بعد غياب دام نحو عقدين عن تنظيم معارض فنية، عاد الفنان الليبي يوسف فطيس وشريكته في الفن وزوجته نجلاء الفيتوري إلى النشاط الفني عبر معرض جديد يواكب الواقع الراهن ويعرض فيه الثنائي تصوره لمسألة الهجرة غير الشرعية كل حسب أسلوبه ومدرسته ونظرته الخاصة.
كما نعرف جميعا، الماء هو المادة التي تقوم عليها الحياة كلها ولكن معرض “نداء الماء” المقام هذه الأيام في بيت إسكندر للفنون بالمدينة القديمة طرابلس لكل من الفنان الليبي يوسف فطيس ورفيقته في الفن وزوجته الفنانة الليبية نجلاء الفيتوري، جاء في طرحه الفني الجديد بشكل مختلف عن هذا المعنى بل كان ماء للغرق، وسيطا للموت وليس للحياة، يحكي عن معاناة البشر، عن قضية عالمية هي الهجرة عبر البحر بقوارب الموت.
بعد أن قرأت عنوان المعرض لا أعرف لماذا تذكرت عنوان كتاب الفيلسوف العدمي إميل سيوران “المياه كلها بلون الغرق”، ربما هناك وشائج بينهما في “تفاؤل المنتحر” المقدم على الهجرة، والذي يقول فيه سيوران “لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل”، وذلك ربما لأن كل من يحاول الخروج عبر هذه القوارب من وطنه على أمل أن يحيا حياة كريمة في وطن بديل هو في حقيقة الأمر مقدم على عملية انتحار مع سبق الإصرار والترصد بمشاعر المتفائل.
معرض تشكيلي مختلف عن الكثير من المعارض التي تقام من وقت إلى آخر على الساحة التشكيلية الليبية بشكل متسرع والكثير منها لم يصل إلى الحد الأدنى من المستوى الفني والفكري الذي نأمله جميعا، كما وصل إليه هذا المعرض المميز في طرحه بتجربتين فنيتين مختلفتين كانتا ومازالتا تتبوآن مكانا مرموقا في التشكيل الليبي منذ بداية فطيس والفيتوري الأولى في مطلع التسعينات من القرن الماضي.
جاء هذا العرض بعد أكثر من 20 سنة من التوقف عن إقامة المعارض من كليهما.
معرض “نداء الماء” عودة قوية للمشهد التشكيلي المتداعي يعيد لنا الأمل في أن يتعافى وينهض ويتخلص من موجة العشوائية في الطرح واختلاط الجيد بالرديء وعدم الفرز والتصنيف من قبل النقاد والصحافيين والمهتمين بالشأن الفني التشكيلي والثقافي في العديد من كتابتهم وتغطياتهم في المنابر الإعلامية الليبية بشتى أنواعها المرئية والمسموعة والمطبوعة والإلكترونية.
الجدير بالذكر أنه كانت هناك القليل من المعارض الجيدة لتجارب تشكيلية ليبية أخرى قامت في الفترة السابقة من العام الماضي على الساحة الليبية بخطاب تشكيلي راق رغم قلتها.
هزائم الجسد
يمتلك الفنان يوسف فطيس القدرة على التعبير عن زمنه بالإضافة إلى إدراكه واطلاعه على كل ما تم إنتاجه من تيارات واتجاهات تشكيلية جديدة. كل هذه العوامل تشكل صورته ومدى معاصرته لزمنه، وهو يثبت أن ليس من الضروري على الفنان التخلي عن الأدوات الأولى لفن الرسم واستبدالها بأخرى جديدة كاستعمال الفيديو أو التكنولوجيا الذكية بكل أنواعها كما فعل الكثير من الفنانين في محاولة لإضفاء الجديد والراهن على إنتاجهم الفني. فالفنان المعاصر يمكن أن يستخدم أدواته التقليدية بفهم تشكيلي طازج ومعاصر جدا بطريقة الأداء والفكرة التي يريد أن يطرحها في مقترحاته الجمالية بأقل ما يمكن من الاستعانة بالتكنولوجيا الجديدة، كما يفعل الفنان يوسف في تجربته التشكيلية التي يقارب عمرها الثلاثين عاما.
يدخل الفنان الليبي من باب التعبيرية التجريبية التي مهد لها الفنان الأميركي ويليم دي كوننغ منذ أكثر من سبعين سنة، ولكن ما يحدثه الفنان فطيس في اللوحة أو بالأحرى على سطح اللوحة أكثر معاصرة من الذي كان يرسمه دي كوننغ لأن دي كوننغ كان هدفه إثبات الحالة التعبيرية في اكتشافاتها الأولى واقتناصها، أي اقتناص اللحظة على سطح اللوحة عبر “تصوير انفعالي” في شكل مرسوم، وغالبا ما تكون أعماله أكثر قبحا ولكن الفنان فطيس يرسم الحالة بأكثر أناقة فأشكاله ومفرداته التي يرسمها على سطح لوحاته تتسم بالرشاقة والخفة والإتقان في الرسم والتشريح وثنائية الوضوح والغموض في آن واحد.
