من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
سرد

تاجر الأوهام (4)- قدّاحة الصايع

 

Mohammed_benLamin_02

اتكأ… كان قد ملأ كوب قهوته بما تبقى من زجاجة الجي بي المستهلكة حد الثمالة ليلة الأمس، تداعى جسده المخمور يتحسس العضلات تحاول إيقاظ العظام النائمة، تكسرت بيضة بدماغه فوالجه صداع يستلذه، تجرع قنينة الماء… مدّ يده يمسح السلسبيل الذي جرى بذقنه، نهض مثقلاً يغسل وجهه، شحبت عيناه تبحثان عن مخرج من المرآة، لا يصنع شيئاً حتى يصنع القهوة.. يبحث عن القداحة، أين أنتهى بها المطاف ليلة الأمس؟ كنتُ أشتم رائحة السيجارة الأخيرة، يتمادى خيالها أمامي الآن، كنتُ أفكّر في نظريةٍ ما، ولكني لا أجد القداحة. حدث نفسه، القداحة، القداحة… واشتعال ثورة العمّال، راودته فكرة مقالٍ قد يكتبه، وقد لا يفعل على أيةِ حال، لم يكن من ذلك النوع الملتزم لكتاباته…لا يكتب إلا مخموراً، ولا يسكر ليكتب…بل يسكر ليخمر وينفذ إلى حُلمِ العبث الليلي، أشعل سيجارة، وجد القداحة بالكنبة الجلدية…آه إنها جذابة.. مرر يده على ملمس الجلد الأخضر راوده سؤال من طبيعة كيف يلونون الجلد؟، لا تقلقي يا حبيبتي…سأعود إليك قال محدثاً الكنبة، انغرست داخل الوسادات الجلدية مودعةً ليلته عندما انتابته مرحلة الخنزير وانتفض يقف لا يقدر، البكرج اللعين يحتاج للغسيل…رشه بالقليل من الماء، كانت حواشيه لازالت يلتصق بها وجه القهوة المتيبسة، شهِد العملية ملِلاً… النافذة تطل على مركز ” الشيخ بلال اليتيم للخدمات الإسلامية”،  حدق في جرمِ الشيخ من بعيد يقف محرضاً المارة على الدخول، فتح جزءاً من نافذته ليسمع الصياح … ” هلموا يا عباد الله…. تجارة رابحة لا خسارة فيها”، لا خسارة فيها لك أنت يا شيخ…قال، تذكر الماء الذي يغلي، صرفه عن المشاهدة الصباحية… ملأ البكرج بمعلقتيْن صغيرتيْن من القهوة، بحث عن السكريّة الخزفية، وضع نصف ملعقة صغيرة من السكر…يحب قهوته شيوعية تامة إذ أنه حركها ببطء كنظرية تزحف ببطء من بريطانيا إلى روسيا… وحدق ينتظرها تحاول أن تثور، يخمد الثورة.. أحسّ لوهلة أنه قيصر قوزاقي منتصر.

 يهزّ زجاجة الويسكي ويصب ما تبقى في البكرج، يحرك الخليط ثم يصبه في كوب خزفِي أبيض بظهره أزهار زرق مرسومة، كان اللون الأزرق يخف ويتكثف بعبث الفرشاة واللون الزيتيْ…زيت زيتون من غريان صُبغ بالأزرق، تصنع الأزهار حلقة حول الكوب، يمسك مقبضه بالسبابة يلفها داخل المقبض والإبهام تضغط على أعلاه ثم يحتسيها.. يتكئ على الكنبة، يشعل سيجارة أخرى ويطوف في الوقت يتجرع شيوعيته.

ارتدى قميصه، تمعن في تفاصيله، مرر يده اليمنى على منبت قبضة اليسرى، تحسس جلده ودوّر إصبعي الإبهام والسبابة حول الكم، بدا كحزام يمر بين ترسين، تفاعل إصبعاه مع خشونة مادة كم القميص،  ألقى بكفه الأيمن كاملاً على ساعده الأيسر يحاول أن يردع القميص عن أن لا يفلت، صارت يده تعتلي الساعد حتى وصلت للكتف، إختبأت تحت إبطيه، كان يحس بالبلل الذي يسببه مزيل العرق في بقعة كتلك التي يحدثها سكب كوب قهوة على ورقة، شبه بيضاوية، شبه كروية مع تعرجات وإنتهاء البقعة بزاوية أضيق في أحد جانبيها، تزحلقت بضغط على جذعه، كان يحس بضلوعه وكأنه يطمئن على وجودها جميعاً في مكانها الصحيح، كان يشعر بأنه أخطأ العد، ربما يكون هناك ضلع ناقص، ربما هو ذاك الضلع الذي اختلسه الإله من آدم وهو نائم.. ذاك الضلع ” الطاهر” الذي صنع منه حوّاء، تحرك حتى خصره لنهاية القميص من الأسفل. حرك يده اليسرى هي الأخرى نحو اليمنى وحيث منبت الكف، حيث خشونة القميص كحبات شعير تنزلق، حيث البقعة في إبطه، حيث أفلح في عد الضلوع هذه المرة، حيث نهاية القميص.

حدق في عينيه في المرآة، كان يمكن له أن يرى الأخاديد ذات التدرج الأعلى من لونهما، يبحر داخل هذه الأخاديد، يتذكر الأخاديد التي رآها في القمر والتي تظهر أكثر قتامة من باقي سطح القمر الرمادي، تذكر شيئاً ما مضحكاً، قصصاً نسجتها شعوب بكاملها حول القمر، ربما يكون القمر فتاة تتعرى لتغسل بشعاع الشمس، تذكر أنّ كل مافي هذه الحياة قد تم تقديسه، راح يعدد كل شيء قد قدِّس، اليد، المرأة، الرجل، القطط والكلاب والسلاحف، حتى من حبات المعكرونة والتمر والمال والعمل وروسيا قدّست لينين كما قدسها لينين وهو الآن يقدس كوب قهوته الشيوعية والقداحة والخمول، وعندما يعجز الإنسان عن تقديس المحسوسات الجامدة والمتنفسة منها يتخيل ألهةً في كل مكان ليقدسها، الأخاديد على القمر هي إحدى الآلهة التي قدست يوماً ما، ونسجت قصصاً عن أن كلمة ” الله” موجودة على سطح القمر، سمع الشيخ بلال في أحدِ المرات يصيح بالأعجوبة ويغرسها في أعين الأشهاد. تبدو حدقتيْه كمجرتيْن يفصلهما جبل لا تلتقيان، إننا نبحث عن أسرار الكون في مسافات أبعد من ما نتصور، وإنه لمن السهل أن نكتشف الكواكب فقط، في أن ننظر في أعين بعضنا البعض، سنرى الكائنات الفضائية، والآلهة والاكتشافات العلمية، في دائرة لا يزيد اتساعها عن اتساع رطب الحلاوي.

يتحول لعد نبضات قلبه، يضغط بإبهامه الأيمن على الشريان الذي تحت كفه الأيسر ناظراً نحو ساعته منتظراً بداية الدقيقة التالية، تتحرك شفاهه بخجل متسارع وعيناه تتبعان مرور العقارب، إبهامه يقاوم ضغط النبضات. في الدقيقة التالية، يعد شهيقه وزفيره، ليتأكد أنه لم يصل إلى عشرين مرة في الدقيقة، لا أحد يعلم إلا هو لما يفعل ذلك، ربما كان يحب أن يطمئن على وجوده أو وجودٍ كائنٍ آخر داخله.

وقف أمام صورة وحيدة معلقة في حائط غرفته، خذرت رأسه الشيوعية الصباحية… غاب بعيداً حيث تعب وأرق وحياة مليئة بالسخرية وعدم الثقة، كانت خيوط الضوء تضرب في زجاج الصورة بحيث تنشئ مرآة صغيرة ضعيفة الانعكاس يمكنه من خلالها أن يشاهد جرمه ذائباً كقطعة من الطباشير في عصير البرتقال، كان يبدو متحداً مع الصورة، يقف كتمثال لخمس عشرة دقيقة ومن ثم يرفع يده إلى مستوى صدره ليتأكد من أنه أمضى الدقائق الصحيحة لمتابعة الصورة، يخرج نفساً طويلاً، ويخرج بخطوات حثيثة نحو الشارع، لقد كان مستعداً لهذه اللحظات التي يترك فيها الهدوء وقدسيته ويندمج في موسيقى الشارع، حيث تتراوح نبضات وأنفاس الكائنات حوله، قطط وجرذان الأزقة، العصافير واليمامات والحمامات والأشجار التي تقسو على حجارة الرصيف، الذباب وحشرات القمامة، مستعمرات النمل تحاول أسر قطعة حلوى، كل أولئك البشر الذين تتراوح أنفاسهم ونبضاتهم، أخاديد أعينهم وتفاصيل ملابسهم، وأشكال البقع في إبط كل منهم، اختلاف في كل إنش يراه، في كل ذرة يتنفسها، في كل إنش تطأه قدماه أو تمر يداه عليه، في الصوت الذي يصدر من كل جانب، كان يرهف حواسه جميعها محلقاً بتفكيره في الاختلاف، إننا لا نتشابه في أي شيء، إن الأمر مثير للشفقة عندما يخبرك أحدهم أننا كلنا متشابهون وأننا نعيش تحت نفس السماء وفوق نفس الأرض، إننا لسنا كذلك، إننا مختلفون في كل شيء، حتى في السماء والأرض، بطريقة ما، هذه الأرض تبدو ككون لم ترى منه ذبابة ما إلا زقاق، وبطريقة ما، لم ترى من السماء التي هي فوقها غير عمود الكهرباء العالي، فكر، أنه إذا أراد أن يكتب شيئاً ما فعليه، أن يكتب عن الاختلاف الشاسع في كل الحيوات التي عاشت على هذه الأرض، والتبدلات التي تطرأ على هذه الأرض كل دقيقة، يجب أن يضع بعضاً من أفكاره فيها، يتحدث مثلاً عن القداحة التي بحث عنها في البداية، يكاد يرى بداية المقال ” اليوم استيقظت…بحثت عن القداحة ولم أجدها، قلت سأشعل ثورة إن لم أجدها…تذكرت أنه عليْ أن أجد القداحة قبل ذلك”…. الأرض غداً لن تكون نفسها اليوم، إن أوروبا تبتعد عن أمريكا الشمالية بمقدار إنش واحد كل عام، كيف يمكن لشخص ما أن يقول أننا نعيش على نفس الأرض، ربما أنا أعيش بعيداً عن بيتنا الذي كنت أعيش فيه من عشرين سنة بمقدار 20 إنشاً الآن، وسأنام العام القادم على بعد إنش من مكان سريري الحالي الذي إن بقى في نفس مكانه، وستبتعد عني القداحة اللعينة وسأنسى الثورة التي سأشعلها حالما أجد القداحة، كان يقول.

