أنت نشأت كصغار القطط منذ أن حملت رأسك على كتفيك، حيث أقسم والدك بالطلاق على أن لا يرى وجه أمك بعد اليوم وأقسمت بدورها بأنها لن تعود مرة أخرى ولو ذهبت إلى الجحيم وأخذتك معها غير آسفة على فراقه، وكبرت كما تكبر الفئران تماماً، وأشار قريبكم الطيب على والدتك بأن تدخلك المدرسة لتتعلم حروف الهجاء، وفعلت وهي تصارع رغبة إدخالك الجامع لتكون فقيهاً تقرأ الفاتحة على روحها يوم تموت.. وعشت سنوات مع التلاميذ كنت تنجح دائماً من العشرة الأوائل. وذات يوم وقف والدك الذي كان قد نسى أن له ابناً طيلة التسع سنوات. وقف على باب المدرسة واختطفك دون أن يستأذن ووضعك وراءه على ظهر جواده وذهب بك دون أن تعرف إلى أين.. كان يحدثك عن العقاب الفظيع إن لم تسمع كلامه وأنه قد أعد لك قبراً في البيت ليدفنك فيه إذا تحدثت عن والدتك وقال لك كلاماً كثيراً لم تنتبه إليه لأنك كنت تبكي على نحو دائم حابساً صوتك حتى لا يبدأ عملية التعذيب.
وعشت وسط جو الإرهاب مع زوجته السليطة اللسان والسوط السوداني الذي لم يشبع إطلاقاً من لحمك في كل مرة كنت تسأل فيها عن أمك، ثم كان عليك أن تذهب معه وسط الظلام حيث مقطع الحجارة المهجور خلف المقبرة وتنتظرون مجيء سيارة ” الكنترة باندو ” ليشتري والدك ما سرقه جنود الإدارة العسكرية من سكر وشاي ودخان وكل شيء مقابل أوراق نقدية أو مقايضة بالبيض، ولم تكن تعرف لغة الجنود، كان والدك يقول إنهم ” قرنقة ” أو ” سود أفركه ” ويأخذك الخوف بشكل قاتل عندما تبدأ سياراتهم في التحرك، فقد كان والدك يحذرك بأنهم أحياناً يطلقون النار على من يتعامل معهم ويعودون لسرقته مرة أخرى.. غير أنه كان دائماً يبدأ بالحديث معهم بتهديدهم بأنه يمتلك صندوقاً من ” الرومان ” أو بالأصح القنابل اليدوية ويخرج لهم عينة من الرمان المدسوس في جيبه باستمرار.. وتذكر تماماً أنه في إحدى المرات كان يتعامل معهم بيد والأخرى ممسكة بالرمانة استعداداً لنسفهم عن الطلب، حتى أصبح مشهوراً بينهم، ولم يحاول أحدهم ذات مرة خيانته.. وإن كانوا في بعض الأحيان يسقونه مقلباً فيبيعونه كيساً من الرمل على أنه سكر، غير أن هذا كان يحدث في الصفقات الكبيرة، وكان دائماً يخبرك بأنه هو الرابح رغم كل شيء، فهو أيضاً كان يقايضهم بالبيض الفاسد.
ولم تستطع أن تصبر، فقد كنت تخاف أشباح المقبرة، ويزداد خوفك عندما يكلفك بحمل جزء من البضائع وحدك، فما أن تصل حتى يكاد يغمى عليك، وتتيبس لثتك وتعجز عن تحريك لسانك، وكنت تسمع ضربات قلبك مختلطة بخطوات الحمار الذي تركبه وسط الهدوء، حتى يخيل إليك أن هناك من يتبعك بشكل مطرد.
وذات ليلة قررت أن تهرب مهما كلفك ذلك لأنك تريد أن تعود إلى أمك وإلى الشارع الذي عشت فيه، وتعود إلى الفندق تنصب الفخاخ للطيور، وتبحث عن أعواد القصب الطويلة تطارد بها الخفافيش في محاولة لسحر ابنة جاركم وتريد أن تعود إلى المدرسة، وإلى كتابة الحروف من جديد على الحائط لأنك بدأت تنسى رسم ومعاني الكلمات، فقد كان والدك يقول لك المهم أن تعرف تكتب اسمك فهذا خير من أن تضع إصبعك على الأوراق.. فهو كان يريدك أن تكون رجلاً قوياً، تكون كالحصان تتبول وسط الميعاد عند الحاجة فهذا ما يريده وأن تكون رجلاً قاسياً تحافظ على أرض أجدادك متصمداً بعمامة صفراء وتقسم بالطلاق عدة مرات في اليوم.
