أنا الابنة البكر، بعدي ثلاثة صبيان دفعة واحدة، ثم أختان بينهما أخ. وهذه التراتبية في الأسرة تفسر أمورا كثيرة وطباعا توالدت معها وبها. لكنني أتذكر أمرين من بينِ أمور كثيرة في طفولتي، لعبي لكرة القدم في جراج بيتنا مع أشقائي بما تتطلبه من سرعة ومراوغة واستجابة القدمين لتخطيط الرأس، أما الأمر الآخر فهو “الخط ولوّح”.
ولأننا من سكان حي الظهرة بطرابلس، وتحديدا بشارع خالد بن الوليد الذي ينتهي منتصفه بسوق الظهرة الشعبي، فقد عشت “الميلود” ببدايته، حين ينقلب السوق إلى طاولات وكراسٍ، وتظهر “الخميسات” و”الدرابيك” و”الشموع” و”القناديل”. كنا نقضي أغلب أعياد الميلود في بيت جدي لأبي، فنقيد الشموع و”الخميسة” للبنات و”القناديل” للصبيان، وكنت أجلس في أحد الأركان وأحتضن الدربوكة وأقود الفرقة في غناء طويل على المصطفى رسول المحبة صلاة الله وسلامه عليه:
هذا قنديل وقنديل
فاطمة جابت خليل
هذا قنديلك ياحوا
يشعل م المغرب لتوا
هذا قنديلك يامناني
يشعل بالزيت الغرياني
ولا أنام تلك الليلة إلا ويدي تقبض على عجينة الحناء، لأنهض في الصباح وقد تبعثر العجين بعد أن جف، وأطلق رائحته النفاذة التي أحبها.
خميسة وشموع وقناديل ودرابيك وأغاني…
وما أن كَبُر أشقائي واستوى عودهم، حتى كنا قد انتقلنا إلى حي الأندلس ثم قرقارش/ السياحية، وأصبح لهم أصحاب وأصدقاء أحببتهم كإخوتي، لكن “الميلود” الذي تواترنا عليه تغيّر. انتقلت “اللاي”/ جدتي إلى الرفيق الأعلى، وحلت عمتي “خديجة” في منزلتها، وكانت تأتي الينا في “الميلود” وتصنع لنا العصيدة صباحا.
لكن ليالي الميلود تغيرت، دخلت عليها الصناعة الصينية، تمخر البحر من الصين حتى المتوسط، فيصلنا “الميش” و”شِطان الشيشة” و”الخط ولوح” بأنواعه التي تبدأ بالأصابع الصغيرة وتنتهي بما يشبه الديناميت… وكل هذا انضم إلى الخميسة والشموع والقناديل التي لم تفقد مكانها ولا أهميتها ولا بريقها، فتجاور التقليدي الهاديء المسالم مع المفرقعات الصينية الصنع.
شهدت فترة الثمانينيات محاربة الأنشطة التجارية ومنعها، وخلقت أسواقا موازية ومنها الأسواق الموسمية التي تصاحب الأعياد والمناسبات، وكان بعض أصدقاء أخوتي قد تفتقت أذهانهم وشطارتهم وخاضوا مع آخرين في هذه الأنواع من الأنشطة التجارية، تعلموا السفر إلى الصين و”البزنس” ليصل الينا كل ميلود أجود أنواع المفرقعات… استمر والدي رحمه الله كل ميلود في الذهاب إلى سوق الظهرة وشراء لوازم الميلود التقليدية التي لم يعترف بغيرها، وكنا نتحلق حوله نشعل الخميسة والقناديل ونردد الأغاني التقليدية، لكنني كنت ألحظ مع الزمن نفاذ صبر إخوتي مع قناديلهم وتوقهم للخروج ليلا واللقاء بأصدقائهم والاحتفال بطريقتهم…ينسل الواحد بعد الآخر مع فريقه، وكنت كغيري من فتيات بلادي تكبلنا التقاليد والخوف..