مضى يمشي بالنسق ذاته، قد يصدم أحدهم كتفه فيمرر يده حيث طبع ذاك الإنسان بعضاً منه فيه، قد تموء في وجهه قطة، فيلمس وجهه ليشعر بالإحساس الذي خلفته على ملامحه، قد تطأ قدمه بركة ضحلة من المياه المتواطئة مع الرصيف، فيغيب في إحساس البلل محاولاً معرفة مكونات الماء ومتى تشكلت، ومتى أضيف كل مكونٍ فيها وكيف، طفلة ما أسقطت مثلجاتها عليها، ألقى رجل ما على عجلة سيجارته فتحلل التبغ داخل البركة، بصاق أحدهم ربما، بول قطة، كل ذلك وأكثر اندمج في بركة ضحلة من المياه، أمعن النظر في حركات الأفواه والأعين حوله، في حركة يد أحدهم ممسكاً بكوب قهوة إلى فتحة فمه، اللذة التي تخلفها على لسانه المليء بأعصاب التذوق، بمرورها في جهازه الهضمي، وتحول الكافيين في دورة الدم إلى دماغه، إنه ذاته تأثير الشيوعية إلا أن الشيوعية تتفاعل خلايا الدماغ لتطلق هرمون النشاط بدفقة في زمن قياسي وهرمون التخذر أيضاً بدفقة، يدخل في عالم لا يعلمه أحد إلا هو، هل يتلذذ بما يفعله؟ هل يزعجه؟ يقف تحت عامود الإشارة الضوئية، وينتشله تخبط ما… صمت يجر إختفاءه وشيء من لا مبالاة.

” ها ها ها إيه الجو اهوا يا سيدي الكاتب، الجو متاع كيف كان ينوض ويومه كيف يبدأ فيه والبرستيج والاتيكيت اللي عايشه، كيف كان متكيف بالبرستيج اللي نايكه لروحه… برستيج المثقف الشيوعي الذي يعيش لوحده، ولد البلاد والبدو وجو أبناء التكنوقراط المثقفين اللي تلبسوا مذهب الماركسية… ها ها ها كثر منه الجو اهوا فهمتا كيف؟!”

كمال الصايع، ثلاثيني لم يعمل منذ طفولته سوى في قراءة الكتب التي كانت تملأ مكتبة والده، كان يعيش منذ الطفولة داخل المكتب المبهرج في الشقة الأنيقة، رأس نمر مفروش بما تبقى من جلده المحنط على أرضية من السجاد التبريزي، وصورة للقائد فوق كرسي جلد على طاولة ذات سطح أخضر وملمس حريريْ مثبت بما تبقى من خشب روسيا أيام طهقة الاشتراكية والتعامل مع الاتحاد السوفياتي في شتى الأمور، به ثخانة في بطنه…أكمل ربع قرن صاحياً أنهى فيه دراسته بكلية العلوم السياسية محارباً لاتحادات الطلبة ومناهضاً مشاركاً في الحراكات الثقافية بين المجموعة التي شكلتها جلسات ” الطاولة المستطيلة” كما سمتها المجموعة في إحدى مقاهي المدينة تحت دقات عقارب ميدان الساعة، خمس سنوات إضافية اعتنى فيها بانتفاخ بطنه واحمرار جلده الذي كان كبقية بني قريته التي تأصل منها يبدو كوجه القهوة حيث يكاد يفور داخل بكرج يخلف لونها البنيْ في مناطق جسده، اعتنى أيضاً بنمو لحية عشوائية وانحدار شعر رأسٍ إلى شيء يشبه الصلع، لا يحلق لحيته إلا لموعدٍ غراميْ… كان يعيش وحيداً منذ العشرين من عمره في شقة فارهة خلفها والدٌ عرف في حي التوت بثراءه واعتباره أحد البناة المجددين لأزقة الحيْ وأبنيته، راصف الأزقة جميعها قد أطلقوا عليه، كان رجلاً بأهمية كبيرة قبل أن ترده الحياة ويغلبه تعاقب السلطات وانتقالها المسلح إلى مدينته يحتمي بها من أي شيء، من فقدان ثروة، من هياج ثوّار أو عقوبات تفرضها السلطات الثورية على بني سلطته التي كان يمثلها، لا أحد هنا يأمن إلا إذا كان بين أهله…سلطة القبيلة تفوق سلطة الثورة، سلطة الدين وأي سلطة شرعية وغير شرعية أخرى.. بقت الشقة ترزح تحت الظلمة إلى أن قطنها الطالب الجامعي، شقة تحتل الطابق الخامس كاملاً من عمارة تعود لوالده وتعود عليه بإيجار شهري وفير في زقاق الحنّاء المسمى ” شارع الفيلّات الجديدة” مقابل سوق التوت، مجموعة من المباني القديمة سويت بالأرض وبقي الزقاق الذي يفصل بينها يسع سيارة ونصف يفرق بين مجموعة المنازل الأنيقة إمتلأت بالأغنياء الجدد وأثرياء الحي القدماء، بنى والده عمارةً بخمس طوابق، وصنع لنفسه شقة فارهة في آخر طوابقها، أقام لها مصعداً ليصلها بسهولة… كان إيجار نصف العمارة الشهري يعود إلى جيب الفتى البدوي الشيوعي.

  • مدام حياة؟ صباح الورد… آه صحيح هو الزوال دائماً في هذه المدينة، لكن الصباح هو الصباح عندما تؤكد كائنات جميلة مثلكِ حضورها رغم سلطة الشمس، تتذكرك وأنت تحارب الصحراء والقبليْ والشمس اللئيمة والكائنات الترابية في منتصف نهار آخر الربيع….

تخرج ضحكة عُدت عند المؤمنين من مزامير الشياطين، هاجت به بقايا الشيوعية: كوب القهوة بالجي بي المنذر بفراغ خزينة أقنية الكحول منذراً بوقت العمل ومشكلاً نفيراً ليوم حافل بالحقيقة إن لم تغزل التوتة ما غزلته دائماً تحتها… شيء من عدم الثقة في دماغه نظيفاً من الخمر المتبخر، لم يثق في قدرته لا على الحديث أو المغازلة أو التفكير أو حتى التعامل بحرية مع الناس… نعم ها هي الحرية أمامه، وهاهو يطوعها صحبة الثقة والشجاعة في قنينة من الزجاج مليئة  بكحولٍ ذهبيْ أو مائيْ.

  • ها ها ها… كيف حالك يا صايع؟! ضحكة أنثوية انفلتت مرة أخرى من سماعة هاتفه، هاج.
  • لقد ابتلينا يا مدام… إنه مجرد لقب، أما أنا فملاك لا يفقه في الأمور البشرية شيئاً كما لا يخفى عليكِ.
  • لا أحب إلا الشياطين كما تعلم.
  • تسبقين الأحداث دائماً يا مدام… أنا ملاك ملعون.
  • ها ها ها ها

هاهو عزف الإغواء يزداد… هاهو يؤلف موسيقى لفخذيه يجعل عضوه يتراقص، أنهى المكالمة.. أراد أن يخبرها بأنه سيرحب بمساعدته لها في تغيير الإطارات متى شاءت، الجار للجار يا مدام…غرق في حلم، أشعل سيجارته وانصبّ يراقب الشارع، يقف هنالك لدقيقتيْن قبل أن يقطع الطريق دون أن ينظر للإشارة الضوئية، يخوض داخل القيلولة وداخل الحديقة الواسعة التي تفصل أبنية الحيْ عن شجرة التوت والتي تفصله عن الجبانة والأموات قليلاً قليلاً، لطالما كانوا يحذرونه من الخروج بالقيلولة في طفولته… قالت له جدته البدوية : القيلولة وقت الشياطين… يخرج إبليس للعمل في هيأة عجوز رديئة الملابس، عزوز القايلة يسمونها… تخطف الأطفال، تخفيهم في رداءها الأبيض الوسخ يشتمون رائحة البخور والحنّاء والحلوى داخله… تتكئ على عكاز صنع من حلوى غزل البنات…كان يسخر من أحاديث جدته، يقف تحت الشمس في منتصف النهار ينتظر ليرى الشيطان، تلك العجوز… أحياناً تتلقف عيناه عجوزاً بذات المواصفات أمامه فيتوجس إلا أنه يبحث عن عكاز حلوى الصوف فلا يراه، كان يريد أن يناديها ” هيه أنتِ أيتها العجوز… أنتِ عزوز القايلة فأين الحلوى؟!” لكنه كان يقف شاخصاً لا يتحرك، لا يتحدث، يتمتم بالمشهد في عقله وكيف انتصر على العجوز الشريرة، تأكل القبليْ ساقيه العاريتيْن حتى الفخذين، ينصهر منتصراً على جدته مفتخراً بقدرته على الوقوف أمام العجوز التي كان سيهرب أول طفل يراها من مشهدها، يوماً ما سيخبرها بما يشعر به دون أن يخاف من حقيقتها أو ما ستفعله به، يتوجس خيفةً من تعذر قدرته على نطق الكلمات بشجاعة دون تأتأة وبحث عن مفردات تلائم الموقف.

