غلاف رواية طريق جهنم
طيوب عربية

طريق جهنم … قراءة نقدية (3)

د. الصديق بشير نصر

● سيكولوجيا المستبد في (طريق جهنم)

لم يخلُ تاريخُ الإنسانيةُ على مرّ السنين من أناسٍ غريبي الأطوار يحار علماءُ النفس والاجتماع في تحليل شخصياتهم المتقلبة الأهواء، فلا تدري أهم من المجانين أم هم من الحمقى. وهذا النمط من البشر الذي يستجمع كلّ النقائص والعيوب والعاهات يستعصي على الفهم. والأشدّ والأنكى من كلِّ ذلك أن يكون أصحابُ تلك التشوهات النفسية قادةً وأباطرةً يحكمون شعوباً وأمماً، فيأتون بالعجائب التي لفرط غرابتها لا نصدّق أنها تصدر عن كائنٍ يُسمى بشراً يعيش في المملكة الإنسانية، ويتميز عن كائناتٍ حيّةٍ أخرى تُدرج في المملكة الحيوانية. حتى هذه نظلمها إذا قسنا بها أولئك المعاتيه لأنّ القانون الذي يحكم سلوكها هو الغريزة التي تحتاج إلى إشباع، وهي لا تتعدى بأي حال من الأحوال ذلك القانون، ولا تفرط في الإشباع. لأن الإفراط في الإشباع يتحوّل إلى إفساد وتدمير.

غلاف رواية طريق جهنم
غلاف رواية طريق جهنم (الصورة: الشبكة).

لقد عالجت رواية (طريق جهنم) ظاهرة الاستبداد، وسلوك المستبدين من خلال عرض شخصيات مهووسة. والهوس في الرواية ليس مقصوراً على سيد المستبدين فيها الذي أطلق عليه اسم (العقيد)، وإنما يتجاوزه إلى مستبدين هم دونه في الدرجة، يتسابقون لإرضائه وإشباع نزواته وغروره بالتذلل والخضوع، والتسابق إلى تنفيذ أحلامه المستحيلة. ويبدو أنّ الاستبدادَ قَدْرٌ خفيٌّ مقسومٌ بين البشر يظهر عند البعض ويخفى عند الآخر. وما يبدو منه تظهره النزوات والأطماع والهواجس المرضية، وما يخفى منه تقمعه العقائد والقوانين والنظم. وربما يحمل على ذلك قول ابن أبي ربيعة: “إنما العاجز من لا يستبد”.

ويخيّل لي أنّ الروائي أيمن العتوم قد وقع على مفتاحٍ سحريّ استطاع أن يلجَ به إلى دفائن النفس البشرية المشوّهة فلم تستعصِ عليه أقفالها. ورواياته (ياصاحبي السجن) و(طريق جهنم) اللتان تتحدثان عن السجن والاستبداد تظهران مقدرةً فائقة على سبر أغوار المستبدين وفك شفرة الاستبداد. لقد عالج أيمن العتوم بمهارة الأخصائي شخصية المستبد (العقيد) في روايته (طريق جهنم)، بطريقةٍ تستدعي صوراً وأخيلة، وفكراً وثقافة، وتهيّجُ مَلَكةَ القارئ وتحفّزه على فهم دخيلة (العقيد) المستغلقة. والعتوم يعترف ابتداءً بأن تلك الشخصية عصيّة على الفهم، وتتمتّع حتى على أمهر الأطباء النفسانيين وأشهرهم، فيقول:

“ليس هذا تحليلاً لنفسية الرجل، فأنا على يقينٍ أيضاً من أنّ نفسيتَه كانت خارج التوصيف والتصنيف والتشخيص، وأنه لم تكن من نظرية فرويد إلى يونغ صالحة لأن تفهم الرجل، ولو أنك أسقطتَ عليه كلَّ الفرضيات والتحليلات ما استطعتَ أن تصلَ إلى عشر ما كان عليه قائدُنا الفريد من الحقيقة!! هل كان معتوهاً؟ كلا. هل كان ساذَجاً؟ كلا. هل كان طبيعيّاً؟ كلا. هل كان إنساناً؟ كلا. كان أشياءَ أخرى كثيرةً لا يمكن الحدسُ بها، ولا الجزمُ بصوابها. هل كان شيطاناً؟ ربما. هل كان إبليسَ نفسَه في هيئةٍ بشريّةٍ؟ ربما. هل كان أحد ظهورات المسيخ؟ ربما. هل هو كاليجولا أم نيرون أم هتلر أم موسوليني أم… أم كلّ هؤلاء مجتمعين؟ لا أحد يدري” ص 70.

كاليغولا هو الوجه الآخر لـ (العقيد)، ولا أشكّ أبداً أنّ الروائي العتوم قد استحضر هذه الشخصية عندما شرع يستعرض طبائع هذا المستبد، وقد ورد في الرواية ذكر كاليغولا الأمبراطور الروماني المتعطش للدماء، تلك الشخصية السايكوباثية التي لا تعرف ما إذا كانت هادئة أم ثائرة، رحيمة أم رجيمة، اجتماعية أم متوحدة. كثير من الصفات التي رسمها المؤلف لشخصية العقيد يشاركه فيها أعتى المستبدين في الدنيا على مدار التاريخ، فهو بالتأكيد ليس بصمةً فريدةً. فهو إيفان الرابع الشهير بإيفان الرهيب Ivan IV Vasilyevich، أول قياصرة روسيا، الذي لم يسلم من طغيانه وهوسه حتى أقرب الأقرباء إليه، إذ قتل ابنه، ونكّل بمستشاريه، وكثير من المحيطين به، وهو أيضاً روبسبيير Robespierre، ودانتون Danton وجان بول مارا Jean-Paul Marat أشهر ثلاثة مستبدين متعطشين للدماء باسم الحرية في الثورة الفرنسية.

ولقد أثبتت الدراسات السيكولوجية لطبائع المستبدين، أنهم جميعهم يشتركون في كثير من الصفات مثل: الحرمان من عاطفةِ الأبوة والأمومة والأخوّة، التعرض للنبذ والإقصاء في مراحل الطفولة والصبا، المعاناة من القلق والاكتئاب، الحرمان من دفء الصداقة، تضخم الأنا والشعور بالتفوق، تصديق الأكاذيب التي يطلقها هو أو من يحيطون به، إخفاء العيوب الجسمية كأن يصرّ قصيرُ القامة منهم على ارتداء حذاء ذي كعبٍ عالٍ حتى يبدوَ فارعَ الطول وأكثرَ وجاهة. وكلّ ما في المستبد مستعارُ ومزيّف، كادّعاء الشجاعة وهو رعديد، والحكمة وهو مخبول. وجميع ما يصدر عنه من سلوك، أو على الأقل أغلبه، يفصح عن شخصية شاذة تتلبّسها في الباطن شخصياتٌ عديدة تقوده في كثير من الأحايين إلى نهايات تراجيدية أو حتى كوميدية تجعل الناظرين إليه يشفقون عليه أو يسخرون منه.

وتكاد الدراسات السيكولوجية تتفق في تحديد أوجه الشبه بين المستبدين والطغاة على مرّ التاريخ، وهي:

– محدودية الذكاء.

– الشعور بعدم الأمان.

– الدهان Psychosis وأعراضه المختلفة من الهلوسة، والتوهم، واضطراب التفكير.

– الحاجة إلى التعويض عن الشعور بالإخفاق أو عدم الكفاءة.

– الرُّهاب أو الخوف من شيء مجهول.

– الأنفة والشموخ والتكبر.

