حجر حظي يوناني السمت، فلما ولدت، وجدت أن لأبي صديقًا، يدعى كوستا، من كنت عندئذ أعرف أنه ليبي وحسب. أخي الصغير، عشق ابنة كوستا شاهقة الجمال. وقد بدأت أنتبه لموسيقى، تنبعث من بيتهم، أحببتها رغم اختلافها عما نسمع من موسيقى، التي دخلت وجداني، من أذن غير منتبهة، وعقل شارد. ومن ذا تنبهت إلى أن كوستا يوناني الأصل، وقتها كانت أكبر شركة، تعمل في ردم السباخ، وسد البحر عن بنغازي، شركة يونانية، وكان عمالها وفنيوها ومهندسوها، يترددون على دكان أبي. ومن هذا الجو، سأنتبه ليونانية سلطة «الخورطة»، الشتوية ما مادتها الرئيسة من الكرنب، ما تجيدها جارتنا «القريتلية»، من أحبها وهي تجلب معها، عند قدومها لبيتنا، نصيبي من سلطتها.
هكذا كانت كريت في بيتنا، وفي شوارعنا يسير يونانيون: عمال، أو صائدو إسفنج، أو جنود البحرية اليونانية، من تزور سفينتهم الحربية، ميناء المدينة. لعل هذا يفسر الشغف، ما سيطر على دماغي وقلبي، حين قرأت بشغف القريتلي كازانتزاكيس: من حينما توفي عام 1957، رفضت الكنيسة الأرثوذكسية، أن تمنحه قبرًا، بسبب أن كتاباته الفلسفية، تتعارض مع المفاهيم المسيحية. فدفن في مدينة هيروكلين، عاصمة كريت. وقد أوصى أن يُكتب، على شاهد قبره: «لا أطمع في شيء، لا أخشى شيئًا، أنا حرٌ». الحرية التي تسربت، من الشاعر الروائي، إلى نخاعي.
ولعل من هذا الوله، سأحرص في أثينا، في الثانية والعشرين من العمر، وكنت سائحًا شابًّا!، على مقابلة المرشح الشيوعي، لمنصب عميد بلدية أثينا: الموسيقار ميكيس ثيودوراكيس. ولعل ذلك بوازع نيكوس كازانتزاكيس، ودفع من زوربا، من عمل في كريت «الجزيرة الفقيرة، والتي لا يمتلك أهلها، سوى أحلامهم وصلواتهم في الكنيسة»، عندها قال لي زوربا: إذا أردتَ، أن تعيش الحياة بامتلاء، فيجب أن تُحب، واحذر أن تجرح قلب إنسان ذات يوم. ثم تركني على قارعة الطريق: «تخلصتُ من الوطن، من الكاهن، وكلما تقدّم بي العمر غربلتُ نفسي أكثر، إنني أتَطَهّر كي أصبح إنسانًا».
أما بعد فإن حرف ( Z)، يعني باليونانية (إنه حي). وفيلم (زد) من إخراج اليونانى كوستا غافراس، وموسيقى ميكيس ثيودوراكيس. وقد حصل على جائزة الأوسكار، لأفضل فيلم بلغة أجنبية، ولأفضل مونتاج (عام 1970)، ومن إنتاج فرنسى – جزائري، وبطولة النجم الفرنسي إيف مونتان، والنجمة اليونانية إيرين باباس، والنجم الفرنسي جان لوي ترنيتان، بالإضافة لمجموعة ممثلين أوروبيين وجزائريين. وقد تناول الفيلم قضية (الاغتيال السياسي)، من خلال قصة، مأخوذة عن عمل روائي، يحمل الاسم نفسه ( Z)، للروائي اليوناني فاسيلي فسكيلوس، من استوحى أحداثها.
من حادثة اغتيال د. جريجوري لامبراكس السياسي اليوناني، الذي اعتُبر من الشخصيات القليلة، من تطلع إليها اليونانيون، بالذات جيل الشباب وطلاب الجامعات، لمحاربة الفساد والاستبداد، والتبعية للولايات المتحدة الأميركية، فقد كان طبيبًا، منحازًا للطبقات الفقيرة من أبناء شعبه، فساهم في تقديم الخدمات الصحية المجانية، من خلال إقامة مستشفيات خيرية.
كان الفيلم الأول في مراهقتي، ما حرصت وفرحت بمشاهدته، في سينما الهلال ببنغازي، سنة 1970م، وكنت لتوي طالعت رواية «زوربا اليوناني»، لنيكوس كازانتزاكيس/ ترجمة جورج طرابيشي، زوربا بدا كما انجيل مراهقتي. لذا حرصت فيما بعد على قراءة روايات كازانتزاكيس، من طالعت في السجن، سيرته الذاتية ترجمة ممدوح عدوان. ولم أتمكن حينها من مشاهدة، الرواية التي كُتبت عام 1957، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان «زوربا اليوناني» عام 1964، ما حصل أيضًا على الأوسكار، ومن إخراج اليوناني مايكل كوكايانيس، وقد أُسندت البطولة إلى الممثل الكبير أنتوني كوين، أما بقية الأدوار فكانت لممثلين آخرين، ومنهم آلان باتس والذي قام بدور المثقف والمستثمر، أما إيرين باباس فقد مثلت دور الأرملة.
كان كازانتزاكيس كاتبي المفضل، لما صار كوستا غافراس المخرج السينمائي، ولم أنتبه حينها إلى الضلع الثالث، في المثلث اليوناني: موسيقي ميكيس ثيودوراكيس. من قابلته في أثينا فيما بعد، بعد أن التقيت الممثلة اليونانية: إيرين باباس، وكذا أنتوني كوين زوربا اليوناني، وقد كانا في طرابلس، لتصوير فيلم «الرسالة»، ثم شاركا معًا في فيلم «عمر المختار».
بوابة الوسط | 16 يوليو 2024م