” ها ها ها المريض ماكانش زابط إن لحنّاه وجهة نظر، إيه القايلة منيْكة أكثر من الظلام يا احبيبي… ليل تحتمي فيه بالظلمة وتغازلك بعضاً من البرودة، لهو أفضل من القيلولة، أطلع الشارع جو التلاتة ودور الحي التوت، مافيش باش تحتمي من الكون والشمس والفراغ الذي يطرأ بالشوارع، السرّاق يهيجون…الصياع يتكابدون تحت الظلال، الليل للسكارى والحرايمية المحترمين والقايلة لأمثالي، أحسن وقت بزنس فيه، فيه تريس تبي خدمة ديما وفيه اللي ماعنداش إلا القايلة يهرب فيها من البشرية، بعدما يعكس العكسة الحزينة متاع نص الساعة هذيكا في الشارع يدخن، يتقدم باش تصهر سحنته الطريق فيذوب إلى أن تعيده ظلال التوتة من عالم السراب، يلج السيارة…كان واضحاً منذ البداية، مافيش نفخ ويعرف شن يبي، قال لي : عندي مشكلة في الحديث…أريد أن أتخلص من مسمار يطبق على لساني، أخرجت قنينة البوخة البلاستيكية…دائماً ما أجعلها بحوزتي لعل وعسى، نظر في البداية إلى الكأس…توجس، لم يشرب قبلها، نظر متخشباً للقنينة البلاستيكية، ظنّ أنها ماء عكرة… ها ها ها مياه عكرة، كل شيء هنا هو مياه عكرة يا صديقي…نحن نغوص في بركة من خليط المياه ومياه المجاري وبول القطط ولعاب البشر وما تبقى من عقب السجائر، نحن عقب السجائر التي تطفأ في نشازة صفحة الماء يا برذر…نحن الذين يلقي بنا القدر وتبقت لنا شعلة نحتمي بها إلى هذه البرودة، قلت له: اشرب يا رفيقي…اشرب باين عليك مثقف! تي شن تحساب النيهوم وما تبقى من البقية ما تفتتش كبدهم من البوخة والمكرشم قبل ما يكتبوا وينظروا علي زكم حياتنا…تي أشرب وعيش يا رفيقي”

  • الرفيق كمال الصايع! أهلاً وسهلاً…
  • زجاجتيْ فودكا.
  • لا لا يا رفيق، مش هكي ..غير شن فيه؟ أخرجت زجاجة البوخة خاصتي، سكب له نصف كأس…تجرعه دفعة واحدة.
  • حي خرائي، كثرت فيه اللحى…وقل الكس.
  • آه والله معاك حق، ناكولنا البزنس يا راجل…
  • التجار باسم الدين، الدين يا رفيق…إعلم أن هؤلاء وأمثالهم يشغلون عقول الناس ويستغلون أحلامهم مقابل جنات لهم في الدنيا وجنات للأخرين في الآخرة.
  • بجديات يا رفيقي…لكن شن بدير هيْ.

كان كمياه بركة عكرة راكدة، ألقى التاجر سيجارته ونظر إليها تنطفئ في الموجات التي تصنعها داخل البركة، ينتظر أن تتسع حلقة الماء حتى تصمت…

  • ما عندك ما ادير غير الصبر! ألقى سيجارة أخرى للتسلية… وصب كأس أخرى، أشعل سيجارته وحدق في ظل التوتة، هدهد كان يقف على أحد الجذوع يغني…كان منقاره ملطخاً ببقايا دودة التقمها فتمزقت لسوء حظه إلى جزئين تبقى سائلها على جانب المنقار، لونه البني الملتهب بان تحت خيط شمس القيلولة يهف على جناحيه… سحبته السيجارة حيث لا يجب أن يذهب، آليس في بلاد العجائب… قال للتاجر ” والدي كان به بعض من شيوعية قبلية…ابن القرية وعشيق الماركسية، شيء من دمج عشوائي واختيار بدائي لما يلائمه ويلائم طبيعته من أسلوبيْ الحياة… نظرياً آمن بالحل الاشتراكي، تبع الاشتراكية الليبية ونظر لها وصفق في الساحات وجرى وراء ركب القائد، درس في بولندا العسكرية ودرس في القرية القبلية وفي بولندا عاشر شيوعية بولندية وذاق من بين فخذيها النظرية العالمية الثانية، لعق نظرية ماركس ولحس مثلث لينين، ماركس وإنجلز لكنه رضي بما ترضى به القبيلة، لحس من بين فخذيْ أمي شجرة عائلته كلها، ناك حدّ التصحر العادات والتقاليد وأفرغها ينبت ما تبقى من شجرة القبيلة الكبيرة إلى أن ولدني… كان واضحاً أن الفتى جاء ليتم المشوار الذي لم يستطع والده إكماله، أن يقلب الموازين… ينيك القبائل الليبية ويتزوج الشيوعية، أنا هنا لأنيك لعنات القبيلة وأحب قوانين ماركس حية…لزاماً لذلك أن أتنكر للقبيلة، هذا هو التطور يا صديقي التاجر”.
  • آه، التطور… هذا متاع القرودة والجو اهوا والاه؟!
  • اسمها نظرية النشوء والارتقاء
  • والله يا رفيق أنت زابط إني خاش جديد عالجو اهوا…كلها زي بعضها عندي، قرودة علي بنادمية.
  • هذي أنقى درجات الماركسية
  • تي كيف املا… خوك روسي ره، شوف ها حتى اللحمة بيضاء.

يفسح المجال لما تبقى من يومه، عليه دائماً أن يتأكد من أن لديه الكمية المناسبة من الكحول حتى لا يجد نفسه في عازة، في العشية يجالس مجموعة من أولئك أصحاب الأفكار المتطابقة، كانوا يسمونها ” الطاولة المستطيلة”… طاولة خشب بمقهى في منتصف المدينة، يخوضون في أحاديث مبتذلة عن الثورة، الإنسان، لم يتركوا شيئاً لم يتحدثوا فيه حتى الطماطم ومؤثراته وكونه مقدساً عند بعض الشعوب أم لا، الطماطم كفاكهة واظب العديد من المفكرين على أكلها، وما إلى ذلك من الأحاديث الطويلة المتحذلقة، يلقون بأفكارهم على طاولة الخشب، يحرقون سجائرهم وينفضون في الهواء كلماتهم، لا أحد منهم يجمعها لا في ورق ولا في ساعده ليعمل بها، تراهم متحلقين حول طاولتين، صعاليك الحركة اليسارية وممثلوها الرسميين، الطاهر فتىً شعريْ هو أحد قادة الجلسات، يكاد لا يتحدث من  الإثنيْ عشرية الذين يواظبون على حضور الجلسات إلا أربعة: كمال، الطاهر واثنين مشاكسين، متطفلين على المجموعة كانا دائماً يشاكسان بالمعارضة، البقية إما يخوضون في أحاديث جانبية أو يشاركون بمعدل كلمتين في الدقيقة إلى كلمة كل خمس دقائق، كان للطاهر رغم صوته الجهوري شيء من الأنوثة اكتسبها أو ولدت معه، فتى يحمل تناقضيْن داخله… وحيد بين أخواتٍ إناث، يحتفظ بعادة صبغ رأس إصبعه الخنصر الذي يبدو ضخماً في الحناء صُبغ عليها منذ طفولته، كان وهو يتحدث يحاول دائماً إظهار الصبغة على إصبعه بحركات تكاد تخبر أنها اصطناعية كأنه يحارب أصواتاً داخله تخبره أنه يشبه الفتاة في تصرفاته رغم ذكورية جسده العجيبة، صياح وضحكات أطفال داخل عقل الفتى الشعيري الضخم، يتحدى أعين المتحلقين.

  • أعني، ألا ترى أننا لسنا متحررون كما ندعي، أعني أنظر حولك…أنظر إلى ذلك الرجل المرتدي قبعة عسكرية، تمعنه…أنظر إليه فغالبا ما سيكون قد سلب حرية ما يفوق عدد أصابعك من الناس: أخته، أمه وربما جدته إذا تسنى له ذلك… إذا تسنى له كلاشن سيتعين عليه أن يسلب حريات العديدين وبما فيها حياتهم…نحن لسنا متحررون كفاية، لو كنا كذلك… ما كان لي أن أخبئ الكثير من ما تلج به نفسي…ما كنت لأتحدث بصوت خفيض ويتحدث صاحب القبعة العسكرية بصوت عال حتى يمكنك أن تسمع كل كلمة يقولها من هنا. حدثهم الطاهر وهو يحرك يديه رسماً لعاطفة تتقد داخله، يتداعى جسده كسعف النخيل يهفه حتى هواء الربيع، يعلو صدره عندما ينفعل مع كلمة… يندهش إندهاش فتاة، كان كمال يحدق فيه متمعناً بنزق ما تبقى في رأسه من كحول، قال:
  • أرى أنه واجب على كل مواطن في هذا الوطن المنيك أن يجرب كل الأمور التي يخافها حتى ندرك أننا في مجتمع للشواذ جنسياً، ضغط على الكلمة ونظر إلى ردة فعل الطاهر وجال في باقي الوجوه التي هلع بعضها يضحك ويهزل…أطلق أحدهم نكتة، كان ذلك النوع الذي دائماً ما يحاول أن يتحدث بنكتة لا بغيرها، فلسفة كوميدية يراها عميقة، قال ” النيك…النيك حتى الشذوذ معناها ها ها ها”، وقد عرج لقصة لرجل وقع بين أيدي قبيلة بدائية كان عقابهم للغرباء إما أن يضاجعه جميع رجال القبيلة أو أن يقتل… سأله الجلاد ” الموت أو التشي تشي ( يقصد العقاب الجنسي) ؟ ” يقول الرجل ” الموت ” وهو يتفحص الأجساد المتعطشة، يقول الجلاد” إذاً… التشي تشي حتى الموت!”.
  • النيك؟ نعم إنّه يفضح الكثير دواخلنا، وحوش جائعة للحم البشري نحن، هناك في قريْتي تسمع قصصاً عن حفلات معاشرة مع الأغنام، تسمعُ عن قصص فتيان يضاجعون الأغنام…الحمير والبقر حتى، فيتش البقر يا صديقي كجنونه، يستعملون هناك مصطلح ” سكرت عليه”، عندما تنقبض فتحة الشرج للحيوان المسكين، لا يفرقون بين ذكرٍ وأنثى… تراه ماسكاً بقرن خروف ويفرغ فيه رغبات الوحش الجائع، الدم المتدفق في جهازه التناسلي يكاد يمزق العروق الملتفة حول القضيب، سؤال يخطر ببالي دائماً عندما أسمع قصصاً مثل هذه: كان من الأفضل أن يضعه في فتحة شرج ذكرٍ مثله بدلاً من أن يجازف مع بهيمة لا تفهم… ربما معاشرته واختلاطه اليومي بهذه الحيوانات يجعله يشتهيها جنسياً بدلاً من أن يبحث في هموم الجنس الشرعي أو الجنس اللاشرعي حتى، لابد أنه وفي ضمن هؤلاء الرجال الجالسين اثنيْن قد مارسا ” الحب فيما بينهما…عندما يتعود المرأ حتى على رؤية الكتب فقط قد تجد قضيبه بين كتابيْن ها ها ها. قال كمال ثم أجال النظر في الجميع، كأنه يبحث فيهم عن معارضٍ لما يقول… شخص عند سحنة الطاهر، كان جسده المصبوغ بمسحة من صبغة البازين، دقيق شعير بلل بماء وصنع منه جسده، إلا أن داخل الجسد لبثت فتاة كان الأطفال ينادونها ” الطاهرة” وهم يمسكون بإصبعه المصبوغ بالحنّاء.