الفنان يرسم مأساة الهجرة والمهاجرين بثيمة الجسد، رسوماته كأنها “هجرة إلى الداخل”، داخل النفس البشرية، ذلك الوعاء الممتلئ بطموحات البشر وآمالهم، مستغلا هذا الجسد في توصيف إيماءاته وحركاته بقدرة رسم تشريحية عالية جدا وتلوين متقن وكان أبلغ من تناول هذا الموضوع في رسم ملامح اغتراب البشر.
والفنان لا يشتغل على المباشرة في التعبير بل هو يشي بالمعنى في تفاصيل أعماله من حركات خطوطه عبر فرشاة الألم ذات العنفوان المعهود عنه وتلوينات أجزاء من مساحات حمراء ووضوح في مناطق وغموض في مناطق أخرى من الأصفر والأزرق والأخضر كتركيبة موسيقية لجوقة تحتفي بالألم والشكوى للإنسان المعاصر المغلوب على أمره والذي دفعته الحياة إلى اللجوء إلى الموت بمحض إرادته وبكامل إدراكه لنهايته المحتومة.
وتمنحنا لوحات فطيس الفرجة على ما لم تلتقيه عيوننا من قبل بسَخائه في التعبير عن الألم في مساحات كبيرة ملونة بحرفية عالية وخبرة كبيرة، فكل محاولاتنا لاستدعاء مناخات مجاورة ستفضي بنا إلى تجارب الأميركي دي كوننغ ومدرسة التعبيرية التجريدية منذ منتصف القرن الماضي ولكن بأكثر رشاقة في مفرداته المرسومة أغلبها من بني البشر في حالات مختلفة من فزاعاتهم وهلعهم، كأنه يتغنى بهزائم الجسد.
حرص الفنان على المفارقة في التعبير وفي المعنى، يبدو ذلك واضحا من عنوان المعرض “نداء الماء” إلى الأداء من السريع بضربات الفرشاة والخطوط القاتمة إلى أخرى باهتة تكاد تظهر على سطح اللوحة ومن الصخب في مناطق ومساحات ملونة إلى أخرى مستقرة وهادئة وبالكاد توجد فيها ألوان بل ربما الكثير منها فارغة كدعوة من الفنان ليتبنى المتلقي إكمالها في صورة ذهنية تليق بمزاجه الشخصي.
يرسم فطيس الإنسان الذي كان يأمل أن يكون الماء “جسور النجاة” ولكنه في حقيقته الطريقة الوحيدة للفناء، فالفنان يوسف يرصد كتلا من الأجساد بعد موتها أما الفنانة نجلاء فترصد حالة الخوف والقهر قبل موت هذه الأجساد.
يذكر أن الفنان من مواليد طرابلس 1966، تخرج في كلية الفنون، وعمل في دار الفنون طرابلس رساما متفرغا، ومدير معارض، وأستاذا في كلية الفنون. أقام عدة معارض في ليبيا وخارجها وأعماله مقتناة في العديد من البلدان ومن بينها ليبيا.
تأمل لعالم سحري
تعمل الفنانة نجلاء الفيتوري بشكل مختلف تماما عما يقدمه الفنان يوسف فطيس في عمله الفني منذ سنوات وخصوصا في هذا المعرض، فرغم وحدة الموضوع إﻻ أن أعمال يوسف فطيس جاءت في حالة تعبير غير مباشرة وغير مستقرة على حال، أما نجلاء فتتخذ من السرد والكثير من الإيضاح منهاجا لعملها الفني وما تقتضيه الضرورة الفنية عندها، لأنها تتجه نحو العفوية والكثير من التلقائية مستعينة من وقت إلى آخر بقدرتها المكتسبة من الدراسة الأكاديمية وخبرتها الطويلة في التلوين والتعامل مع اللون ومعالجته بتكنيك راق.
يتضح هذا في الملابس والأزياء والمناطق التزيينية التي تقترب من مناخات الفنانة المصرية شلبية إبراهيم بعالمها السحري والممتلئ بالكثير من المشاعر النبيلة وكذلك اختيار الفنانة المتقن لتكوينات غير تقليدية تضفي الكثير على مشهديات التشكيل الليبي المعاصر وخصوصا في عالم المرأة وخصوصيتها بألوان مبهجة رغم ألمها وحيرتها في هذا العرض الفني الأخير.
ومن المهم جدا الإشارة إلى أن التجربتين فيما مضى كانتا في مناطق قريبة جدا وبنفس البليت للألوان تقريبا. إﻻ أنه عبر السنوات أصبحت لكل منهما طريقته الخاصة إلى أن اختلفا كليا في المنهج وطريقة التعبير والمواضيع المختارة لأعمالهما الفنية، حيث يبرز السكون والتأمل في أعمال نجلاء والاضطراب والحركة المتواصلة في أعمال يوسف.
تخرجت الفنانة نجلاء الفيتوري في كلية الفنون بطرابلس وشاركت في العديد من المعارض الفردية والجماعية ولها لوحات مقتناة في الكثير من السفارات الأجنبية والعربية. قامت الفنانة برفقة زوجها الفنان يوسف فطيس بعمل الكثير من الجداريات لمؤسسات الدولة واشتغلت كمسؤولة معارض بدار الفنون.
صحيفة العرب | السبت 2023/03/04.