قصة

مشـكلة الخـبزة

كان المرتضي قد فرغ لتوّه من شجار ساخن مع أحد المتعاطفين مع أصحاب الدكاكين في قضية الخبزة، ولقد تركه مثل كوم عجين بلا ملح ولا خميرة قاب قوسين أو أدني من قطـّاعة الحطب، وإذ ظن المرتضي أن الرجل مرسل إليه بأمر دبّر بفجر؛ فقد واصل طريقه بمشية تحدٍ وتحديجات استفزاز، شاقاً السوق وهو لايزال يلتقط أنفاسه، حينما اعترضه ثانٍ، وبادره بالقول:

– أنت كنك يا كوشة يا لئيم ؟ أيش تحساب روحك نين تعرض إلسيارة الخبزه، ولاّ تبينا انكملوا عمارنا انرمرموا في خبزتك المحمضة!.

فردّ المرتضي وهو يتقدم باحتراس فهد:

– ايش حسك قلت ؟ .

ولم تلتئم شفتا الرجل إلا على لكمة عاجله بها المرتضي كلسعة تحت فكه، رفعت جسده الضئيل النحيل شيئاً عن الرصيف، فارتمى كقشرة موزة على أحد كراسي المقهى خلفه، وتقدم المرتضي وتطلع بنصف جذعه في المقهى وصاح:

– أيه يا !؛ أنت يا شنابو!؟ .

فأجاب القهواجي: – أيوا .

– تعال هن، اقرب جاي، اتحق في هالمودير اللي عالكرسي هذا؟ .

– اسم الله الكريم وهذا كنه ؟ .

– ما كان بك سو، لما يوعى عطيه وحده سيناليكو ليمون؛ علي حسابي.

– حاضر غير إنشالله يوعى.

ثم تقدم المرتضي في وادي السوق الذي صمتت وسكنت ضفتاه حتى كاد الزبائن يسمعون ارتعاش العلب والزجاجات على الأرفف.

هذه هي التفاصيل التي كادت تنتهي إلى أن تكون حقيقية، رغم عدم حدوثها في الواقع، وذلك بفعل هوى الحكائين والمحكي لهم في جعلها قصيصة هزلية قصيرة، كلما طاب لهم أن يستعيدوا سيرة مشكلة الخبزة في القرية أوائل الستينيات؛ على هامش كل سيرة مشكلة جديدة للخبزة، قلت كادت هذه الحكاية أن تكون حقيقية لو لم تزاحمها روايات صغيرة أخرى، طفحت على قشرة الحكاية الأم، التي علينا أن نحكيها لكم من حرف الحاء.

فذات يوم صار للقرية مخبز؛ أو صار مخبز للقرية، فسرح في سمائها صباح ذلك اليوم مع الضباب ونتف السحاب وأسراب الحمام، دخان آخر غير دخان التنانير المسائي الكحلي الثقيل، دخان صباحي مشبع ببخار الماء ومشوب بمزيج من رائحة الكيروسين والخبز الأبيض، وزيد على فروض التلاميذ فرض آخر؛ غير غسل أعينهم بالصابون والنفخ في أكفهم المتجمدة وهم في طريقهم إلى المدرسة، هو إحضار الخبز الساخن لا من الدكاكين وسط القرية، إنما من المبنى الأشبه بمنزل، الذي أريد له أن يكون مخبزاً فكان، فالتقت عند عتبته عشرات الدروب الترابية النحيلة من كل بيت، بعد أن بدا المبنى نفسه كالرغيف؛ بانتفاخ جدرانه وانسيابها واحمرارها الطيني على ابيضاضها الجيري، وبدفئه كالمح من الداخل، حيث الجسم الرصاصي اللون كخزانة حديدية كبيرة، ذو السّرّة ذاتِ العين الحمئة التي قد يصادف وصولك فتحها والتهامها الجهنمي لقطع الحطب ذات اللحاء البني، الذي تأخذ ذوائبه في الارتعاش قبيل أن تسقط في السعير الوردي ذي الأهداب البيضاء للرماد الأول في جنب جسم الكوشة .

وهو العمل الذي كان يبدو وكأنه غير ذي علاقة بصناعة الخبز، وبمنأى تام عما يتم في الداخل، وراء وأمام النافذة المستطيلة – على حدّ سواء – من حيث تمدّ إثرَ العجن حاملات الأرغفة، ليستلمها العامل الوحيد المرئي والمرائي الزبائنَ بحركته الشبيهة بحركة الحلاق حول أول رأس، وهو يجرح صفحات أقراص العجين بموسى حلاقة يعيدها بين حين وآخر إلى ما بين أسنانه؛ ويداويها فوراً بإبهامه برشة من عرق جبينه؛ حتى أن صيحاته المكتومة الآمرة للعجانين تخرج مع ذلك حادة جدا: – (متيلّه يا اولاد الإيه، هوّ احنا هنعطل الأفندية على مكاتبهم يعني، جاتكو نيلة منيلة بستين نيلة عالنهار اللي موش فايت ده).