” ها ها ها صاحبنا كان محشش، قلتلك من قبل متاع نيك، كل فعل عنده لازم يحوله لكلمة نيك، كان مفكر عصره عندما يخالط أعصابه الخمر، يرميك بحركاته البطيئة وينقض عليك بحججه بثقة، بشجاعة وبشيء من الاعتزاز، وحدة من هالنظريات كانت نظرية النيك العامة، كان عنده حتى نظرية النيك الخاصة… يقول فيها : كلما تكون مكبوت أكثر، كلما ازداد معدل استخدامك لكلمة ” نيك” في أفعالك، كأنك كنت تتمنى حقاً أن تقوم مثلاً بفعل نيك القهوة أو الشطيرة أو حتى نيك السجائر، ها ها ها تخيل نفسك تحاول أن تجد فتحة تشكل فيها قضيبك بالسيجارة؟ ها ها ها ها … مسخرة يا سيدي الكاتب، مسخرة والله”.

تحوّل الحديث إلى التجربة، تطلّع المتنبّي ببدلته الأنيقة إلى الجمهور الجالس وأراد أن يلقي بخاطرة شعريْة تتعلق بالتجربة، كانوا يدعونه المتنبّي إلا أنّ قدرته على الشعر لم تكن بتلك الحافلة بنابغة شعرية، أشعل سيجارته ببطء، كان يحتفظ بقدّاحة فضيّة. يحدق فيها كمال ويتأسف على شيوعية حاضرة أمام برجوازي استقرت عيناه تفحص بورجوازية المتنبّي… جاكيت من النسيج الستان الأزرق يمر في حوافها خيط أبيض، شيء بها يخبرك أنها لا تقل عن مئتيْ دينار كتخمين مبدئي، يحاول في ملامح وجهه الروح الشاعرية…تراه كمن حُقِنَ بمخدرِ يجعل الحاجبيْن يتقوسان والأعين تلتمعان، تعامله مع السيجارة بلطف مصطنع ازداد من تأسف كمال على نفسه… أخبرهم ” كزجاجةٍ أنا… أجرّب خمر الحياة وألتمس قدرتِي على تحسس مذاقه”، ” آه الخمر…. مذاقه، اشتقت لمذاق زجاجة الفودكا”. احتقن خد الطاهر، عجب كيف تتمكن بعض من الحمرة الانغراس داخل كيس الشعير هذا، تمخضت المجموعة من أيدِ لاحت تصفق كان أحدهم ذلك الكوميدي المفتعل، كان بالمقهى عشرين طاولة مليئة بالذكور… لم يكن بالإمكان أن تجِد فتاة واحدة على الأقل تستقر في طاولة واحدة يومياً، الفتيات لا يأتون هنا إلا في الصباح أو قليلاً قليلاً في المساء قبل أن تختبئ الشمس وراء الأراضي البعيدة، دسّ كمال يده في جيبه، كان يبحث عن علبة السجائر تذكر أنه أنهى السيجارة الأخيرة عندما كان يتحدث عن دفعه الثمن من أجل تجربة الحياة، قال إن الحياة أمامنا وعلينا إذا أردنا أن نقيم عامود الحركة اليسارية أن نخاطر ونجرب، نحمل السلاح إن أردنا…ازداد تلهباً وتشجعاً : بأيدينا وبنقدنا للذين يتربصون بنا ومواجهتنا لهم تقوم الحركة اليسارية لا بغيره عندئذ ألقى الكوميدي المفتعل نكتة قائلا ” علينا أن نجرب نيك الخرفان إذاً”… خاضت المجموعة في قهقهة ترددت بين الطاولات الممتلئة، أحدهم نظر إلى المجموعة وقال “هاه مجموعة من المخنثين”،  فتح العلبة أخرج السيجارة الأخيرة، لعن سوء الحظ وقلة الحيلة…كانت سيجارة الكاريلّا تتمخض الآن بشيء أكثر من النيكوتين، بالتحدي. سأل من الطاهر خصيصاً أن يصاحبه لأقرب كشك سجائر.

” ها ها ها أقسم بالله إن الوضع متنيك غادي، كانوا امسمينها الطاولة المستطيلة، الجلسة فيها افتاتحية وكلمة أخيرة والجو اهوا، طبعاً ما تفتحش الجلسة إلا لما الجميع يكونوا حاضرين… مرة مرة تشد معاهم في جنس ناعم يقعمزوا معاهم، هذاك اليوم الجزء الأكبر اللي ماكانش يتكلم وينتش دوبة دوبة من جوانب الحديث تطلع قدراته البلاغية، حتى الكوميدي المدّعي كنت تسمعه مرة مرة يلوح نكتة فيها حس أنثوي واضح… كمال كانوا يسموا فيه الاتيكيت، الاتيكيت متاعه كان يكون رهيب وطاغي عليه في حضور مؤثر جنسي عالساحة، في أحد الأيام كانت تجالسهم ميسون البتشة، تو نحكيلك عليها، المهم أول ما تقعمز كان ينوض تبجيلا للأنوثة من جميع نواحي جسده ويصافحها والبسمة قريب تاكل وجهه، جي ” القرصون” متاع القهوة، قهوة وفيها قرصون… تي هذي بروحها كبيرة في بلاد زي هذي فيها صحاب القهاوي أغلبهم مخنسين من اللي يقعمزوا ويروحوا هكي ها ها ها شعب منيك ومخنس، المهم متشبعاً بأداب الاتيكيت كان كمال له برستيج لا يلومه فيه أحد…لا تلمه، فأنا مثلاً أحب أن تكون سيجارة الحشيش معدة بإتقان فحتى إذا ما أردت تصويرها يمكن بسهولة عرضها كإعلان في لافتة ضخمة يمر من تحتها الألاف كل يوم… كان غالبا ما يتغاضى عن برستيجه واتيكيته، وين كنّا؟ ايه… المهم الولد القرصون غلط غلطة وناكله كمال يومه قدام ميسون، كان كمال لا يأتِ للمقهى كثيراً حتى لا نقول أنه كان يترصد الفتى، عندما يأتي يطلب كوب أبيض صغير به قهوة اسبريسّو وقنينة ماء… جاءت ميسون وكانت من ذلك النوع الذي لا يتعب في الحديث عن المرأة وحقوقها وأنها شغالة بطبعها، هي رائدة البلوريتاريا وولادة الرجال، تتحدث لك عن المساواة والعدل وما إلى هنالك من ما تتحدث فيه النساء أمثالها اللاتي يغسلون ويشطفون المنازل مرغمات لا محبات، أحد الأيام عندما جاءت ميسون، أخذ القرصون الطلبات وجاء، كانت ميسون قد طلبت ما تطلبه عادةً ” كريب” بكل ما فيه من سكر يكاد يخترقك، جلسة صباحية تسترقها من الجامعة صحبة صديقاتها هاربة من حياة أخرى…كان كمال لا يستيقظ صباحاً في العادة ولكن لمثل هذه المواعيد كان يضحي بغضب وجنتيه الصباحي وإضطراره على أن يفتح عيناه على صوت المنبه من أجل رؤية شيء ناعم ممزوجاً بالثقافة…عندها يرخص لنفسه أن يشرب كأسيْن من الكحول، الصباح سيء إذا لم تعرفه مخموراً أو فاقداً للوعي…كان يؤمن. حدق في القرصون، شعر بحقد فيه، كان الفتى العربي يمتع ناظريه بنهديْ ميسون الذين يتضخمان داخل الكنزة، أحب أن يؤدبه… كان لا يحب أن يمتع أحد ناظريْه بما يمتع به هو عيناه في ذات اللحظة، كان القرصون يكاد يلتفت عائداً لعمله بعد أن مرر جميع الطلبات، نظر إلى كيفية وضعه للطلبات وناداه وقال:

  • أنت قارسون صحيح؟!

أجابه الفتى متفاجئاً من النبرة الإستعلائية التي تخبئ عدوانية.

  • نعم.. ممسكاً بالسفرة خلفه.
  • إذاً أنت عامل!
  • نعم! مبتسماً ومتوقعاً محاضرة ما قال الفتى.
  • وهل تعلم أنه على العامل الحق أن يتقن عمله؟ كيف سيكون دورك في ثورة العمال عندما يناديك وطنك؟ ثورة العمال الحقيقية تبدأ من هنا من وضع صحيح للأكواب، الصينيات، الملاعق والسكاكين والأشياك، هنا عندما تعمل بضمير – كان يلقي المحاضرة مؤشراً بيده على طبق ميسون، سكينها والشوكة وضعتا منحرفتان عن مكانهما من ما يعلمه الناس في مدارس تخريج الناذلين وبطريقة عشوائية تملأ فراغات طبق البيض المخفوق في نصف كوب حليب ورشة ملح كما ثلاث مثلها من السكر والمضروب إلى أن يصبح بلزوجة البيض المضروب وحده، ذلك الطبق المسمى الكريب.

