الكنعانية.
اللون كان من وسائل الرمزية المستخدمة لدى الفنان، فمعظم الألوان المستخدمة كانت ألوان حارة ودافئة تراوحت بين الأحمر والأحمر الأرجواني والبرتقالي وهي ألوان تطغى على الأثواب الفلسطينية، إضافة للون الأبيض وتوشيحات باللون الأخضر والأصفر وكلها ألوان ارتبطت بالتراث القديم والتاريخ ولم يأت استخدام الألوان من الفراغ أو مجرد عبث لوني بلا معنى، وهذا ما نلاحظة بالدوائر الصغيرة التي حملت اللون الأزرق الفيروزي فهي كانت مساحات محدودة الاستخدام كونها دخلت من حضارات أخرى للمنطقة فكان تأثيرها أقل من الألوان الأخرى وخاصة الأحمر الأرجواني، فاللون لدى الفنان هو لغة تعبيرية يمكنها أن توصل ما بداخل الفنان وماذا يفكر به إن أجاد استخدامه، وما عدا ذلك يكن عبارة عن ألوان بلا هدف ولا معنى ولا لغة ولا تعابير.
ونهاية في هذه الجولة السريعة لا بد أن أشير أن الفنان أبدع في لوحاته وهناك لوحات تميزت فيها فحملت عبق المكان والتراث والتاريخ، ولكن لجوء الفنان في معظم اللوحات للرمز يجعلني أشعر أن معظم لوحاته موجهة للنخبة التي تمتلك خلفية ثقافية كبيرة للحضارات التي مرت بها المنطقة وخاصة الكنعانية، فمن لا يمتلك هذه الخلفية لا يمكنه أن يفهم اللوحات ورموزها وسيكتفي بتأمل الجماليات اللونية والشكلية في اللوحات مع إحساس وشعور غامض أن هناك خلف ذلك حكاية ترويها اللوحات.
“جيوس 11/3/2019”