في إطار واقعنا الراهن والناتج عن انتماءنا الى ما كان يدعى العالم الثالث، ومجاملة العالم النامي، وكلتاهما تسمية لا تعني في ظل تيار العولمة غير وقوفنا على هامش العالم والحياة المعاصرة موقف المتفرج المنفعل، دون ادنى تأثير من قبلنا ولا أمل في اثر نحدثه في اي منهما.
في ظل هذا الواقع لا يبدو تعبير.. حرية الصحافة.. قولا ذَا معنى بالنسبة إلينا على الأقل، وما من جدوى لنا فيه، فهو قد جاء بدفع من تيار العولمة الكاسح، وقد كان معلنا ومعروفا حتى قبل أسفار العولمة عن طلعتها البهية وإعلانها عن نفسها، فهو في الواقع اداة من أدواتها الدعائية التي روجت وتروج لها والتي مهدت لذلك الإعلان، ومازالت حية وفاعلة في الترويج لمفاهيم وافكار العولمة وأفكارها وقيمها، ولعل ذلك يفسر احتفاء المؤسسات الغربية والدولية بشعار حرية الصحافة وما توليه إياه من تركيز واهتمام، يجعل من فهمه متعسرا في غير ذلك السياق بالذات.
يضاف الى ذلك انه بالنسبة لنا نحن ومن واقع المكان الذي نتبوأه من عالم اليوم وهو مكان جعل لنا خصوصية نتميز بها عن غيرنا من المجتمعات المتفاعلة مع تيار العولمة والفاعلة فيها، فلن يكون لحرية الصحافة من معنى اذا لم ننظر اليها مقترنة بحرية الفكر، او اذا لم نتناولها ونتعاطى معها وفق ذلك الاقتران، وتلك اشتراطات يبررها ان العولمة التي يجيء في إطارها شعار حرية الصحافة هي في الواقع الخلاصة التي انتهى اليها تاريخ من الثورات والفتوحات الفكرية والمعرفية التي استطاعت من خلالها تفكيك الكثير من المفاهيم الاشكالية والتحرر من عديد المازم الفكرية التي مازالت المجتمعات المتخلفة.. التي نحن من بينها.. ترسف في اسارها، ومن بين ما أنتجه ذلك التاريخ الفكري والمعرفي ان تجاوز الغرب كثيرا من الإشكاليات التي ما زلنا نعيشها ونعايشها، فلم تعد حرية الفكر مثلا مثار اهتمام لدى ذلك الغرب اللهم الا من زاوية النظر التاريخي، فمنذ اغتيال سقراط وحتى المكارثية في ستينات القرن الماضي مرورا باضطهاد الرومان للمسيحيين الأوائل ومحاكم التفتيش والاضطهادات المتبادلة بين الكاثوليك والبروتستانت وغيرهما من الطوائف وحتى اضطهاد المفكرين والمثقفين في ظل الفاشية والنازية والشيوعية، كل ذلك ما يقال محفوظا في ذاكرة الثقافة الغربية ولكن كتراث تاريخي وليس كراهن شاغل ويمكن لمن يبحث عن ذلك التاريخ ان يجده في رفوف المكتبات الغربية جنبا الى جنب مع مؤلفات كافكا ورامبو ولوتريامون وبودلير وداروين وفرويد وماركس ونيتشه وغيرهم ممن تناولوا بآرائهم ونقدهم أمورا تجاوز حدود الحرام والعيب والممنوع، تلك الحدود التي لما تبث فيها المجتمعات المتخلفة ولا تبينت حدودها وابعادها بوضوح.. ولا يعني هذا القول دعوة الى التنصل من خصوصيتنا وَمِمَّا يميزنا.. بل هو فقط للفت انتباهنا الى أهمية وضرورة ان نعرف ذاتنا، ونحدد موقعنا في عالمنا وموقفنا منه.
واذا كانت تلك المؤلفات وغيرها بما حملته من أفكار وبما انطوت عليه من مفاهيم واراء ومواقف قد تجاوزت كل المحظورات، فقد بذلك من مفهوم حرية الفكر شيئا من الماضي، ومفهوما لا يرفع كشعار الا من قبيل النكتة وعلى سبيل المزاح، الى ذلك فان الطابع التخصصي والاختزالي الذي يسم الثقافة المعاصرة قد تسبب في حصر القضايا الفكرية العميقة والجادة في حدود الاهتمامات الأكاديمية والنخبوية، وذلك في مقابل ما تفرضه العولمة على الحياة والاحياء من وتيرة متسارعة، فقد أفضى ذلك الى خضوعها الى آلية اختزال كآلية عملية لملاحقة ذلك التسارع، وهكذا اختزلت حرية الفكر في حرية الصحافة، ليغدو من ثم حرية الرأي والموقف صالحة للتسويق في إطار العولمة وللتوظيف في السياق الدعائي الذي يروج لمحمولاتها المادية والمعنوية.