كانت ميسون تراه مبتسمة وخجولة، فرحة وحزينة على الفتى المسكين، كان هو يراها منتشياً وثائراً، منتصراً ومتلهفاً لتقبيل الفتاة في يوم من الأيام ربما، أن يعرج على جيدها ومن ثم ينزع كنزتها ويقابل الثمرتيْن، أن يمسح بيده على يدها ويغرس أصابعه بين أصابعها، أن يمر على الجسد المرمريْ ويرقص بصوفية على السرة، يلج ما يمكن إيلاجه، تمر المدام حياة في خياله، يرى نفسه يغير عجلات سياراتها يومياً بعيداً عن زوجها الصيدلاني العدائي، أن ينسى جسده في حمى جسدها الإغوائيْ وأنوثتها المتضخمة، قدرتها على جذبك بسهولة، وأن تطبق عليك بسهولة وأن تتخلص منك بسهولة، بسهولة سيلقي بنفسه راكباً إياها، ربما يركبهما الإثنتيْن في الوقت ذاته، ستكون ليلةً ذات خمرٍ ونساءٍ فقط، عربية عربيدة تذكره بالأجداد القدامى في حفلاتهم الحمراء، يسلم لنفسه للأجداد ويسلم نفسه للجنس الناعم بما يتبقى من ذكورة فيه،… ” من ذكورةٍ فيه، ها ها ها ها… خلينا نولوا لهذيكا الليلة”.

دعاه، استيقظ رأسه يكاد ينفجر، رأى الجسد الشعيري مستلقٍ بجانبه، فخذاه، عموده الفقري، كتفه وذرعاه..وركيْه كل ما فيه عارياً لا شيء إلا اليورغان يغطيهما، يده… إحداهما كانت تغطي كتف صاحب الجسد الشعيري، شعره الحريري يصل حتى شحمة الأذن، بالشحمة ندبة لم يكن قد لاحظها من قبل، كانت كأنها بداية حفرة توقف الحفر فيها نظراً لظرفٍ ما، تحركت يده لا إرادياً نحو تلك الندبة، داعب الأذن… تحرك الجسد الشعيري، كاد أن يستيقظ… كانت لحيته الخفيفة قد أعادت له مشاهداً من الأمس.

  • ما رأيك بما أننا قد عانينا أتعاب دخول أزقة المدينة أن نكافئ أنفسنا هنا بتدخين سيجارة… منظر سينمائي لا يفوت يهون على النفس.
  • يهمني حقاً أن أستمتع بتجربة الحياة.
  • يهمني أنا أيضاً… ما رأيك أن تبيت عندي الليلة، الوضع غير مطمئن…لا أنصحك بالمبيت في المنزل، سيأتون من جديد.

تجولا في أزقة المدينة بحثاً عن كشك للجاسئر أضاعه كمال من ذاكرته، دخلا الأزقة من باب الحرية.. كان هنالك عند الباب مجموعة من الأطفال يكادون يلعبون الكرة، طفل بحجم عقلة الأصبع يظهر منبت مؤخرته في الشورت الخفيف كورق البافرة تعيش على نسيجه الأتربة والمزق، كان يمسك بالكرة ويأمر أحد الأطفال أن يضرب فتىً ليسمح للجميع أن يلعبوا، كان الفتى المراد ضربه أكبرهم ولا يتعدى ارتفاعه ارتفاع الهامبورغا المرصوفة تحت شجرة التوت، بقية الأطفال كانوا يتراوحون بين نصفه وثلثيْه، الطفل المأمور كانت يداه بالكاد تصلان إلى خناق الفتى الذي احتمى بالسكون والحائط القديم، أمسك أخيراً بخناقه وراح يلكمه، كان صاحب الكرة يأمر طفلاً آخراً أن يساعد صاحبه ” هيا اضربه وإلا لن تلعب أنت أيضاً”… ضحك كمال بينما توجس الطاهر خيفة في نفسه، قال له ” صاحب الكرة سيكون قائداً يوماً ما…ربما آمر مليشيا كاملة ها ها ها”.

تمشيا على الأعتاب، استرقا أحاديثاً طويلة…أزقة المدينة لا تجامل أحداً، القطط الشاردة تختلس هدوء القمامة بين المباني المتراصة، جدرانها تريد أن تنقض وبيوتها أيضاً لولا أن تلاصقها واحتماء كل منها بالآخر كان يقيمها، ” كشك” معدني محصور داخل الأبنية الجصية القديمة، علبة محشورة في مربع لحانوت قديم أقعده الدهر مبعثرا ومحطما إلا من بقايا أحجار يجلس عليها فتىً لا يكاد يبتعد بطوله عن الفتى المضروب يدخن سيجارة يخبؤها بين إصبعيه الإبهام والسبابة، تساءل الطاهر: كيف أمكن لفتى أن يكون في مثل هذا المكان في مثل هذا الوقت بمثل هذه الوضعية؟ مرّ بذاكرة كمال كل أولئك الأطفال في هذا الوقت من الليل، لم يرى حتى الآن أي رجل…ربما الأطفال هم الذين يقطنون هذا الزقاق، يلعبون الكرة…يدخنون وربما يسكرون ويمارسون الدعارة والجنس، لو كانت به بيدوفيليا لبحث عن أول طفلة بين نوافذ البيوت المتراصة ولتخيلها تدعوه للمعاشرة ردّ كمال بسؤال آخر: كيف أمكن لعلبة صفيح مثل هذه أن تكون في مثل هذا المكان بمثل هذه الوضعية وبمثل هذه الإنارة التي تزيد من ألق العبث؟

  • نحن تحصلنا على تعليم وفرصة حياة أفضل. قال الطاهر متأسفاً ومشمئزاً من الأسنان الصفراء لبائع السجائر الفتيْ.
  • آه، وشقة على قارعة حي التوت بالنسبة لي. أجابه بشيء من السخرية والانتصار.

كانت أغنية ” All good things  ” لنيللي فورتادو يغني بها اهتزاز هاتف ما، تحسس كمال جيبه…كان يعرف أنها ليست نغمة رنينه ولكن صوت المغنية وهي تكاد تبكي جعله يفكر في كل النيران والغبار، كل المياه النقية والبرك القذرة، كل أقنية الكحول الممتلئة التي فرغت، وكل المؤخرات الحسناء التي لم يتسنى له أن يمسها حتى، كانت الأغنية تكاد تنبع من صدره لا من هاتف الطاهر، رفع السماعة…صار بصوته شك، حيرة، حذر وخوف…أنهى المكالمة بسرعة، كانت يداه ترتشعان، لم يتمكن من إيقاف الرعدة داخله، وضع كمال يده على اليد الشعيرية … ” ها ها ها ها، صاحبنا كانوا يدوروا فيه، موضوع كبير صاير معاه… تي كان ما رقدش ليلتها عند الصايع راه امتسح من علي وجه الكرة الأرضية…اتصلت بيه أخته وقالتله إنه فيه ناس مسلحين جوا يدوروا فيه، كانت تبكي وقريب تهبل كان من الممكن إنك تتحسس الدم على شفتيها من سماعة الهاتف من أثر الصفعة التي ألقيت في وجهها من أحد المسلحين ها ها ها ها”.

ارتدى قميصه، تذكر ملمس اليد التي كانت تتحرك في مكان القميص، قنينة فودكا ملقاة على الأرض، كأسان زجاجيان مختلفان أحدهما كان حائطه البني سميكاً مكعباً بذات الطريقة التي تتكور فيها قبضة اليد حول برتقال البوصرّة، الآخر كان من قطع الانتيك التي ملأت بها أمه الشقة في أيام وسواس ترتيب الأثاث وقطع المائدة من كؤوس وصينيات وأطقم قهوة وشاي في كل مكان، طاولته نفسها هذه التي تحتل الصالون وتستضيف الشيوعية كانت تحمل برّاد شاي خزفي أبيض صُنع في ألمانية الشرقية، ألمانية الاشتراكية، يتسع البراد في أسفله إلى أن تنتهي جدرانه العلوية بقطر أقل من السفلية وغطاء خزفي تعلوه وردة زرقاء… الوردة نفسها تلتف في رسوم مائية حزاماً حول البراد، يحيط به طقم من ثمانية أكواب خزفية بتفصيل مقلوب فيه القطر السفلي للكأس أقل من العلوي وسكريّة وملعقة خزفية صغيرة زرقاءْ، كان الصالون الجلدي مغتصباً من قطع الانتيك فدخل هو وأفرغ أول ما أفرغ الطاولة الخشبية ووضع أول قنينة فودكا معرفاً المكان بضيفته الدائمة وشرب..

انخفض مستوى الماء في دماغه، أحس برغبة شديدة في التبول وبعطش كريه، رغبة مؤلمة في البدء بالنهار والعجز عن ذلك، ظل الكحول يدخل ويدخل إلى جسده حتى شكل جسد عامل حفريات داخل دماغه يحفر القشرة.

هاهو… يرى القنينة فارغة، نادراً ما كان ينهي قنينة واحدة في ليلة واحدة…صب الجولة الأولى في الكأسين، شربا…لم يكن يعرف أن الطاهر عندما يأتي الأمر للكحول فإنه يشرب كوحش، أعجبه ذلك فضحك قائلاً ” اوه…إذاً أنت رجل!” صب الجولة الثانية، جالسين يتحدثان ببطء… بقيت لمدة ساعة تتخللها أحاديث عن أمر ما ذي طابع جدي لم يعد يتذكره، الطاهر ممسكاً كأسه بطريقة أنثوية واضعاً يده اليمنى على فخذه ومفصل اليسرى يرتاح على كف اليمنى في وقوف مستقيم يقطعه إلتواء الكف أسفلاً وناحية الوجه ممسكاً بالكأس بأصابعه جمعيها إلا الخنصر المرسوم بالحناء…شربا حد الثمالة.