شيئا فشيئا أصبح “الخط ولوح” وأخواته جزءا من احتفال الميلود.. وشيئا فشيئا امتدت أقدامنا إلى أمام البيت، لنحذف “الخط ولوّح” بعد خطه على علبة الكبريت.. كنا حريصين على قذفه على الأرض…كانت عمتي خديجة قريبة رغم إعلان خوفها وإعتراضها وتمسكها بالقديم وتأنيبنا.. وأتساءل اليوم، لماذا لم تكن تهجع إلى النوم.. لماذا تظل قريبة.. تقتفي أثرنا، أو تجلس على كرسي بلاستيكي في الحديقة.. والآن بعد أن خط جبهتي بعض الخطوط فهمت أن لهذا الخوف لذة خاصة واعتقاد- قد يكون زائفا- بالشجاعة، وذاك القلق عند الوقوف على حافة الخطر، وإنه وبغض النظر عن ما يوجه لهذه الألعاب من انتقادات، فإنها كانت – وماتزال- خروجا عن رتابة المألوف وشعور بلذة الإقتراب من الخطر.
انتقل الإحتفال بالميلود لاحقا إلى بيتي في حي الأندلس، وظلت عميمة “خديجة” -رحمها الله- أحد أطرافه، تمسك بالدربوكة وتغني على القنديل وتشعل شمعتها وتضع آخر ترتيبات طبق “رشتة الكسكاس”، وتصنع “العصيدة” صباحا. يشرف بيتي على “وسعاية” كبيرة، يتجمع بها أولاد الحي، ولأنني أم البنات فإن عادة الوقوف أمام الباب وعدم تجاوزه ظلت تلاحقنا. استمريت في عادة والدي رحمه الله، في الذهاب إلى سوق الظهرة مع بناتي وشراء أدوات الإحتفال التقليدية، وكنت حريصة على شراء “الخميسة” التقليدية بأصابعها الخمسة الجاهزة والمستسلمة للاحتراق. واستمر اشقائي في إحضار المفرقعات، وهكذا نتحلق مع أزواجنا وأصهارنا وأبنائنا ما بين الغناء وصرخات الخوف والضحك والألفة والمحبة.. وظلت عمتي خديجة تقترب وتبتعد وتردد ذات الكلمات “ميلودنا مش هكي”.. وهو في حقيقة الأمر “هكي” ومنذ زمن، وهي تعلم وتعيش تفاصيله.. أو تغلق أذنيها، لكنها تظل محتفظة بمكانها في الحديقة لا تبارحه. أما والدتي حفظها الله، فدائما تتأقلم مع الحديث، مع وفائها للقديم دون مغالاة…هذه المرونة الجميلة جعلتها دوما مواكبة للأجيال ومتفاعلة معهم ومن بينهم أحفادها.
وبعد أن أصبح الميلود في بيتي، خضت مع الجميع حذف الخط ولوح بعد إشعاله من صندوق الكبريت، وتلذذت بنهكة الخطر وأنا أنتظر تلك الثانية لينفجر، وأمارس الجري نحو باب البيت، وأتجاوب مع الضحكات والصراخ أحيانا…أضع عود “شِطان الشيشة” في الإناء الزجاجي بعد أن أشعل الخيط المتدلى منه، وانتظر انطلاقته نحو السماء وانفجاره…
كان كل ذلك جزءاً من اللعب واللهو في ليل طرابلس الدافيء… وفي الصباح اتجه مع صديقتي وأولادنا إلى المدينة القديمة (باب بحر) بعد تناول “العصيدة” لمواكبة موكب الزاوية الصغيرة في الأزقة والسير خلفها برايات “السناسق” على الأعمدة النحاسية، و قناني الفضة المملؤة بالزهر، يرشوننا بها مع إيقاع البنادير والطار، والتغني بمحبة رسول الله صلاة الله وسلامه عليه.
اللهم مصلي ع النبي طيب الأنفاس….
دايم يا دايم … ياهوّا.. دايم يا دايم…
ميلودكم مبروك….