ولعل بإمكاننا ان نستزيد فهمًا لشعار حرية الصحافة اذا ما نظرنا اليه من زاويتين لا يحول الاختلاف بينهما دون تكاملهما، فمن الجهة الاولى ترتكز العولمة على أسس وتتجه الى أهداف اقتصادية بالأساس وعلى اقتصاد السوق وقيم الاستهلاك، ومن هنا فان حرية الصحافة والدعوة اليها ومحاولات ترسيخها وعولمتها وفرضها على المجتمعات البشرية، لا تعني غير اداة دعائية توافق أسس واهداف العولمة وتروج لمنتجاتها المادية ولما وراءها من أفكار ومفاهيم وقيم ليست بالضرورة موافقة لكل الناس ولا لكل المجتمعات، ومن الجهة الاخرى وهي جهة المجتمعات المتخلفة وما تتشبث به من موروثها وتراثها الثقافي وتتمسك به كمجن اخير تتقي به رياح العولمة، وهو مجن يبدو في الأفق المنظور غير مؤهل ولا هو كاف لأداء تلك المهمة، وفي ذات الأفق المنظور لا يبدو ان سبب افتقاد الكفاءة لأداء ما يراد منه هو ما ينطوي عليه ذلك التراث من مفاهيم ومبادئ وقيم، اذ ما نقص ولا قصور في ذلك التراث.. ولنقتصر قصدنا على تراثنا الخاص الذي به نتميز عن غيرنا من المجتمعات.. ولكن النقص والقصور كلاهما في طرق واساليب النظر الى التراث وفهمه والتعاطي معه، بالانطلاق من روية قاصرة ومتخلفة لا ترى فيه اكثر من موضوع استحواذ وتملك واداة تسلط واستعباد عبر محاولات تجييره لنظر قاصر وتوظيفه لتحقيق المزيد من الاستحواذ والتسلط، ذلك هو ما يفقد تلك الثروات الثقافية والفكرية القيمية أهلية مواجهة اعاصير العولمة وما تحمله في ركابها من اشكاليات وازمات، وها نحن من واقع هاتين الوجهتين نحظى برفد ومبرر إضافي للقول بتعذر فهم شعار حرية الصحافة دون ربطه بحرية الفكر حيث أتيح لنا ان الاختزال الذي أفضى الى ذلك وما يكمن وراءه من نزوعات استحواذية تجيء عن الذين يسوقون لشعار حرية الصحافة ويروجون له، مثلما أتيح لنا اضافة الى ذلك ما يلقي الضوء على حاجتنا الملحة الى صحافة وصحفيين يتجاوزون المفاهيم المتداولة ولا ستنكفون عن تجاوز كل ماهو متاح ومتداول من أفكار، ذلك ان الصحافة ليست مجرد مهنة لأكل العيش بشكل يسمح لكل من هب ودب ان يفرض شروطه عليها ويتحكم في العاملين بها، بل هي رسالة إنسانية سامية لا يليق بها ولا يقدر على استيفاء شروطها ومتطلباتها الا من توفرت لديه ميزات، لعل أولها وأهمها الثقافة والوعي والإحاطة المعرفية بالواقع الذي يعيش فيه ويتعاطى معه ويعالجه في عمله الصحفي، ودون اغفال أهمية ا تحليه بالرؤية الفكرية الناضجة التي يمكنه عبر منظورها استيعاب ذلك الواقع والتعبير عنه، روية ابداعية تمتاز بالعمق ورحابة الأفق والموضوعية، وتلك متطلبات لا تشق على التوق ولا الطاقة الإنسانيين، وبمقدور من يختار العمل الصحفي ان يحققها اذا ما كان جادا في اختياره واذا ما اعتبرها شروطا ضرورية لإتقانه عمله ولنجاحه فيه.
والواقع انه لا شيء يمكن ان يحول دون استيفاء تلك الاشتراطات غير الانحياز الايديولوجي والارتهان العنصري او الفئوي او الجهوي، الذي يكبل الصحفي ويسلبه حرية القول والراي والموقف، ويملي عليه ما يريد ترويجه من مغالطات تسلبه آدميته وتحوله الى صدى وبوق لمن او ما ينحاز له وببغاء يردد ما يملى عليه من ترهات، كما انه مأمن سبيل للتخلص من تلك العوائق الا بان يسمو الصحفي بفكره ورواه الى آفاق الانسانية الرحبة وان يتبنى قضايا الانسان الحقيقية التي تمسه شخصيا بقدر ما تمس غيره من الناس وان يلتزم بها، وكذلك بان يؤكد على المبادئ والقيم التي تحيي تلك القضايا في الوجدان الإنساني وتحافظ على نضارتها وتوهجها.
وتلك هي مهمة الصحفي والاعلامي الحقيقي، والتزامه الذي يجعل منه صحفيا حقا، وذلك وحده الالتزام الجدير دون غيره من الالتزامات بان يحمله على عاتقه ويعتبره رسالته الإعلامية بل والوجودية وان يكن ذلك مقتضى الحال بالنسبة الى الصحفي والاعلامي، فمقتضاه للمؤسسات الصحفية والإعلامية ان تكون بدورها متحررة من الارتهانات التي قد تجعل منها دكاكين للخردة الأيديولوجية ووكالات دعاية وإعلان واجهزة لمصادرة الآراء والأفكار والمواقف التي لا تروق لأهواء ومصالح من ترتهن لهم تلك المؤسسات وتنصاع لأوامرهم.
وفق هذه القراءة وما أنتجته من روية يبدو واضحا أمامنا سبيل التحرر من قيود مغالطة حرية الصحافة التي نرسف في أسرها، والتي تبين لنا انها ليس اكثر من وهم وشعار دعاءي استحواذي لا هدف من وراءه غير تجيير أفهامنا واساليب تفكيرنا وحياتنا لتيار العولمة ومفاهيمه وقيمه، مثلما يبدو واضحا أمامنا كذلك السبيل المفضي الى صحافة الحرية، البديل الذي نحتاج اليه فعلا اما ان نحتفي بحرية الصحافة ونقيم الاحتفالات الفخمة، ودون ان نعي ما تعنيه الصحافة ولا ما تعنيه الحرية، ودون توفر حد ادنى من اي منهما في واقعنا المعاش فمعنى ذلك اننا نودي ادوارا في مسرحية عبثية دون مواهب.