رأى فيما استطاعت ذاكرته أن تعرضه أن يداً قد تحركت حول كتفه، أحس بملمسها الناعم كحبات الشعير تنزلق على كتفه إلى ذراعه تدغدغ محلّ إبرة تطعيم لازالت تطفح على ذراعه منذ الطفولة، رأى ابتسامة صافية في العينين الحمراوين أمامه، كان الوجه يظهر خلف البخار الذي صنعته الخمرة على زجاج الحدقتين، رأى ابتسامة وأسنان تعض على الشفاه ورآه يزلق يده إلى قبضته، انكف الكف على الكف، ارتحلت الأصابع تحتمي بين الأصابع، خفّ حمل العقل وانتقلت الذبذبات بين أعصاب يده تجري لدماغه تخبره أن يستريح أكثر، تنامى غزل ورغبة داخله… تحرك الإبهام والسبابة يمسحان على السبابة والإبهام وانتشت أرضه وارتضت بالغازي والتحما واتحدا و” ها ها ها ها ها… فوت الموضوع يا سيدي الكاتب، ها ها ها… قصدي من الاخير صار اللي بالي بالك فهمتا كيف؟ ها ها ها – وصنع التاجر بإصبعه الأوسط في حفرة صنعها بقبضةِ اليسرى آلة حفر علامة على ما قد حدث ضاغطاً بأسنانه على أحد جانبيْ الشفة السفلى، كان يضحك… يكاد ينفجر- تي عادي يا برذر… في الاخير أدب والجو المنيك هو متاعكم ها ها ها… سامحني لكن اهو شدتله في حاجة ينيكها خير ما يلقى روحه في يوم من الأيام عالق في نعجة في نص أم الدواخل ومدخلينه للسبيتار في قضيبه نعجة ها ها ها”

  • تفضل، لا أحد يعرف ما الذي حدث بيننا ليلة الأمس… لن تراني، لا تعرفني ولا أذكرك ولا تذكرني.

كان كوب القهوة الصباحي فارغاً من الشيوعية ذلك الصباح كما هو مزاجه، وضع على الطاولة الكوب الآخر الذي مده للجسد الشعيري الممد أمامه قبل أن يمسح ابتسامته الخجولة، وضع رزمة من النقود: ثلاثمائة دينار… نظر الشعيري إليه متفاجئاً، حزينا وكظيما، بدل عينيه بين الرزمة والوجه البدوي أمامه… أخذها، أسرع يرتدي ملابسه وخرج… كأنه يدمع كأنه يبكي، لم يعر انتباها كبيرا له… جلس على الكنبة ذاتها يشرب قهوته، صنعها كما يصنعها دائماً، ينظر من نافذة الشقة إلى السوق، إلى حانوت الشيخ بلال الذي يصيح…إلى البدو أمثاله يتعاركون، يتغاضبون ويتصايحون، يرتدون أردية ليست لهم ويلقون بأرديتهم الحقيقية في شماعات منازلهم، يتطرفون في بدويتهم… يضعون بعضاً من رائحة الجمال على ثيابهم وثيابه كي يخفوا رائحتهم المليئة بالمياه العكرة، البدو هناك… وهذا هو ابنهم، إنه رأى أنه منهم وأنه يفعل ما يفعلونه، حب؟! ها! الصحراء لا تحمل إلا الأشواك والصبار والأحراش والجنون.

” لا أحكي لأطفالي أنني قد التقيت بك يوماً، التقيت بحقيقتك والتقيت بحقيقتي، لن أحدثهم عن المشاعر التي مررتها يدك على كتفي…ولن أحدثهم عن متى ما خالجتنا الأحاديث أو متى ما ضمتنا ابتسامة صمت في أعين بعضنا، لا أقول لهم كم كان جميلا ولا أخبرهم بأنه قد حوّل حياتي في لحظة في هدرزة في عكسة واحدة، ولن أسمي أياً من أبنائي باسمك، ولن أقرأ ما تكتبه او أجالس الذين تجالسهم، لا أحبكم وأحتقركم لأنه لا شيوعية في كأس هذا الصباح، لأنه لا مدنية ولا تحرر ولا حقوق ولا تفتح أو تقدم في هذا الصباح، لا لواط بالتأكيد… لأنه وببساطة لي ما أعتقده وما أظنه، أنا كالشيخ كعكة الذي نسمع عن شغفه بالأطفال الذين يدرسهم القرآن والآيات ومن ثم يداعبهم بعد الدرس، وأنا كالشيخ كعكة تماماً أحب أية حفرة أخرى ولا أريد لعواطف تخالجني عندما يتعلق الأمر بممارسة الجنس… مجرد نزوة وهفوة كنت، فعل إغواء، شيطان أو سقطة كحول… سمها ما شئت، لكن ليس فعل قلب، هل فهمت؟!” كتب ما كتبه، ألقاه في الكأس التي شرب منها الطاهر، ملأها بالكحول، بحث عن قداحته…القداحة القداحة واشتعال ثورة العمّال…أشعل فيها النار ثم رمى بالكأس مكسراً إياه، مهشماً بالمطرقة ذرات الزجاج فيه، ألقى بما قاله له الطاهر وما تذكره عندما استدعى تفاصيل الليلة كاملة بين الكتب وفرق ما قاله بين ألسن الفلاسفة والكتاب والمفكرين كي لا يقول في يوم من الأيام أن الطاهر قال له، شرب زجاجة جاك دانيالز كاملة خاصة بتلك الحادثة، حادثة تفريق الكلم على الكتب… سمع صوت المكبر يعلو منه صوت الشيخ بلال، قذف بالقنينة الفارغة… خرج للشارع، توقف بين الحشد، والجه فرح وانتصار وابتسم من قدرته على الوقوف بين حشد كهذا، كان الشيخ البرونصي ينادي في الناس ” حي…حي، هلموا لتجارة لا خسارة فيها هيا معي يا إخوتي، الطب لا طب إلا عندنا، ما طب البشر أمام طب الله؟” تحسس خناقه، اختفى…والجه خاطر، ” وطب التاجر؟! ها ها ها” ذهب، غاب… وجد جرمه يلج ما تحت شجرة التوت.

  • زجاجة قرين فيري!
  • شن؟!
  • زجاجة قرين فيري!
  • قرين شن الزب؟ وين يا باشا وين تحساب روحك؟ اوك وخيّك منيك ويعجبك لكن الجو اهوا مش لينا… مافيش
  • كيف مافيش؟ مش أنت إبليس نفسه؟
  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟!
  • ها ها ها… تو بتقولي إن حناي طلعت تكذب يا ولد القحبة؟ أنت هو… كلكم زي بعض يا قواد، مادامك وريت حلوى الصوف من الاول كون راجل ووري الاحسن منها! – وضرب زجاج النافذة جانبه، كان الدم ينزف دون أن يتحسسه… لذة وجدها في ذرات الزجاج تخترق جلده المصبوغ بالدم الآن، ليس الخنصر فقط كما الطاهر، بل قبضته التي مرت الأصابع الشعيرية عليها كلها.
  • تي خير أمه هو؟! صاح التاجر متفاجئاً وثائراً وعلى صوته تحركت أوراق شجرة التوت تكاد تقع.
  • قرين فيري؟!
  • مافيش…. هيا بطلنا نبيعوا، هيا روح نيّك يا فرخ يا صايع.

” ها ها ها قصدي غير نعرفه ولد الصايع اللي قايمينها بيه أهل الحي، تي كان هذا راه ما ياخذش مني رصاصة في راسه وقتي، ما نحبش حد يعلي صوته عليا، يحساب روحه قاعد عايش في روسيا يشرب اللي يبيه تي قلتله فيق يارفيق، فيق… الجو اهوا نيكه للمثقفين وأصحاب مئة كتاب في السنة وما أجمل كوب القهوة الخاص بي والسجائر تحرق مشاعري وكتابي يؤلمني ومللت من المتوحشين وعلينا أن ننضال من أجل الوطن والدفنقي الفارغ اهوا… هني حي التوتة يا رفيقي، وين؟ حي التوتة! وفي حي التوتة شن عندك وشن وراك وشن تبي وشن فيه، مش شن تحس وشن تفكر وشن تقرا وشن تزبر علي حياتك ما تنفخهمش وحياة أمك، الكلام اللي قلتهولك قبل كله كذب ودوة فارغة وضحك عالشكالات اللي زيك باهي؟! الخفاف اللي زيك يصدقوا فيه جري… تي نوض اخدم علي راسك، مش تبي الشيوعية، عيشها الشيوعية صح ودور من يبيعلك بوخة والا تعلم اديرها وعيش في الشوارع واخدم بدل ما تعتمد عالبابا يا روح البابا…. هيا برا ضيع واشقى في الدنيا وبعدين تعال نظر عليا”.

تعلم صنع خمره الخاص؟! لا بالطبع، واجه صعوبة في السكر… كان يترجى كشحاذ كل أولئك الذين شربوا معه كأس ولو لساعة، اتصل بأناس لا يتذكرهم وآخرون لا يتذكرونه، كان يرفع السماعة صوت خشبي أحيانا قائلا ” أهلا من معي؟!”، يجيبه وابتسامة حذرة مع حك لمؤخرة رأسه وتذبذب في صوته لا يعرف أي الكلمات يختار، هاهو… ” سوبر” مرة أخرى تختفي ثقته بنفسه، يأكل عقله حروفه من لسانه ويلتهم هو التلكؤ، هاهي كلماته تخرج حذره ” آه… أنا كمال الصايع” يعتذر الصوت الخشبي قائلاً ” عذراً لا أعرفك ” … ” الشيوعي يا رفيق” ” آه اهلا اهلا” يحاول أن يصل خلال حبل متقطع من الأحاديث عن الأحوال وما آل إليه الحال وما تبقى منه إلى أن يسأله ” هل لازلت تشرب؟” بعضهم يعلن توبته، بعضهم يقول ” مرة…مرة” كان هو بالمثل يوزع ” حسناً وشكراً واحسبنا” وتختفي الوعود والعهود، بعضها يأتي… بعضها بالقليل القليل وبعضها لا يأتي ويتبخر كالكحول أيضاً، ابتكر طريقة يتحصل فيها على شرابه  من التاجر، كان يؤجر الشحاذين وأبناء الفقراء ويبعث بهم للتاجر دون أن يعرفه، يعدهم بمكافأة كبيرة… يسيّل لعابهم فيشتروا له مسرعين، لكن التاجر فطن له… أمسك بأحد الأطفال وقال له ” الآن يا ولد الحرام، أبوك لا يملك حتى ما يسدد به ثمن كلمات الطمأنينة التي ألقيها على وجهه وهو يمر بالطريق، أبناء الفقر من أين أصبحتم تتحصلون على المال لتشتروا به الجاك دانيلز والتشيفاز والابسيلوت، تشربون في مثل هذه الحالة؟ مكرشم؟ أين عقلك؟ – يصفع التاجر الفتى صفعةً ترسم كفه بين ذرات الغبار على الوجه الترابي، يشير ناحية عامود الإنارة حيث يختبئ الصايع- ها ها ها فرخ الصايع الفرخ الصايع …. – يسلم التاجر القنينة للطفل ويبتسم في وجه كمال المحدق برهبة خلف العامود، يكاد التاجر أن يلوح لكمال لكنه يمنع نفسه، يبتسم ابتسامته المعهودة، يشعل سيجارة ويقف مشاهداً لكمال يأخذ القنينة من الفتى ويسترق النظر بحذر نحوه.