وهربت.. وكانت أمك في انتظارك.وكأن هاتفاً أخبرها. وفرحت وبكيت ولأول مرة بصوت عال ودخلت مع أنفك رائحة تشوقت لها كثيراً.. وأكلت بشكل مخيف وسط العبرات ويدها تمسح شعرك، ووجدت كتبك كما هي بعد أن أحضرها أقرانك يوم خطفك الوالد.. ولقد كبرت بالقدر الذي تستطيع أن تعمل فيه صبي حلاق أو في مقهى أو في أي عمل تكتسب منه دراهماً.. وبدأت أمك تصنع لك أطباقاً من الرغيف لتذهب بها إلى السوق.. كان شبح والدك يطاردك فتخاف أن يصطادك من أحد الشوارع ولكنه لم يفعل فقد تعب من ضربك ووجدك عنيداً، ولم تعد تندم على ذلك.
وذات يوم أخبرتك أمك وهي تنتحب أن والدك قد مات وشعرت بأن ثقلاً أزيح عن ظهرك.. وتعجبت من بكاء أمك التي حدثتك عن السبب فأنت في عالم يجب أن يحرسك فيه شخص ما ولو من بعيد غير أنك لم تستسغ هذا إطلاقاً.. حتى جاء يوم وضربك فيه ذلك الشرطي الذي كان يبحث عن لص هرب منه وكنت أنت تغني في الشارع مناجياً القمر(يا قمر علالي)، مما زاده غيظاً ورأته والدتك وصرخت فيه وأعطته من اللعانات ما يعجز الشيطان عن ذكرها.. وذهبت بك إلى مركز الشرطة، وهناك أخذوا يسخرون منها بشكل مزر وهم ينظرون إلى عينك التي كانت تشبه التفاحة الفاسدة وكانت تصرخ فيهم أن ابني مظلوم وأريد أن أرفع شكوى إلى رئيس مركز الشرطة، فأجابها أحدهم بأن عليها أن ترفع ” قربة” ثم طردوها.
وعادت تبكي.. وشعرت أنت منذ ذلك اليوم بمعنى الظلم وبمعنى توفر الحماية، وعدت تجلس على الرصيف وأمامك طبق الأرغفة تصيح كالخروف..
ولقد بدأت تخاف الأولاد والمشاجرات وتخاف ابن الحرس البلدي القريب من منزلكم..
وحدثتك والدتك كثيراً في ليالي الشتاء وأنت تطلب الدفء من الوعاء المتوهج عن بعض جيرانكم الذين كانوا في ” الشناوير ” زمن الطليان وهي تصفهم ( بكلاب الدم) المسعورة يعضون الناس في كل عهد >
ومع الأيام أخذت تكبر رغم أنف الظروف وكبر عقلك وأصبت بالقراءة وأحببت الكتب، وكنت تستعيرها ممن توفرت لديهم، وسخروا منك لأنك من أولئك الذين يبحثون عن القيم الإنسانية وأنك على استعداد لأن تهب رأسك للسياف من أجل ذلك.
وقررت ذات مرة أن تهاجر وتعيش بعيداً، فقد كانت حكايات ليالي الشتاء عن (كلاب الدم) دائماً أمام عينك حتى أنك لم تعرف في أي عهد أنت تعيش.. وطردت الفكرة حرصا علي شعور والدتك.. ثم ماذا ؟ في مساء ذات يوم غادرت والدتك الدنيا وبكيت رغم وقارك كطفل بائس.. ودفنت معها ذكريات جميلة وجزء من تاريخك.
وراودتك الهجرة من جديد بشكل حاد.. و قبل أن تحدد الموعد اختفيت مدة من الزمن ـ دون أن يعرف الطير مكانك !! ـ حاول خلالها بعض الناس الغلاظ الشداد من (كلاب الدم) أن يعلمك كيف تكتب كلمات الشكرالمناسبة، ولكنك كنت عنيداً ولا تجيد الرقص علي الدفوف.
وخرجت من القبوالمظلم ذات صباح ممطر لتعود من جديد لدنيا الناس الواجمين وقد ازددت بشيء من الإيمان والقناعة بالهجرة وبدأت تحلم بالعيش في العالم البعيد.
غير انك لم تفعل ذلك، فأنت من النوع الذي لا يطيق البعاد عن الوطن حيث موطن الذكريات..
بنغازي في 8 فبراير 1969