وإنّ أوّلَ شيء يُخيف المستبد وجود القانون الفاعل. والمستبدّ، وهو المتفرّد بالحكم والسلطة، لا يخضع لأيّ قانون. يقول جون لوك في رسالته الثانية في (الحكم المدني) فقرة 202: “عندما يتوقف القانون، يبدأ الاستبداد”؟ ولذلك كان أولُ ما قام به (العقيد) إلغاء القوانين واعتبارها ظواهرَ رجعيةً مُعطّلةً للإنتاج!!

لقد أفلح الروائي أيمن العتوم في تصوير جميع تلك العاهات المتلبسة بشخصية العقيد. فشخصية (العقيد) في رواية (طريق جهنم) شخصية ارتيابية تتوجّس خيفةً من كلّ شيء، وهو يتخيل في صحوه وفي غفوته سيفَ ديمقليس مُسلّطاً على رأسه ويوشك أن يسقط على عنقه فيقطعها. وكل من يحيطون به سيوف ديموقليس، مشدودة بشعرةٍ رقيقة لا يدري متى تهوي عليه فتطيحَ برأسه.

لا أشكّ أبداً أنّ أيمن العتوم قد قرأ كثيراً عن طبائع الاستبداد، ولا أشكّ أنه قد فهم سلوك المستبدين، وأنه سلوكٌ يكاد يكون واحداً بين هذا النمط من البشر. فلا فرقَ كبيرٌ بين إيفان الرهيب، وستالين.

ولا يعتريني شكّ في أنّ أيمن العتوم قد استفاد كثيراً مما كتب عن شخصية الأمبراطور كاليغولا. والحوار مع الذات الذي يجريه العتوم على لسان (العقيد) وهو يتحدث إلى مرآته، فيحكي مزهوّاً عن بطولاته ومغامراته، وتفوقه على الجنس البشري. يماثل ذلك كثيراً ما كان يجري على لسان كاليجولا في مسرحية ألبير كامي. جنون العظمة، وادّعاء الألوهية، والحلم بالمستحيل. كاليغولا كان يحلم بالقمر يريد من خلصائه أن يأتوه به. لم يفلحوا. حتى تفتق دهاء أحدهم بأن جاءه ببلورة مضيئة في يوم غاب فيه القمر. وكم كانت سعادة كاليغولا المعتوه بذلك. إلا أنه اكتشف بعد ظهور القمر أنّ صاحبه خدعه فأطار رأسه. وعندما يتكلم كاليغولا فكأنك تسمع (العقيد)، فها هو ذا كاليغولا يتحدث في مسرحية كامي فيقول:

“كلّ امريءٍ يحصل على صفائه بالطريقة التي يقدر عليها. أنا أحصل عليه بمتابعة ما هو جوهري.. (ينهض كاليجولا ويحرّك المرآة حول نفسه..) غريب إن لم أقتل أحسّ بأني وحيد. لا يكفي الأحياء لتعمير الكون ولطرد الملل. وعندما تكونون هنا جميعاً تجعلونني أحسّ بفراغ لا حدّ له لا أستطيع أن أنظر فيه. لا أرتاح إلا بين الموتى”.

لقد انتفع أيمن العتوم بتوظيف تقنية المرآة Mirror’s technique، لوصحّ أن نطلق عليها هذا الوصف حقاً. وهذه التقنية أطلقت خياله الروائي من إساره، وفتحت له نوافذ وأبواباً للولوج إلى عوالمَ مغلقةٍ والحوار الذي ينثال على لسان (العقيد)، حوار مع الذات. وأصدقه أو أقربه إلى الحقيقة أن يحدث المرءُ نفسه أمام المرآة، حيث تتجلى ذاته فيها وكأنها قد انفصلت عنه فبات يحاورها. محاورة الطاغية والمستبد لذاته في المرآة تفضح كثيراً من الأسرار. وقد أفلح العتوم في اختيار (المرآة) أداة لتفجير المخزون النفسي المدفون في طوايا الذات. وهذا التكنيك استعارة العتوم من حوارات كاليغولا مع ذاته في المرآة. والكلام مع النفس شيء طبيعي، إذ لا يخلو إنسانٌ منه، ولكنه متى خرج من الكتمانِ إلى العلن استحال إلى جنون. فهذا كاليجولا تسمعه يقول مثلاً، وهو يكلّم نفسه:

“إذا جلبوا لك القمر فسيتغير كلُّ شيءٍ. أليس كذلك؟ سيصبح المستحيلُ ممكناً. وفي الوقت نفسه سيتغيّر وجه الأشياء جميعها مرةً واحدةً. لم لا يا كاليغولا ! من يدري (ينظر حوله) الناس من حولي يقلّ عددُهم باطّرادٍ. هذا أمرٌ غريب (إلى المرآة وبصوتٍ كتوم) عدد الأموات تجاوز الحدَّ، عدد الأموات تجاوز الحدّ، وهذا يجرّد الدنيا من الناس، وحتى لوجلبوا لي القمر، فلن أستطيع الرجوعَ إلى الوراء.. المنطق يا كاليغولا، لا بدّ من متابعة المنطق، السلطة إلى النهاية، والهجر إلى النهاية”.

و(العقيد) البطل السلبي في رواية (طريق جهنم)، يحادث نفسه في كلّ الرواية، وإذا انصرف عن حالة اللامعقول شرع يحادث من بجواره من حرسه أو صحبه، ولكن بلغة متعالية تستمطر اللعنات والويلات. يختلط في حديثه المعقول واللامعقول. وها هو ذا يقول:

“أيتها القطعان السائمة، ويلٌ لكِ إن تجرأتِ على السيّد الأبديِّ، لئن واجهتِني بهتافٍ ليس أكثر من ثغاءٍ لنعاجٍ مريضةٍ، فسأواجهكِ بقطيع من الذئاب عواؤها تنقطع له الأفئدة، ونظراتها الجائعة إلى التهام ضحاياها تنفطر له القلوب” ص 12.

والمستبد المستذئب حالةٌ صورها أفلاطون في (الجمهورية) على لسان سقراط، وهو يعتمد على أسطورة يونانية تتحدث عن تحوّل الطاغية إلى ذئب، وهو يقول: “إنّ المرء إذا ما ذاق قطعة من لحم البشر ممتزجة بلحم قرابين مقدّسة أخرى، فإنه يتحوّل حتماً إلى ذئب”.

أيمن العتوم، وببراعة المصور الحاذق، يسلط عدسته اللامّة (المحدّبة) ويجمع لنا دقائق من السلوك البشري للبطل السلبي، في أسلوب روائي مثير. 
“أنا قائد ثورة، والثورة لا تموت. أنا طائر العنقاء، والعنقاء تنهض من رمادها حيّةً. أنا النجوم الهادية، والنجوم جاءت قبل البشر، وشهدت حياة البشر كلها، وستبقى بعد أن يفنى البشر جميعاً” ص 14.

وبمهارة الجرّاح، شرح العتوم يُعمِل مبضعَه في ذات (العقيد)، ليكشف عما يعتمل في طبقاتها الخفية، وكأنه عالمٌ أركيولوجي يحفر الأخاديد الغائرة بحثاً عن كلّ دفينٍ. وهنا يكشف لنا لا عن بثورٍ متقيّحة ظاهرة، ولكنه يمضي بعيداً، ليكشف لنا عن بعض العلل الدفينة التي ربما تكون هي منبت الحالة المرضية المستعصية التي أودت بصاحبها. يقول العتوم:

“نظر إلى نفسه المتضخّمة أمام المرآة فبدا أُسطورةً قادمةً من أزمنةٍ متطاولةٍ، هيكلاً عصيّاً على الموت، وصوتاً ليس لصداه نهاية” ص 28.

لا شكّ أنّ الطغاة والمستبدين أشبهُ بالخرافات والأساطير المنحدرة من العوالم الغابرة التي لا يبقى أمام دارسيها إلا التصديق أو التكذيب. والمهووس والمستبد كلاهما يزعم أنه أعقلُ الناس، ويزداد جنوناً على جنونه عندما يُبتلى ببطانةٍ فاسدةٍ تعظّم أوهامَه، وتجمّلُ قبائحَه لا في عينه فحسب بل في عيون شعبه ورعيته الذين لا يملكون إلا الإعجاب والتصفيق. وهل يقرّ المجنون ويعترف بأنه مجنون، كلا! إنه أعظم الحكماء وعباقرة الأرض. ألم يقل فرعون {أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى} النازعات 23، وكذلك قال النمرود: {أَنَا۠ أُحْىِۦ وَأُمِيتُ} البقرة 258. يقول كاليغولا الأصل المتخيّل للعقيد:

“أنا لستُ مجنوناً، بل عمري ما كنت عاقلاً كما أنا الآن. ولكن ببساطة أحسستُ فجأةً بحاجتي إلى المستحيل، وبأنّ الأشياء كما هي لا تبدو لي مرضية. أنا محتاجٌ إذن للقمر، إلى السعادة، إلى الخلود، إلى شيءٍ ربما يكون جنونياً”.

عقلُ المستبدِ، كما يصوره العتوم، يتمحور حول ذاته التي يريدها كعبةً تطوف حولها الذوات الأخرى المستحقرة في عينيه. فاستمع إلى (العقيد) يقول:

“أنا الشعبُ والشعبُ أنا. أنا سيدكم أيتها الحثالة، لا أحد يمكنه أن يعصي أوامري، كيف يتمرّد المخلوق على الخالق، كيف يتنمّر المصنوع على الصانع؟” ص 12.

وهذا كاليغولا، الوجه الثاني للعملة، يخاطب شعبه، فيقول:

“أنا أكرهكم لأنكم غير أحرار، وفي الأمبراطورية الرومانية بأسرها ها أنذا الحرّ الوحيد. ابتهجوا فقد جاءكم أخيراً امبراطور يعلمكم الحرية”.

تداعي المفاهيم وتجليات الصور في تلافيف عقل كاليغولا المستبد الأهوج، يوظفها الروائي العتوم توظيفاً عقلانياً في تصوير شخصية (العقيد) المستبد الآخر الذي لا يعرف ماذا يمكن أن يُطلق عليه، أمهووس هو أم أرعن. إذ الهوس والرعونة يصدران من مشكاةٍ واحدةٍ. فهذا العقيد يقول:

“أنا مبعوث العناية الإلهية، أنا المنقذُ، أنا المخلِّصُ” ص 54.

إدّعاء الألوهية، صراحةً لفظية أو سلوكاً عملياً، قاسمٌ مشتركٌ بين المستبدين والطغاة. وكان يُظنّ أنّ الشرق وحده الذي يوجد فيه الطغاةُ والمستبدون من مُدّعي الألوهية، وهذا ليس صحيحاً. فهذا كاليغولا في حوار له مع خليلته كايزونيا Caesonia التي تتعجب من حالته المرضية التي تشبه حالة النمرود مع إبراهيم عليه السلام، وإقامة الحجة عليه عندما ادعى الألوهية: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ} البقرة 258.

“كاليغولا: فيم تنفع السلطة المذهلة إذا لم يكن في مقدوري تغيير نظام الأشياء، وإذا لم أستطع أن أجعل الشمسَ تغرب في الشرق، وأن أجعلَ الألمَ يتناقص، وأن أمنع الكائنات من أن تموت؟

كايزونيا: ولكن معنى هذا أنك تريد أن تكون كفؤاً للآلهة. أنا لا أعرف جنوناً أفضعَ من هذا.

أنت أيضاً تعتقدين أنني مجنون؟ ومع ذلك فما عسى أن تكون الآلهة حتى أودّ أن أتساوى بها؟ كلُّ ما أبتغيه اليومَ بكلّ جوارحي هو فوق مستوى الآلهة. أنا أتولى أمرَ مملكة يسودها المستحيل.. أريد أن أُخلط السماءَ بالبحر، والقبحَ بالجمال، وأن أجعل الضحك ينبعث من الآلام”.

ومسألة ادّعاء الألوهية علامة فارقة على الخلل الذهني في مُدّعيها. وقد صوّر القرآن الكريم لنا هذه الحالة المتمثلة في فرعون، حيث يقول الباري على لسان هذا الطاغية: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} القصص 28.

يصوّر العتوم المستبدَ الطاغيَ وكأنه كائنٌ غير بشري، فهو أقرب إلى الحيوانات والهوام منه إلى المخلوق البشري لما تتلبسه من صفاتٍ هي أقربُ إلى البهيمية. فانظر إلى هذا التصوير البديع:

“كان يقظاً. ولديه قرون استشعار تسبق كلّ من حاول أن يطعنه في الظهر بمراحل.. وكان ذئباً لا تُصيبه سنةٌ من نوم، وثعلباً لا تُخطئه حيلةٌ، وأفعى لا ينقصها سمٌّ، وضبعاً لا يعرف إلا الغدر، وحرباء لا يتقن غيرَ التلوّنِ”. ص 56
وبالرغم من كلّ المحاولات التي قام بها العتوم ليسبرَ غوْرَ المستبدِّ، وكلّ المطالعات التي أرهقته في التاريخ وعلم النفس والاجتماع، يعترف بأنه لم يهتدِ إلى كنه هذا المخلوق الذي يسميه (العقيد):

“ثمّة زاويةٌ مظلمةٌ أو زوايا في رأس هذا الرجل عصيّةٌ على التكهن. ثمة شيطانٌ يسكن تلك الروح، ثمة نهمٌ إلى رؤية الدمّ يُسكر عينيه لا شفاء منه” ص 70

لم يجد الروائي أيمن العتوم، من نموذجٍ معاصرٍ للمستبد يوظفه في روايته (طريق جهنم) أفضلَ من هذه الشخصية، غريبة الأطوار، التي بقدر ما تكرهها وتلعنها، تجد نفسك مدفوعاً إلى التعاطف معها، ولسان حالك يقول: يا للمسكين!! لأنّ ما يصدر عنه من أقوال منتفخة هي أشبه بالطبل الأجوف، صوت بلا معنى. وفي التاريخ نذكر الكلمة المنسوبة للملك لويس الرابع عشر: “أنا الدولة” L’État, c’est moi. ولكن هذه المقولة الشهيرة تتضاءل مع مستبد (طريق جهنم) الذي يقول:

“أنا عميدُ الحكّام العرب، ملكُ ملوك أفريقيا، إمامُ المسلمين، صاحبُ النظرية العالمية الثالثة، فيلسوفُ الأمة، فارسُها المجيد، ورسولُ صحرائها” ص 88.

لم يفوّت العتوم في روايته (طريق جهنم) نقيصةً من النقائص إلا ووجد لها سلوكاً عملياً عند (العقيد). فالمستبدون من خصالهم ورغباتهم حبّ الحياة، والخوف من الموت. ولا أظنّ مستبداً من المستبدين على مدى التاريخ إلا وهو يظنّ نفسه مخلّداً في الأرض وإلا ما فعل ما فعل من منكرات وأعاجيب. فالمستبد الأوّل في (طريق جهنم) يقول:

“ولكن لا، أنا لا أموت. الخالدون لا يموتون” ص 134.

ويتجه المستبد عند الحاجة إلى المنطق ليضفي على أعماله وتصرفاته شكلاً من أشكال الشرعية، فيقوم بإجراء قياسات عقلية فاسدة موهماً الآخرين بأنّ سلوكه وفعاله تجري وفق منهج منطقي منضبط.

“لو أنّ جسداً أصيب بمرضٍ عُضالٍ، فقال الأطباءُ العارفون إنه لا يصلح سائر الجسد إلا بقطع هذا العضو منه. فما العمل حينئذٍ؟. قطع العضو المريض من أجل سلامة بقية الجسد. أنا لم أفعل شيئاً في حياتي كلِّها خارجَ هذا المنطق، كان جسدُ وطني أعزَّ عليّ من أمّي، ولو أنّ أمي كانت هذا العضوَ الفاسدَ لقطعته” ص 182.

وبهذا المنطق المتهور الذي لا يمت إلى المنطق بصلة شرع (العقيد) في التخلص من الوطنيين الذين يستشعر أنهم أعداء له، ومن ثمّ هم أعداء للوطن، وينبغي استئصالهم بالقتل والتشريد والسجن.

وهكذا يستمر العتوم في تصوير حالات سيكولوجية للمستبد الطاغية، فيقتنص عبارات حقيقية قالها في خطاباته ومجالسه العامة، ويعيد صياغتها ويجريها على لسانه حتى تخرج الرواية بعيدة عن التأريخ لأنها ليست في الأصل وثيقة تاريخية. ويتخيّل العتوم حالة الخوف والتذمر التي تنتاب (العقيد) المستبد وقد أحاطت به الأخطار من كلّ جانب، وقد تملكته هواجس العظمة:

“أريد أن أخرجَ من هنا. لم أُخلق لكي أُقيَّد كالعبيد. أنا آخرُ الأحرارِ في وطني، ولا أحدَ يستطيع أن يمنعني من أن أتجوّلَ فيها. أنا سيد الأباطرةِ العظامِ فمن يهزمني. أنا ملك ملوك أفريقيا. أنا خليفة الله في الأرض. أنا القاضي بأمر الله. أنا سلطانُه الذي لا يزول. وظله الظليل. ويدُه التي يبطش بها..” ص 393.

ويتخيّل العتوم كيف كان ذلك المستبد يتصور نهايته. إنها نهاية ترضيه في الخيال، ولكنها غير ذلك في الواقع. فأكثر الطغاة والمستبدين كانت نهاياتهم وخيمة، فهذا موسوليني، وتشاوشيسكو خير مثال على ذلك. كانوا يظنون أنهم في أبراجٍ محصّنة وقبضة عزرائيل لا تطولهم.

“النهاياتُ لي وأنا أملكها، أنا ربُّ اللحظة الماضية والقادمة، أنا انتصر على الموت بالخلود. لن يهزمني أحدٌ” ص 452.

لم يكتف الروائي أيمن العتوم بالحديث عن كبير المستبدين، فشرع يصور لنا نماذج أخرى لمستبدين ومجرمين يتخفون تحت عباءة المستبد الكبير. فها هوذا يصف لنا نموذجاً آخر للمستبد يتمثّل في أحد أتباع العقيد يُدعى حسن اشكال:

“فجأةً نُزِعت روحُ الرجلِ الوسيمِ ذي العينين الطيبتين والوجه المريح من جسده، لكن لا أدري كيف استطاع هذا الوجه الذي كان يبعثُ كلَّ راحةٍ في القلب أن يكون جلاداً لا يباريه في اجتلاب الموتِ أحدٌ!! هل يزرعون وجوههم بالورد وقلوبهم بالشوك؟! هل يمكن أن يلبس الوجه غير ما في القلب؟. ألم يقولوا: “ما يخفيه الفؤاد تبديه العينان” كذبوا، في هذا الوجه الذي نراه يبدو أنهم لم يكذبوا فحسب، بل أوقعونا في الخديعةأيضاً. هل يمكن أن تكون للبشر كلُّ تلك المقدرة على التحوّل؟ كيف يمكن أن يتحوّلَ حَمْلٌ وديعٌ إلى ذئبٍ مفترسٍ؟!” ص 322.

وكأيّ طبيبٍ نفساني محترفٍ، يتساءل العتوم عن السرّ الذي يخرج الإنسانَ من حالة الاعتدال والطهر إلى حالة الإجرام، والأصل في البشر براءة الذّمةِ. يسوق العتوم مثالاً على ذلك مستبداً يعيش في كنفِ سيده المستبد الكبير يُدعى عبد الله السنوسي. كان في مطلع شبابه شخصاً نحيلاً، بسيطاً، خجولاً، صموتاً، لا يبادر بالحديث إلا إذا سُئل. لم يكن يدري ما السياسة، ولم يكن يملك فكراً من أيّ نوع. وفجأةً ينهض هذا المخلوق من هوّة اللامعنى لتتلبسه قوى شيطانية وتحوله إلى وحشٍ كاسرٍ يفترس كلّ من يقف في وجه سيّده أو يعترض طريقه. إنّ تصويرَ العتوم لخروج هذا المستبدّ الصغير بالنهوض من (هوّة اللامعنى) تصوير فريد، وينطوي على دلالات كثيرة: العبث، والعدم، والموت. والسؤال الوجودي هنا: كيف لمثل هذا أن يحدثَ؟ ألدوافع داخلية؟ أم لدوافع حارجية. أم لكليهما؟

“كيف يمكن لحَمْلٍ وديعٍ لا يرعى إلا الكلأ أن يتحوّل إلى ذئب تقطُرُ أنيابُه دماً من أشلاء ضحاياه؟ أيّةُ قوّةٍ شيطانيةٍ يمكن أن تحوّل هذا الخجولَ الصموتَ إلى قاتلٍ محترفٍ يقتل بدمٍ باردٍ” ص 367.

● مفهوم السجن وسيكولوجيا السجين

“في السجن ليس لك إلا الجدار، ولو كان للجدار قلبٌ لبكى” ص 410.

– مفهوم السجن

مفهوم السجن ليس مفهوماً واحداً، بل هو في الواقع المعيش جملةٌ من المفاهيم. والروائي لا ينظر إلى السجن في مفهومه القانوني، ولكنه يتعامل معه باعتباره تجربةً إنسانيةً بكل ما تحتوي من معانٍ.

ورواية (طريق جهنم) استفاضت في الحديث عن تجربة السجن في أشكالها المتعددة. ومؤلف الرواية عاش نفسُه تجربةَ السجن، وقرأ عن تجارب السجناء، فأثرى تجربته بها. ولا أُراني مبالغاً إذا قلتُ إنّ رواية (طريق جهنم) هي أغنى الروايات التي تنتمي إلى أدب السجون من حيث غزارة الصور وكثافة المعاني والدلالات التي تكتنفها، لا في الأدب العربي فحسب ـ بل في الأدب العالمي أيضاً. ومن تلك الغزارة وذلك التكثيف صور السجن كما تستدعيها ذاكرة السجين. فانظر إلى هذه الصورة التي تجري على لسان الراوي الأول، كم هي بديعةٌ التصوير، وكم هي مؤلمةٌ بسبب ما تبعثه في نفس القارئ من إحساسٍ وشعورٍ مؤلمٍ يدعو إلى الأسى:

“رُمينا نحن الحالمين كجيفٍ في قعرِ مظلمةٍ لثلاثة عقود لم نر فيها النور إلا بالمقدار الذي يحافظ على نور أعيننا من أن ينطفئ، وإن كان كلّ شيء فينا طوال هذه العقود قد انطفأ حقاً، واستحال إلى رمادٍ ملأ الأفواه، ودُفِنّا فيه كأننا لم نكن بشراً يذرعون الخُطا في الطرقات، ويقطعون الورود من الأحواض، ويتصايحون مَرِحين في الزواريب” ص 16.