  • اوه مدام حياة… كيف حال زوجكِ؟
  • آه…إنه لن يأتي حتى اليومين القادميْن إذا أردت أن تأتي لتغير لي عجلات السيارة!
  • اه؟! حسناً… ولكن لما لا تأتِ إلى شقتي وتنامي عندنا ونسهر صحبة الجاك دانيالز؟
  • واو… سأسكر صحبتك الليلة.

وطفح يحلق لحيته، مرر الموسى ببطء على وجهه… نظف إبطيْه من الشعر والعرق، مرر الموسى على كريم إزالة الشعر على صدره وعانته، أزال ما استطاع إزالته من الشعر، غابت سحنته داخل بخار الحمام الذي تكون خلال ساعتين من الاستحمام المتواصل… جهز نفسه، الطاولة، بكرج القهوة أولاً وكأسان زجاجيان…أحدهما بني، وآخر من قطع الانتيك التي…آه يشبه ذاك الذي شرب منه الطاهر، فليذهب الطاهر بعيداً، اليوم يوم الطاهرة… الجميلة، الناهدة والغاوية المدام حياة، إحدى الغانيات القلائل التي يحتضنهن حيْ التوت، زوجها صيدلاني أمام ناس الحي وتاجر مخدرات خلفهم… ” ها ها ها، ايه كانت زوجة أشرف البوعا يا سيدي الكاتب…. القحبة اللي تموت في الزبوب، وتبيع روحها باش اذوقهم كلهم”… لازمته حمى مراقبة العمارة بأكملها، اختلس واحتمى داخل ظلمة الليل، الليل صديق التعساء والمكبوتين والسكارى، ولجت الدار.. وولجها هو، كانت أول تجربة أنثوية له…ولكنها لم تكن الأخيرة، فقد عاشرها مرة واثنتين وثلاثاً وأربعاً إلى أن تعرف على تفاصيل جسدها تامة، ضحكاتها وحركاتها وسكناتها، تأوهاتها الوهمية والحقيقية، تكور نهدها وما تحبه من وضعيات، لا تحب الحديث….روتينها بسيط وسهل: قهوة، كحول، حبتيْن من مخدر الترامدول تسرقهم من زوجها وجنس فقط،  هذا كل ما في الأمر…لم تكن كـ…. كمن؟! كالطاهر! لم تكن مثله تتحدث، ولم تكن مثله تشعر بأية عاطفة نحوه، كانت فقط تشعر باللذة وبالإغواء واللحم والعرق واللعاب البشري…عرفته على صديقة لها، وأخرى… كان كريماً معهنّ، يجزيهنّ مالاً وفيراً، ” بالطبع حياة ماكانتش قحبة بالمعايير العادية للقحبة… الفلوس اللي تاخذ فيهم اهو متاع رفع ملامة وجو تبي الراجل اللي يضاجعها يشوفها مجرد قحبة بينما كانت تستمع بالسكس ها ها ها… “.

  • هذا الفرق بيني وبينه يا مدام حياة، إنه يحتاج المال ولكني لا أحتاجه…أحتاج الخمر ويمكن أن أحصل عليه من غيره. قال لها موضحاً إضطراب علاقته بالتاجر.
  • غيره كأصدقاء البوخة وتجار الصداقة والذين يبعدون عنك كيلومترات كثيرة. علقت على ما قاله.
  • ولكني لازلت أتفوق عليه بالمال، المال الوفير وسلطة الواسطة، هذا التافه. يطمئنها ويطمئن نفسه.

تلك القنينة نفسها جعلته يثق بأن المال هو السلطة، هؤلاء سيحتاجون للمال دائماً…أما هو، الشيوعي لديه من المال ما لديه والعديد من المنظرين للشيوعية كانوا أغنياء مترفين، إننا نحن من بفكرنا ومالنا نحرك البلوريتاريا، وقف بين الحشد كان يبتسم لأول مرة غير راجف بينهم، ينظر للشيخ بلال ويبادله النظرات غير مرتاح لصاحب الملامح البدوية إذ لابد أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً، ينحشر داخل الحشد كأنه يخترقهم كموسى يخترق اللحم يرقص داخل أهل الحي المجتمعين انصاتاً كأعمدة لبدة لا يتحركون، ينغرس داخلهم راقصاً…يغيب…يحضر، قدماه لا تحملانه لكنه ينحشر، يشتم رائحة عرق أحدهم، يصطدم بجسد ملتح وآخر أملط، يعتذر بيده، يترنح بين رجل عجوز بعكازه وفتى هو عكاز الدهر ويغرق داخل الأقمصة الزرقاء والحمراء والخضراء وتخدره حرارة الشمس، يقف ويحاول أن يستجمع عقله ويمد يده ببطء؛ إذ  تتحرك رقبة الشيخ بلال نحوه يصيح ” يا شيخ بلال… شن القول في تاجر التوتة؟!”

يصمت الشيخ، يبحث عن كلمات…. ماهو القول في تاجر التوتة؟ آه لقد باعه ما يبيعه للناس، باعه القدرة على الخير والعطاء والتزكية وهو يبيع الفقراء كلمات الطمأنة وعقود العمل والأخبار والشائعات حول الخير المتوقع قدومه، ” الخير للخدمات العامة” كان…إلا أنه سمع أيضاً وشوشات عن نشاطات قذرة يقوم بها التاجر، إذاً ففي الأمر قولان.

  • آه… في الأمر قولان.

يسخر الصايع من مقولته، يقهقه، يكاد ينفجر ويقول مسيطراً على سكره:

  • إنه قول واحد يا شيخ. ويختفي مترنحا بين الحشد.

ظل هكذا، أعجبته قدرته على المواجهة ولازال ينتشي بالتخلي الرسمي عن التاجر رغم استعماله طرقاً ملتوية للشراء منه،  إن كان عليك أن تحاربهم فلتحاربهم داخل أبناء حيك قبل أن تطرح نظرياتك على المدينة والبلد وقبل أن تشعل الثورة في البقية أشعلها في هؤلاء الفقراء ليتبعوك في الميادين، في الأسواق وحتى إلى جهنم، إنك لا تحتاج نقودهم ودنانيرهم ولكنهم يحتاجون من يسلم لهم الحقيقية، وقف في أحد الأيام على مصطبة صنعها أمام عمارته، كان ثملا …. صاح وهو يرسم بيده المترنحة الكلمات المتمايلة للمشاة والمتسوقين ” قرّب يا بوالعيلة….الكلام بالبلاش، ضاحكين عليكم يا ناس”.

ويمضي أمام مسرحه الضاحك يؤدي دوره الشيوعي بامتياز، يتحدث عن ثورة العمال ويؤجج فيهم الرغبة على عصيان الثورة المسلحة التي فسدت لأنها لم يكن فيها عمال، العمال عندما بحث عنهم وُجدوا عرباً وأبناء ما خلف الصحراء، العمال قلة… فلنجعلهم كثرة وفلنتسلح بالمعاول والفؤوس والمحارث ولنتعلم كيف نصنع ” الملعقة” و” الخرسانة” وأن نطلي بيوتنا لوحدنا، أن نصنع أسلحتنا ونزرع قحمنا وشعيرنا، أن نملأ حدائق منازلنا بالشعير بدلاً من نباتات الزينة عديمة الفائدة، هيا… ها هي الفؤوس وها هي الكوبريات فلنطرد الأجانب منها ولنغزوها جميعاً، هيا لنصنع الحليب وعلب الحلوى، علب السجائر هيا يا رفاق!”.

تطير حول المشاة الكلمات المخمورة، نساء يجرين خائفات من الذي يقول كلاما غير مفهوماً ويطلق رائحة مخمورين، عجزة يستعينون بالله من الصيع أبناء الكحول، شباب يتجمعون ويقهقهون كأنهم أمام عرض مسرحي هزيل، ينظر إليهم ويكمل خطابه بثقة، بقدرة هائلة على الإقناع أو الإرباك، كان مروعا ورائعا ذلك المشهد الذي ترى فيه كمال الصايع يحاول أن يوصل للناس الثقافة التي آمن بها، نعم آمن بها مخموراً…لكنه آمن على أيةِ حال، مخموراً يخطب…يسألونه محاولين استدراجه لمياه عكرة أولئك المشاكسين في السوق، ” ولكن ما رأيك أن تمسك أنت المعول يا كمال؟!” ” نعم..هيا” ” هل ستتجرد من عمارة الصايع وخيرها يا كمال وتكدح مثلنا في هذه الدنيا؟ ” نعم، كنت سأفعل لولا أن لا أحد مخموراً ولا صاحياً يفرط في ميراث والده” يستدرك بأمثلة تاريخية، ويمضي في الحديث عن أساسيات الماركسية، يلقي عليهم أسماء لأناس لم يعرفوهم ولن، ” نيتشي..” قال. ” ها ها ها ها نيتشة هذا أنت يا نتشة” ينقلب أحد المشاكسين محدثاً صديقه ” كافكا كان… ” آه كانت كافخة الحكاية عندك يا كمال.