غير أن المخبز الذي ابتدأ مخبزاً للقرية صار يتحول تحول العجين في الفرن إلى أن يسمى كوشة المرتضي؛ الذي صار يسمى المرتضي الكواش، وعائلته إلى عيت الكواش غيبة وعيت كوشة سخرية، وفوق ذلك لم يكن إطلاق الاسم من قبيل إعطاء الخبز للخباز، إنما لمجرد التهيئة لرصف صفوف الانتقادات التي صارت تنضج وتتالى تترى فيما بعد، على طعم الرغيف. وشكل الرغيف . وما في بطن الرغيف من مفاجأت؛ ليس أولها (نسبة الدّهم) أي مقدار حشرات الدهيمه في الفردة الواحدة؛ وليس آخرها ميدالية مفاتيح المخبز .

وما كانت تلك التعليقات الساخرة التي شارك فيها كل أهل القرية من شباب وشيوخ وعجائز وتلاميذ مدارس، لتصل إلى مسامع المرتضي، كيف وهو الذي كثيراً ما يكون هناك بعيداً عن القرية، في الدواخل يلاحق أوحال وعجاج أسطوله من ماكينات الحرث شتاءً، أو ماكينات الحصاد صيفاً، أو في أعماق الصحراء يواجه سيوف الرمال وراء الطيور “الحرار”، أو غارقاً إلى رقبته في حفر الروماتيزم في أقاصي الواحات، كما أنها لم تكن لتثير فيه شيئاً من الانتباه؛ حتى وهو في القرية؛ إذ غالباً ما يكون في إحدى غمرتين، إما غمرة الإجرآت والاستعدادات و الترتيبات لحفل توديعه وهو يتوجه إلى بيت الله الحرام، أو غمرة المراسم والولائم والتشطيبات من احتفالات عودته من سابع حج مبرور.

وقبل وبعد كل مرة من مرات ذهابه أو غيابه أو إيابه الكثيرة والطويلة، وبينما يكون أصحاب الدكاكين قد أبرم واحدٌ آخر منهم – وما أكثرهم أمام الكواش الوحيد – عقداً مع سائق آخر من المدينة لجلب الخبز إلى القرية، لا يكون أمام المرتضي الكواش إلا أن يتخذ نفس الإجراء؛ بأن يعترض سيارة الخبز عند مفترق الطرق أمام المخبز، ليقنعه أو ينذره أو يتبرأ منه براءة أخيرة؛ من أن تـُرى سيارته في قرية بها مبنى علم ترصّع جبينه لوحة براقة؛ تصيح لكل مقيم أو عابر بأن (مشا الله . والله وكبر. هذا فظلو ربي . نحنو خيرن من عرب واجدة. عين الحسود فيها عود. مخبز المرتضي الحديث) .

وهي اللعبة من الكرّ والفرّ بين المرتضي الكوّاش وأصحاب الدكاكين طالت؛ لكنها لم تدم، ففي يوم من الأيام تقدم لهذه المهمة سائق مختلف تماماً؛ فهو لا إلى أولئك الذين ضعفوا أمام المرتضي الكوّاش فكفوا عن جلب الخبز من المدينة، ولا هو إلى أولئك الذين استدرجهم عنادهم إلى مركز شرطة القرية حيث دحضتهم حجة وجود مخبز للقرية، سائق طويل عريض ذو شاربين كثين وذراعين مفتولين موشمين، قال الناس أنه أرهب المرتضي الكواش دون أن ينبس له بكلمة، قابلها المرتضي بما هو أقل من الصمت؛ إذ لم يستطع رفع مجرد نظرة إلى السيارة وهي تعبر من أمام مخبزه مضببة الزجاج من بخار ماء خبز المدينة، غير أن آخرين قالوا أن المرتضي أكثر فروسية من أن يرهبه سوّاق؛ فيما فريق ثالث يدعي أنه قد تم اتفاق بين الرجلين يروونه على هذا النحو:

– أسمع يا بوصاحب . نا ماني شي ولد حرام . ولا رزقي رزق حرام نين انحط محة كبدي في كوشة ونقعد انتفرج علي سيارتك جاية ماشية بالخبزة من قدامي كل صبح . ولا نا اللي نريد نقطع رزق جابه لك ربك . ريت يا سيدي . خلينا انديرو راي .

– ها . شنو الراي ياحاج ؟ .

– أنت جاي لها النقطة الخاربة يومياً وسيارتك امثقله بالعبو.انظني ما تكره الجية ابها فاضية . وتاخذ التفتوفة اللي تاخذ فيها.

– فاضية ؟.

– إيوا يا سي . تعال قبل الوقت اللي تجي فيه ابنص ساعة . وابرم من هن ودرس قدّام الباب الوراني . وعبي سيارتك . وبعدها خوذ لك برمة لا عند الجبانة. ورد وزع الخبزة عالدكاكين.

– لكن ..

– لا لكن لا شي، وحياتك ما فيه واحد في هالمنطقة المعفنة يشم ولاّ يستطعم، غير توكل على الله، وخلي عندك أثيقة في كلامي . اتفقنا؟.

– اتفقنا.

ومع هذا يبقى هناك من يقول بأن هذه الحكاية أيضاً غير صحيحة، فيبدو إنه إلى أن يتقن الخبازون في قريتنا صناعة الخبز، ستكون الرواية الحقيقية قد ظهرت.

مقالات ذات علاقة

خربشات على الظل

نعيمة اقوية

الغـرفة الحمـراء

نورا إبراهيم

قصص قصيرة جداً

إبراهيم الككلي

اترك تعليق