ووصف السجين بالجيفة الملقاة في قعر زنزانة مظلمة وصفٌ بشعٌ كريه. ولك أن تتخيّل لو كان هذا حقيقةً، وما أثر ذلك على نفس المتلقي. لا شيء غير الاشمئزاز. والكائن الحيّ لا يُسمى جيفةً حتى تغادره الحياة. وأن يوصفَ الحيُّ بأنه جيفةٌ لا يتأتّى حتى يجتمعَ فيه قَدْرٌ من صفاتِ الجيف، كالعفونة والتحلل. وانطفاء ضوء الحياة رويداً رويداً عبر محنة السجن تعبيرٌ مجازي عن الموت البطيء؟

استطاع المؤلف أن ينقل لنا الحالات النفسية المختلفة التي يعيشها السجين، وتأثير ذلك على صورة السجن في ذهنه وذاكرته في حالتي السخط والرضى. وبراعة المؤلف هنا تكمن في نقل تلك الصورة الفنية حتى لكأننا نعيشها، فتحدث فينا تعاطفاً عميقاً مع السجين. وقد سمعتُ من أحد السجناء الذين عاشوا هذه التجربة المريرة ينصح صاحباً له، سجيناً مثله، ألا يقرأ هذه الرواية ليلاً لأنها ستولّد له كوابيس تجثم على صدره وتقضّ مضجعه.

“السجنُ منفى، السجنُ موت، السجنُ انكسار. لا تقل لي السجن صمود، ولا تقل لي السجنُ للرجال. فالحريّةُ للرجال. أمّا أن يكونَ السجنُ لنا فكلا وألف كلا. لكنه في النهاية أحدُ الدروب التي أخذتنا إليها أقدامُنا في مدارج الحياة المتشعبة. وما من أحدٍ كان قادراً على أن يعرفَ إلى أين تقوده تلك الدروب” ص 73.

ويكتب عن السجن الانفرادي الذي يسمونه (المحقرة):

“سجنُ داخل السجنِ ، ظلمة في أعماق ظلمة، إنه القسم الأكثر رُعباً وغموضاً. أُعِدّ للمحكومين بالإعدام، ولم يُلقَ في غياهبه سواهم. أبوابه ملحومةٌ بلحام لا يمكن أن يفُكّه أو يقطعَه شيءٌ. إذا أُدخِل إليه السجينُ لا يمكن أن يخرجَ منه إلا إذا أراد الله، وأبوابه لا تُفتح إلا مرّةً واحدةً حين يُزجّ بالسجين إليه. السجينُ فيه خارجَ إطار الزمن [..] نزلاؤه في الشتاء، وفي الصيف تغلي بالحرارة رؤوسهم، منفيون داخل منفى، معزولون عن كلّ شيء، يتحركون في لازمن، وزنازينهم مظلمةٌ كظلمةِ القبور أو أشدّ، وهي انفرادية فلا يجتمعُ أحدٌ بالثاني ألبتة [..] تتعفّن أجسادهم للرطوبة، وتذوي أرواحُهم للظلمة، وتعشى عيونُهم لبعد عهدها بالشمس [..] وقد يبقى الواحدُ ينتظر تنفيذ الحكم به أعواماً عديدة [..] كان قِسْماً قَذِراً لم يمسّ الماءُ أرضه منذ أن أُنشئ، تتناثر على جدرانه وبلاطه بُقعُ الدم، وتفوح منه رائحةُ المجاري” ص 64.

أغلب الروايات الأدبية التي تحكي مأساة السجن تركز على الجوانب المظلمة فيها، ومن الطبيعي أن يكونَ الأمرُ كذلك، ولكنّ محنة السجن وتجربته المريرة تحتلف باختلافِ السجين نفسه. فالسجين العادي الذي لايحمل فكراً ولا مبدأ يدافع عنه يرى السجن جحيماً مطلقاً، وهذا النمط من السجناء لا ينفكّ يبحث عن أيّ وسيلة للخروج من ذاك الجحيم، وبذا يمكن مقايضته بأعز ما يمتلكه للنجاة. وفي السجون التي تغصّ بالمعتقلين السياسيين والجناة أنماط متنوعة لهذا النموذج. وهو في جميع الأحوال، وبكل المقاييس، نموذج يمكن اعتباره نموذجاً طبيعياً للإنسان الذي لم يخلق ابتداءً لمحنة رهيبة تُحطّم فيها كلّ مقومات وجوده الإنساني، حتى إذا خرج كان فاقداً لكلّ ملامحه التي اتصف بها قبل أن يودع السجن، فاقداً لروحه وهويّته وحتى شكله. ولا تثريب على هذا النوع من السجناء إذا تنازل لينجوَ بالبقية الباقية من آدميته. ولكنّ ثمة نوعاً آخرَ من البشر كأنهم خُلِقوا للمحنة، فيصمدون في قعر تلك المظلمة ثلاثين عاماً، وليس لهم في الظاهر من أملٍ في النجاة إلا كأملِ الميْتِ في العودة إلى الحياة، ولكن لسببٍ ما يصمدون من أجل قيمهم ومبادئهم، ويتحملون كلّ الشدائد في سبيل ذلك. ولا يقوى على ذلك إلا أصحاب الرسالات الخالدة والمثل الرفيعة {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ} يوسف 33. وقد أحسن أيمن العتوم بمراعاته لهذا في روايته (طريق جهنم) حيث ساق كلاماً على لسان بطل الرواية علي العكرمي الذي كلما اشتدت به المحنة وطالت عليه وعلى إخوانه، اعتراه شيء من الخوف والقلق والاضطراب، ولكنه شعور وإحساس لا يلبث أن ينقضي عندما يُعلّق ذلك على إرادة إلهية، وأن تلك الإرادة اختارته وغيره، ولسرٍّ لا يعلمه ولا يستطيع أن يتكهّن به، لهذه التجربة الفظيعة التي لو خُيروا بين أن يُجرّبوها أو يتركوها لما اختاروا التجربة أبداً. وتخيّل سجيناً سيق إلى تلك المقبرة البشرية وقيل له: ساعة وستعود إلى البيت، فهل كان يُصدّق أنه سيمكث ثلاثين حولاً معزولاً عن العالم لا يعلمُ أحدٌ عنه شيئاً أمن الأحياء هو أم من الأموات. لا تفسير لهذا الصبر العظيم إلا ذلك الشعاع الإيماني الصادر من القلوب المطمئنة والذي يربطها بشيء أعظم، فتدرك حينئذٍ أنها ربحت البيع، لأنّ ما تكابدُ من أجله أكبر وأعظم من أن يُضحى به لقاء عرَضٍ زائلٍ، وهذا تفسير قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} يوسف 39 – 40. وتجاهل هذه الحالة الإيمانية التي تتملك بعض السجناء يُعدُّ تقصيراً لو أعرض عنها أيمن العتوم في روايته، وحسناً فعلَ إذ جعل ذلك في بؤرة الحديث.

“كُنّا قادرين على التكيّف، كتّا مضطرين إليه. الإنسانُ معجزةٌ. المخلوق صورة الخالق. القدرةُ على الفعلِ إرادةٌ، العجزُ موتٌ. التذرّعُ بالأعذار ضعفٌ. الجلوسُ في دوامة الحياةِ الطاحنةِ دون أن تدري ماذا تفعلُ أو ماذا تريد كارثةٌ. مواجهة الريح بالإعصار حلٌّ. مغالبة الموجِ بيدين عاريتين في بحرٍ هائجٍ مُقدّمٌ ومقدّسٌ على الاستسلام. الاستسلامُ كفرٌ، من استسلم أساء الأدبَ مع الله. سنقاوم مادامت هناك فرصةٌ للنجاة من الموت ولو كان الإمساك بها كالإمساك بريشة في عاصفة. من قال إننا لا نحبّ الحياة؟ لم يكن لغول الكآبةِ أن يبتلعَ إلا من ضعُفَ. الضعف طبيعةٌ بشريّة، وفي السجن كان علينا أن نحاربَه” ص 194.

قد يقول قائلٌ: “إنها صورة مثالية لا توجد إلا في الخيال”. ربما كان ذلك صحيحاً لو لم يكن الأمرُ واقعاً وحدثاً معيشاً بالفعل. فثمة رسالة بديعة تخرج من السجن وتهرّب إلى خارجه كما يُهرّب الأفيون عبر الحدود المحروسة بالأسلاك الشائكة، والأسلاك المكهربة، والجنودِ المدججين بالأسلحة. رسالة من أحد السجناء ويدعى (بشير الزعلوك) يرسلها إلى ابنته فاطمة، ولا ندري هل هذه الرسالة حقيقةٌ واقعةٌ أم محض خيال من المؤلف وإذا كانت القصة خيالاً صنعه المؤلف إلا أنّ الوقائع الفعلية تصدقها. وأقرب واقعة لنا، ولعلّ أيمن العتوم انتفع بها، ما ورد في مقدمة كتاب (كأنّكِ معي) للاستاذ المجاهد المحتسب صالح القصبي، إذ يذكر لابنته صفية التي كان عمرها يوم اعتُقِل أبوها أربعين يوماً، أنّه بالرغم من أنّ السجنً ظلمات بعضها فوق بعض، إلا أن فيه بريقاً وشعاعاً من الخير والفضائل التي لا يتصور العقلُ أنها توجد في الزنازين. ففي السجن تعلّم علوماً كثيرةً وعلّمها، وتلقى معارف عديدة، وأجاد لغاتٍ غير العربية، واجتمع بفضلاء الناس وأخيارهم ممن يستحيل أن يجتمعوا في مكان واحدٍ وزمانٍ واحدٍ. يقول العتوم على لسان السجين بشير الزعلوك، في رسالته إلى ابنته فاطمة:

“يا ابنتي؛ في السجن كما في الحياةِ يحدث هذا، نفترق، تحول السدودُ بيننا، ولكنّ شيئاً آخرَ لا يُدرِكُه إلا مَن عاشه، يُعوّض ذلك الفقد، ويشفي ذلك الحرمان، إنه الشعور بأنني أنظر إلى عينيك، وإن لم تكوني معي، وأُمسِك بيديك وإن لم تكنوني حاضرةً، أطوف بك على الأصدقاء الرائعين. أُعرّفك على (عليّ)، و(الحاج صالح) و(الزبير). وأقصّ عليك حكايا البطولة والأمل [..] كلما اسودّ الظلامُ نشرَتْ ضحكتُكِ خيوطَ النور فرأيتُ ما لم أرَ. كلما ضاقت عليّ الدّنيا نظرتُ في قلبي، فأراكِ فيه، عالَماً فسيحاً ممتداً، لا يوقف امتدادَه شيءٌ، وارى سهولاً منبسطةً نركض فيها معاً، كما لو كنّا طفلين، نركضُ بين الخمائل والجداولِ والفراشات الملوّنةِ. أنا أحيا بِكِ. ستظلين شغفي الذي لا ينتهي، وشعلتي التي لا تنطفئ” ص 411.

ويستمر الروائي أيمن العتوم يدفع لنا الصورة في إثر الأخرى، وكلّ صورةٍ تختلف عن أختها في ضيائها وظلمتها ، وهي تصوّر جانباً ظاهراً أو خفياً من حياة السجين ومفهوم السجن:

“السجون تمتلئ بالخوف وبالترقب وبالرعبِ الذي ينفجرُ في وجهك فجأةً” ص 140.

وليس ثمة ما هو أبدع من تصوير الرعب وكأنه انفجارٌ غير متوقع يأخذ بالألباب، فيظل السجين يتوجس من ذلك خيفة، والتوجّس هو التوقع المصحوب بالخوف. ويبدو أنّ أيمن العتوم اهتدى إلى سبب آخر يجعل السجين لا يتأذى كثيراً من محنة السجن بالرغم مما ينزل به من عذاب، وهو قدرة السجين على توظيف ملكة الخيال عنده، فيسرح بخياله خارج جدران السجن الصلدة المقرورة، فينطلق كما ينطلق الطائر المسجون عندما يتحرر من قفصه. وهذا ما يعبّر عنه المؤلف على لسان علي العكرمي:

“في السجنِ فُسحةُ حالمٍ، ظلّت أمانيه تدور على عجلٍ.. في السجن يختلط الخيالُ مع الحقيقة ، والحقيقة بالخيال، كأنما لهما البداية والنهاية ذاتُها. كلٌّ يسير إلى أجلْ.. في السجنِ رُعبُ اللحظة الأولى كرُعبِ اللحظةِ الأخرى. فما من لحظةٍ تمضي بلا فزعٍ يمزّق حلمنا، وقد يمرّ بنا الهدوءُ على عجل.. في السجن ينسحق الأمانُ، وتستفيق على جدار القلب بُرعُمةُ الوَجَلِ.. أو كُلّما غطّى على شُبّاكنا ليلٌ من اليأس المعتّق واستطال تقول دامعةُ المُقلِ.. هل من أمل؟ فيقول عصفورٌ يُنقّط بالعسل: أجل أجل!!” ص 326.

ولم أقرأ في أدب السجون تصويراً للعلاقة بين الزنزانة وساكنيها يرقى إلى مستوى التصوير الذي جاء به أيمن العتوم حيث يجري على لسان علي العكرمي الذي أمضى ثلاثين عاماً يتقلّب بين الزنازين مع ثلاثة من رفاقه (محمد الصادق) و(علي كاجيجي) و(صالح القصبي)، كلاماً جاء فيه:

“الزنازين تختار أحياناً ساكنيها. إنها تألف أناساً دون آخرين مثل البشر، ربما تحبّ وتكره. وربما تدفع بمن لا تتآلف معهم إلى خارجها، إلى منافٍ أخرى وأوطانٍ متعددة” ص 137.

والسجنُ مستودَع يجري بداخله كلُّ شيء، وهو بذلك عصِيٌّ على التعريف. وتيقّن أنّ كلّ ما يدور في خيالك فإنك واجده فيه، وقد تجد فيه ما يتجاوز خيالك. ونجد هذا في الصورة الآتية:

“ما من شيءٍ مستحيل في السجن. ما من شيءٍ طبيعيٍّ فيه. ما من شيءٍ فيه لم يحدث. ما من طامّة فيه لم نجرّبها. ما من حزنٍ فيه لم يبتلعنا. ما من عجيبةٍ فيه لم نرها” ص 223.

ويحدثنا العتوم عن نوع آخر من الزنازين، يقع في الساحات الخلفية للسجنين المركزي والعسكري، كانت هذه الزنازين تحفر للمساجين تحت الأرض، والواحدة منها أشبه بالبئر، والبئر له غطاء مُحكم، أُبقيت فيه بعض الفتحات لدخول قليل من الهواء الذي يحافظ على حياة الضحية أطول وقت ممكن. لكنّ نهاية ساكنها الموت. لم ينجٌ من نزلائها أحدٌ، ولم يخرج من تحت تلك الأقبية المرعبة حيٌّ واحدٌ.

“لم يكن في هذا النوع من الزنازين أيّ مكان لقضاء الحاجة، وكان السجين يفعلها في زاوية من زوايا الزنزانة.. ومع الزمن كان جسده يتحوّل إلى مستنقع للأمراض الخبيثة التي كانت مصدر عذاب له أشد من أيّ أنواع أخرى من العذاب”. ص 314.

– سيكولوجيا السجين

اعتقد أنّ النصوص التي وردت في رواية (طريق جهنم) والتي تتعلق بالحالات المتعددة لنفسية السجين تُعدّ مادة ثريّة لعلماء النفس إن أرادوا البحث فيما يعتمل في النفس من أحوال وتقلبات وهواجس قد تتحوّل إلى حالات مرضية، وربما تتجاوز ذلك إلى الجنون. وهذه الرواية حالة من الفيض الذي يتفجر من أعماق السجين، ليس أيّ سجين، بل السجين السياسي على وجه الخصوص: فيض من الأسى، والرعب، والمخاوف، والاكتئاب، والضعف، والاستسلام، وكلّ الصفات السلبية التي يكتسبها سُكّان الزنازين.

“أيها العابرون على جسد ذكرياتي، أيها الآتون إليّ لكي أقرأ لكم سِفرَ الجرح، وآياتِ الحزنِ. أيها الشاربون من دم وجعي، لقد آن أن أقول ، إنّ الصمتَ يعني الجُبْنَ والكفرَ بالنسبة لي، وعليه فسأفيض بكلّ أوجاعي كما يفيض البحرُ بمائه، وسأتفجّر كما يتفجّر البركانُ بحممه، وسأتداعى من علياء حياتي المهشمة كما تتداعى الصخورُ من قمم الجبال. أنا الإنسانُ المذبوحُ، الساعي إلى المعرفة، التائقٌ إلى الحكمة، الذي سافر إلى أكثر من بلدٍ ليتعلمَ قبلَ أن يُسجنَ إلى الأبد، ليقرأ على أهل الإدراك، وليجد فكرةً صالحةً يملأ بها رأسه في آخر المطاف. كأنت بانتظاري حياةٌ لم أكن يوماً أتخيّلُ أنني سأعيشها، وطريق لم أكن أتخيّلُ أنني سأسيرها. نحن بوصلة الأقدار، تهبّ رياحها على أشرعة أعمارنا المبحرة في أمواج الحياة المتلاطمة فتلعبَ بنا كيفما تشاء. وفي النهاية لا مهربَ من البوح. الكتمانُ يعذّب، والبوحُ يريحُ. ولأن أبوحَ بقلبٍ مثقوبٍ خير من أن أظلّ صامتاً وكلّ يومٍ تتسرّبُ قطراتٌ من دمي خارجه..” ص 17.

هذا النصّ، في لغته الشعرية، ترجمة حقيقية للدفائن النفسية للسجين، تكاد كلّ جملة فيه تشكلّ مادةً من الخام التي يمكن أن تبنى عليها التحليلات، ومن ثمّ تتأسس عليها الأحكام. وتتفجر الدفائن فيضاً عاطفياً من أعماق السجين حينما يطير إليه خبرٌ ينعي واحداً من ذويه، ناهيك إذا كان ذلك القريب أمّاً أو أباً. حتى الذكريات أضحت عند السجين كائناتٍ مذبوحة. 
“لم يبقَ لي منّي شيء. أنا هنا أحلامٌ مبعثرةٌ، ذكرياتٌ مذبوحةٌ، وحياةٌ لا معنىً بها، لم يكن أحدٌ يدري أنني صمدت بك، إنني بقيت حيّاً إلى اليوم لأنّ روحَكِ كانت تدثرني، لأنّ صوتك كان دِفئي في الصقيع [..] إذا كان هناك عدالةٌ حقيقيّة في السماء فإنني واثقٌ أنّ الله سيبطئ رحيلَك السريعَ إليه حتى ألحق بك” ص 117.

ولم أجد تعبيراً يلخّص مأساة السجين في كلمات قليلة، أفضل من عبارة: 
“لن يدخلَ السجنَ أحدٌ ويخرجَ منه كما هو” ص 36.

ومن لطف الله بالعباد، أنّ جعل فيهم القدرة على التكيّف مع المكان وإلا لضاق الإنسان ذرعاً بالأماكن الغريبة التي لم يألفها. والتكيّف مع المكان خاصية تشترك فيها الكائنات الحية وليست مقصورة على الإنسان فحسب. والتكيّف مع المكان الجديد يتكوّن قسراً لا طوعاً، والسبب في ذلك كما يرى أيمن العتوم على لسان أحد شخصيات الرواية هو انعدام الخيارات. أي الخيار الوحيد والوحيد فقط. وقوله: “انعدام الخيارات هو الخيار الأفضل” صحيح من الناحيتين: العقلية والعملية. وهذا الكلام تفسير سيكولوجي خالص لا يصدر إلا من عالم نفسٍ أو قارئٍ متشبعٍ بدراسة العلوم السيكولوجية.

“بدأنا نستقرّ في عالمنا الجديد. خياراتُنا شِبهُ معدومةٍ، ولذلك كُنا نرضى بأيّ شيء وبكلِّ شيءٍ، أحياناً انعدام الخيارات هو الخيار الأفضل، يُريحُ، يوسّع قدرةَ السجينِ على تقبّلِ الأمر، ويجعله يندمج في أمرٍ كان يرى الاندماج فيه من قبلُ مستحيلاً” ص 47.

والشأن نفسه مع حالات الرعب التي تسكن السجين، وهو رعبٌ سيكولوجي Psychological horror يُعرّف في دوائر علم النفس بأنه “صدمة من الخوف قوية يظلّ أثرها مصاحباً للمروّع أو الخائف لفترة من الزمن تطول وتقصر بحسب درجة التفاعل مع الحدث المتسبب في تلك الصدمة”. وتظلّ آثار الرعب مرتسمة في عيون الخائف، كما تظلّ تتمثل في تشنجات معوية، وارتعاشات في الأعضاء. وقد أدرك العتوم هذا حينما تحدث عن حالات الرعب التي تكتنف السجين، وتظلُّ ماثلةً في عينيه، فيقول:

“لو كان للرعبِ هيئةٌ فلن تكون أوضحَ من تلك التي ارتسمت على عينيّ السجين” ص 57.

ومحنة السجن كما يصورها العتوم تتجاوز المفهوم الحديث للسجن، وهو كونه مؤسسةً إصلاحية مخصّصةً لاستقبال المحكوم عليهم بعقوبات مقيِّدة للحرية وسالبة لها. ولكنه حياة يومية ومعايشة جديدة لم يألفها السجين من قبل، حياة بنكهة جديدة طعمها فيه مرارة. فاستمع إلى هذا الوصف:

“وها نحن. نحيا كذلك. الحياةُ ليست لوناً واحداً. تتعدّد، تتبدّد. والحياة في السجن كذلك حياةٌ، ولكنها ليست كأيّ حياة، فإذا نقصتنا أكملنا ما نقص منها بالأمل. الأمل كان علاجاً، كان يملأ الفراغَ، يُلوّن اللامعنى، ويُنبِتُ المستحيل. وإذا لم نكن نملك الأملَ، كُنّا نبحث عنه في الزنازين، في الزوايا في شباك الزيارة، في الرضى، في بسمةِ احدِنا… لم يكن الأمل مفقوداً كليّة، ربما كان مُحاصَراً، ومنفيّاً، وغائباً ، لكننا لم نكن نعدم وسيلةً للبحث عنه” ص 75.

وهكذا يستمر الروائي أيمن العتوم في تصوير الحالات النفسية التي تعتري السجين داخل الزنزانة الانفرادية. فالسجين يظلّ يتحسس الجدران ويحفر بأظفاره عليها كما كان يفعل نزلاؤها الذين سكنوها قبله.

“على جدار الإنفرادي في (المحقرة) يمكن أن تكتبَ، لكنك لا ترى ما تكتب. تخطّ ما قاله القلبُ في لحظة ضعفٍ أو قوّةٍ لا يهم، المهم أن تكون العبارة خارجة من القلب، وما من عبارةٍ نُقِشت على هذه الجدران إلا كانت خارجةً من القلب، ذلك أنّ الموتَ لا يترك لغير القلب أن يتكلّم في حضرته، في حضرة الموت لا يكون إلا الصدق، والصدقُ لا ينبع إلا من القلب. على هذه الجدران المقرورة، الراعفة بالوجع ، يمكن أن تحفر بإظفرك، ثم تقرأ بأصبعِك، تتلمّس المحفورَ وتقرأ: «منذ دخلت إلى هنا وأنا ميّت». كانت هذه العبارة الأشدَّ تشاؤماً. على الجدار المقابل في الزنزانة ، تلمّست أصابعي هذه العبارة: «كلُّ هذا الظلام سينتهي؛ الليل لا يعقبه ليلٌ آخرُ». كانت هذه العبارةُ الأشدَ تفاؤلاً. في الزنزانة نفسها يمكن أن تعيشَ الحالتين، ليس في زمانين منفصلين، بل في لحظتين متتابعتين” ص 101.

وقارئ (طريق جهنم) يكتشف بوضوح ارتباط مفهوم السجن بمفهوم الموت، وكأنّ الموت هو تعريفٌ آخر للسجن. وهذا المفهوم مشترك بين الروائيين الذي كتبوا عن تجربة السجن.

“صنع السجنُ من الحياة مهزلةً، جعل من الحرص على أيّ شيءٍ فيها مسخرةً. لم يعد لغريزة البقاء التي رُكّبت في الجنس البشري أيّ معنىً. كنا نشعر أننا محاطون بآلاف السباع المفترِسة، ونحن مُخيّرون بين الموتِ والموتِ، نركض هرباً منه فنجد أننا نهرب إليه. كان الهربُ من السّبُع الفاغرِ فاه خلفك يبدو مثيراً للضحك، فأين تهرب وكلُّها من حولك تفغر فاهاً لتصطادك، اكتشفنا أنّ خوفنا منها يثيرها أكثر، يجعلها تشمّ رائحةَ ذلك الخوف فتنقضّ علينا [..] إنّ أفضلَ شيءٍ تفعله في هذه الغابة المضمّخةِ بالموت أن تتظاهر باللامبالاة، أن تتظاهر بأنّ كلّ شيءٍ يسير بشكلٍ طبيعيٍّ. كنا مضطرين للتعايش مع الموت..” ص 251.

تتضخم درجة الملاحظة عند السجين وتنمو ، فتثيره أشياء ما كان ليلحظها لو كان خارج السجن. ربما لتقلّص دائرة الرؤية عنده داخل الزنزانة فلا يعود ينظر إلا إلى الأشياء التي نعدّها تافهة ولا تستحق النظر والتأمّل. فهو يلاحق الذبابة والصرصور والعنكبوت والنملة والبرص يتسلل بين الشقوق. وماذا يصنع السجين الذي سُجَنّت معه حواسه وغرائزه غير ذلك؟. ببراعة فائقة يصور مؤلف الرواية هذه الحالة التي تكتنف السجين، فيقول على لسان الراوي الأوّل:

“في الصيف ركضتُ وراء الصراصير، وطاردتُها بلا هوادة، وعرفتُ أن وسيلها للنجاة من أعدائها هي حركتها اللولبية السريعة أثناء فرارها، واكتشفتُ أنها تفترس بعضها بعضاً مثلما يفعل البشر تماماً. راقبتُ العناكبَ وهي تنسج بيوتها بمهارة فائقة، وبعبارة أكثر دِقّة ، وهي تنصب فخاخها لاصطياد الضحايا ؛ فبيت العنكبوت ليس في الواقع إلا فخّاً. واشفقتُ مرّةً على نَملةٍ ضعيفة تحاول الخلاص من فخ العنكبوت، فأنقذتها لأخالف قانون الغذاء الطبيعي، وأطلقتُ سراحَها. وبطريقةٍ ما اعتقدتُ أنها شكرتني، وأنها رفعت كفّيها بالدّعاء لي. تأملتُ قوافلَ النَّملِ المثابرِ وأسرابه الطويلةً وهي تخاطب بعضها بلغة الإشارة، وخاطبتها بدوري معاتباً لأنها تنقل نفايات مخازن الشتاء إلى وسط الزنزانة [..] طاردتُ كلّ شيءٍ حتى ذاتي الهاربةِ مِنّي [..] تأمّلتُ حتى ذرّات الهواء” ص 286.

وهذا النصّ يحتاج بمفرده إلى دراسة وتحليل تتعلّق بالعلاقات المتبادلة بين الموجودات والكائنات Mutual relationship between things and beings.

لم يتجاهل العتوم الحديث عن نهاية التجربة السجنية، وكيف كان السجين المؤمن يراها. فهي تجربة تتسم بخصوصية لا تجدها في غيره:

“ثلاثون عاماً كانت مدرسةً، رأيتُ المعنى الحقيقي للصبر وعِشته، عرفتُ أنه لا عظيم أمام الله، فاستهنتُ بكلّ شيءٍ، وألا كبيرٌ أمام قدرته فلم ألجأ لسواه، تعلمتُ أنّ التعايُشَ خيرٌ من التنافرِ، وأنّ التحابَّ خيرٌ من التباغضِ، وأنّ التقاربَ خيرٌ من التباعد، وأننا كُلّنا لآدمَ، فقبلتُ كلّ واحدٍ دون أن أغيّر من مبادئي، ودون أن أهون في عقيدتي. تعلمتُ أن الجماعة خيرٌ من الفرد، وأن الإنسان إذا قسم نفسه على المجموع ربح. تعلمتُ ألا أعيش لذاتي، حتى لا أكون وحيداً فأنزوي، فأضمحل. كان عليّ أن أتشارك مع الآخرين كلَّ شيءٍ، كانت المحنةُ تجمعنا فتذيب بيننا الفوارق، ولو أننا تشيئنا بتلك الفوارق لهلكنا. تعلمتُ أنّ التاريخَ يسع كلَّ الآراء وكلّ الأفكار، وكلَّ العقول، ولا يحتفظ منها إلا بما كان صالحاً أو نافعاً للناس” ص 469.

___________________

نشر بالسقيفة.

الأجزاء: 12 4

مقالات ذات علاقة

على عتبة العام الثاني: إنّما قاتلَ اللهُ الحربَ ما أبشعَها!

فراس حج محمد (فلسطين)

درس

المشرف العام

الحُب وأشياء أخرى

المشرف العام

اترك تعليق