آه، الآن عاد كمال الصايع كما كان… ذلك الصايع ثقافيا، الشوكة في عنق العقائد التي تكرهه، فعلها مرة في الجامعة ضد اتحاد الطلاب كان يحضر اجتماعاتهم ويناقشهم ويتهافت ضدهم ويتهافتون ضده، كان ذلك المدعو صقر ألذ أعدائه، لا يحبه وقد هدده مرة بالحبس أو الضرب، ” إلزم حدودك يا صايع… والا حبسناك، ساهلة!” ولكنه لم يفعل، لا أحد يهدد ابن الصايع، أيام زمان كان أمثالكم يجترون كلماتنا دون توقف ويقبلون مؤخراتنا دون توقف لولا انقلاب الزمن، زمان ولكن الآن سيعود ذلك الزمان…سنجعلكم مجدداً تجترون كلماتنا دون توقف.

وجد البعض فيه مسلىً كان الصوت الوحيد الذي ينافس نداء الباعة هو صوت الضحكات، لا شيء غيره، لا صرير العربات ولا ضربات الأحذية على الأرض لا المعاكسات ولا المماكسات ولا بكاء الأطفال المجرورين، الضحك فقط هو الذي يعلو في سوق التوت… لكنه زاد من حدة خطاباته، اتخذ نحواً دينياً، ظل ينتقد المجموعات الجديدة التي ظهرت بالبلاد بعيداً ” هؤلاء سيقطعون رقابكم جميعاً يوماً ما… لن تجدوا خرافا تذبحونها، سيذبحونكم في أعياد الأضحى جميعكم لأنكم إذا بانت حقيقتكم لهم وستبين سيضطرون إلى ذبحكم أو حرقكم أو إغراقكم أو قذفكم أو جلدكم كل حسب ذنبه الذي اقترفه… أفيقوا ”  ” فيق أنت قبل يا كمال ها ها ها ها ” ، ظل يصعد من خطاباته ضدهم…ضد الدولة الجديدة، ضد تاجر التوتة، ضد الشيخ بلال علناً، ضد كل من يستغل عماله وبلوريتاريته…قدم حججاً وقصصاً وأمثلة ضد السيوف وما يقض مضجع شيوعيته المضمحلة…التهامس والتهاذر والتهافت كانوا يتناقلون بسكون بين الأذان، بعض المتربصين… عصى تضربه وهو عائد في الليل إلى منزله أحياناً، لكمة من أحد الباعة الذين طفح صبرهم بما يهذر به الصايع أمام محله من جنون  الكحول، أشياء بسيطة من هذا وذاك. يعود بالكدمات والشتائم، يغسلها صحبة هواء السوق…لساعتيْن، داخل البخار.

” ها أنا أعرض لكم بضاعتي مجاناً” كان الصايع كالديك، نعم سأفعلها يحدث نفسه… سأجعلهم يتبعونني ولو كنت مترنحاً سيترنحون، سأجذبهم من باعة الوهم، الجميع يحبون الحقيقة لكن ما لم يكن يعرفه أن لكل حقيقيته التي يتبعها ولكل وهمه الذي يخدر عقله به ويجري خلفه لا يتحصل عليه إلا بعد إعياء، انزلقت يده تغسل كتفه بالصابون، تذكر الطاهر، قال له في تلك الليلة ” لكل حقيقته يا كمال” ” لازم تواجه الحقيقية يا رفيق، أنت فتى غني، سكير، وأنت حر” ويعقب هو ” وأنت شاذ!” ” نعم بالنسبة لك…” ، حمل له فلسفة أخرى غير تلك التي كان يظهرها له في جلسات الطاولة المستطيلة، حمل له كلمات ومعاني ومشاعر غريبة عنه ” الشيخ بلال الذي تسبه في جلسات المقهى أكثر حقيقة مني ومنك يا كمال” ” لكننا لسنا متحررون… نحن خراف سوداء بين قطيع من الخراف البيض يا رفيق ” ” نعم نحن كذلك ولكن هذا لا يعني إلا أن نجعل الظروف تخدمنا بطريقة أو بأخرى…أن نعيش بأقل قدر من التحرر الذي يمكننا أن نتمكن منه” يسترجع اليد فوق اليد ترفعها لأعلى نائمين جنباً بجنب، الأصابع تتحرك حول الأصابع وهو ينظر لليدين ممدوتين للسماء، ينظر ويحترق قلبه ويشرب الكأس الأخرى.

مضى يمشي بالنسق ذاته، قد يصدم أحدهم كتفه فيمرر يده حيث طبع ذاك الإنسان بعضاً منه فيه، قد تموء في وجهه قطة، فيلمس وجهه ليشعر بالإحساس الذي خلفته على ملامحه، قد تطأ قدمه بركة ضحلة من المياه المتواطئة مع الرصيف، فيغيب في إحساس البلل محاولاً معرفة مكونات الماء ومتى تشكلت، ومتى أضيف كل مكونٍ فيها وكيف، طفلة ما أسقطت مثلجاتها عليها، ألقى رجل ما على عجلة سيجارته فتحلل التبغ داخل البركة، بصاق أحدهم ربما، بول قطة، كل ذلك وأكثر اندمج في بركة ضحلة من المياه، أمعن النظر في حركات الأفواه والأعين حوله، في حركة يد أحدهم ممسكاً بكوب قهوة إلى فتحة فمه، اللذة التي تخلفها على لسانه المليء بأعصاب التذوق، بمرورها في جهازه الهضمي، وتحول الكافيين في دورة الدم إلى دماغه، إنه ذاته تأثير الشيوعية إلا أن الشيوعية تتفاعل خلايا الدماغ لتطلق هرمون النشاط بدفقة في زمن قياسي وهرمون التخذر أيضاً بدفقة، يدخل في عالم لا يعلمه أحد إلا هو، هل يتلذذ بما يفعله؟ هل يزعجه؟ إنه كان يفعل ذلك بسهولة، بسهولة يقف تحت الإشارة الضوئية…يشعل سيجارته ويشخص.

قفزوا خارجين من الهايلوكس، كانوا أربعة يرتدون الأردية العربية، يحملون البنادق ويصوبونها عليه، كانت لحاهم تحتضن البنادق وكان يرتعد مخموراً، انتابه الرعب وتعرق وارتبك وتحطمت عضلاته وتجمدت، حملوه وجعلوه يتفحصهم واحداً تلو الآخر… ” الله أكبر الله أكبر” ، كان الراكبان بالخلف والمتلتفان حوله يرددان موجهان بنادقهما على رأسه…السائق وحده الذي تعرف عليه، كانوا متشابهين، كلهم يرتدون الأردية المسدولة حتى ما يقارب الكعب وكلهم ملتحون إلا أن السائق صاحب البشرة البرونصية كان مختلفاً… كان قد عرفه.

  • كمال الصايع…. أنت متهم بالردة عن الدين واعتناق دين الإلحاد والشيوعية كما أنك متهم بمعاقرة الخمر والزنا وممارسة الشذوذ الفكري علنا والجنسي سراً….كمال الصايع هل لك أن تدافع عن التهم الموجهة ضدك؟.

” ها ها ها انتفخوا الحق، أنا عارف إنه مجرد سكّير وماحد يسمع كلام اللي زيه لكن ما تندريش عالوقت.. توقع كل شي في الدنيا هذي، إلا الشكوك توجه نحوك رد بالك منها… ما تخليش حد يشك في مشروعية اللي ادير فيه يا سيدي الكاتب حتى لو اضطريت تقتل، لكن ما تلطخش يدك أنت خلي غيرك يلطخ يده… ومادام في الدنيا زي الشيخ بلال بارك الله فيه، مادام فيه… علاش الواحد ما يستخدمهمش؟ مجرد تعطيهم المحفز واللي يخليهم يتفاعلوا مع رغباتك، المعلومات هي إحدى أشكال القوة… يبرة مخززة مليحة كتطعيمة في الذراع ها ها ها فهمتا كيف؟!”

كان مكبلاً أمام الملأ، لا ينطق عن شيء، يعيد الشيخ بلال سؤاله ولا يتكلم…كان صامتاً، يتنفس الكحول، للمرة الأولى لم يساعده الكحول في التحدث، للمرة الأولى أفقده ثقته في نفسه…أفقده شجاعته وقدرته على المواجهة، لم يكن يوماً ذلك النوع الذي يعرف المواجهة، وأحس بحرارة ودفء البول بين قدميه، بكى وتحطمت روحه وهو يرى الساطور يُسن، والمذبحة أعدت، ويداه مكبلتان والناس شهود، ذُبِّح… استل عنقه، لم يشعر بشيء من الموت سوى رهبته، لم يحس الساطور تمزق وتفصل رأسه عن عنقه، لم يشعر بضغط جسد الشيخ بلال على عظامه، تنفس الكحول وترجى الرحمة في عيون غريمه دون جدوى، دون جدوى كان الغريم منطفئاً لا كما الشيخ الذي عرفه…كان الغريم يرى قولاً واحداً، هو موته…هكذا هو موته، سهل…يصنع بركة من المياه العكرة الملطخة بالدم…لكنّه سهل.

سقطت قدّاحته من جيبه، كان جسده ينتفض قليلاً قبل موته… القداحة تتعلق بنهاية الجيب سقطت مع الانتفاضة، انزلقت على الأرضية الملطخة بالدم… امتزج بها الدم، ولم تشتعل، تجّمع الحشد حول جسده المفصول عن رأسه، ضمّ أحد الفقراء يده داخل جيبه وجد علبة سجائر الكاريلّا… وجد القدّاحة مرميةً وملطخة بالدم، حاول أن يشعل سيجارة…مرة تلو الأخرى، دون فائدة… رمى بالقدّاحة. غسل سطحها النحاسي بالمياه العكرة كما غسل رأس صاحبها بها….بسهولة.

مقالات ذات علاقة

الحلاج.. كلمة في الذات

سعد الأريل

مقطع من رواية (تراب درنة)

عوض الشاعري

رواية الحـرز (8)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق