المقالة

ملاحظات عن حقبة الإستقلال الليبية

إعلان الاستقلال ليبيا
إعلان الاستقلال ليبيا

الزمان لحظات

يعرف الناس، إذا أرادوا أن يعرفوا، عن واقع الحكومات أنها تدار من قبل نفس الناس. ويعرف الناس أنّ الحكومات تتنفس مثلهم وتتسم بصفات تقترن بالحق وبالجمال وبالعدل والخير، وأنّها قد لا تجيد عملها مثل الناس، وقد تجيده في بعض الأحيان. وللحكومات سلوكات قد تكون مطلوبة للحفاظ على المجتمع وعلى وجوده وعلى تحقيق حاجاته المادية والمعنوية والمعرفية، ومن ثمّة سلوكيات الحكومة السّوية والقوية هي حالة ضرورة في المجتمع غير ذلك فهي سلوكات فارغة لا تنشد المصلحة العامة ولا تصونها.

والسلوك الحكومي الملتزم بقيم المساواة والعدل والحياة الإنسانية الكريمة يتجنب الأنانيات والاستغلال والمصالح الذاتية والسلطة لذاتها ويعمل على توفير فرص متكافئة للمواطنين بلا تمييز ليمارسوا حق العمل والمشاركة السياسية وغير المحكومة بمنطق القبيلة الذي لا هدف له إلا فرض إرادته وديمومة سلطته.

والزمان لحظات، وحقبة الاستقلال الليبية كانت لحظة من هذه اللحظات، فالحكومات حينها دأبت على تكرار سلوكات اسلافها من الحكومات التي سبقتها في النزوع إلى السلطة إذ كان سلوكاً في أغلب الحالات لم تكن لديه القدرة والإرادة للتوجه بالبلد نحو التطور والازدهار، بل كان سلوكاً دأب على حفظ التوازن القبلي والعشائري والعوائلي وبمعزل عن العقل والمنطق، سلوكاً كانت غايته السيطرة الكاملة على الحكم والنفوذ في المجتمع، فلم تكن هناك ” دولة عصرية حديثة” افهومياً أوتجريدياً، أما على الصعيد الواقعي والعملي الملموس لم يكن لتلك الدولة من وجود بل كانت “دولة” وهمية بالدرجة الأولى لا علاقة لها لا بالعصري ولا بالحديث.

ومن لحظات ذلك الزمان، كانت هناك لحظة المدّ العروبي والايديولوجي والقومي والذي كان له بالغ التأثير في الشارع الليبي والذي بدوره انعكس على سلوكيات النظام السياسي حينها والذي تعامل مع ذلك المد بعشوائية لا هدف لها ولا غاية رغم توفر النوايا الحسنة والتي هي ذاتها لا تحسم التناقض الذي كان قائماً بين السلطة وبين الشارع، فالتقت اللحظات في غياب النضج السياسي ففقد النظام قدرته على خلق توازن عام بين الحاكمين والمحكومين، بين الخاص والعام وهو خلل سيؤدي لاحقاً إلى فقدان الشرعية السياسية لدى النظام وبالتالي إلى غياب الأمن والإستقرار ثمّ تلقائياً إلى ” الفاتح من سبتمبر”.


طوبى الفشل

سبر الواقع هو مفتاح فهمه ونقضه وتغييره، وطوبى الفشل تتجاهل الواقع فتخلق نماذج متخيلة عن المجتمع والسياسة و ” الدولة” ومازال كثير من الليبيين يعيشون تحت أسر طوبى الحنين إلى حقبة الإستقلال الليبية عبر رؤية متخيلة عن كيان جغرافي اجتماعي يُسمى في عرف هذه الطوبى بـ ” الدولة الليبية العصرية الحديثة”، والتي أصلاً لم تكن دولة وإنّما تسمى بها. فتعريف حقبة الإستقلال بأنّها ” دولة عصرية حديثة” هو تخيل صورة مقلوبة للوضع الحقيقي عن تلك الحقبة وهو تخيل يثير العاطفة ويخدّر العقل ولا يفيد في فهم الحاضر الليبي.

الدّولة الحديثة والعصرية والتي هي على النقيض مع ” دولة” حقبة الاستقلال لا تسمح بأن تحكمها قلة من الناس تستأثر بكل الأشياء في البلد تحت قواعد تخدم مصالحها وحسب وهي قلة تستمد سلطتها من عناصر متداخلة ومتناقضة من قيم اجتماعية تقليدية تتمثل في القبيلة والعشيرة والعائلة وروابط القرابة والنسب، فلا وجود للحديث والعصري في مثل هذه البنية الإجتماعية التي تعمل خارج وضد الدولة والتي لا تسمح لكل المواطنين بالمشاركة السياسية في ادارة البلاد.

لا أعتقد – شخصياً- في تلك الحقبة سوء النية، وإنّما أعتقد فيها جهلها المركب بمعنى” الدولة ” وغايات الدولة واهدافها وسبل أداء وظائفها. ففي تقديري الصريح أرى أنّ حقبة الإستقلال قامت بتدشين الخطوة الأولى في تحويل مشروع ” الدولة ” على الأقل دستورياً ومفاهيمياً إلى اللا دولة التي حتماً تضيع فيها الغايات الأسمى للتطور والتجديد والتقدم. فضلاً عن فتح ابواب الفوضى وعبقرية التخريب.

لو نحتكم للواقع الفعليمع تجنبٍ للوهم الخيالي لَربما نرى بأنّ حقبة الاستقلال لم تفتح الباب لبناء ” الدولة العصرية” ولم تعمل على الولوج بها في مسار التطور المستمر والمتراكم والذي ينتقل من جيل إلى آخر، فإنْ فعلت فليبيا علّها تعيشه الآن، كما أنّها من جهة أخرى كانت حقبة متهلهلة لم تؤسس وتدعم قيم الإرتباط بين ” الدولة” وبين المجتمع.

إلى جانب هذا فإنّ ” الدولةالحديثة” تعتمد في عملية خلق وبناء الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي على وجود جهاز حكومي وإداري ومؤساساتي متطور مسؤول أمام البرلمان بأنْ يعمل على تنمية المجتمع وازدهاره وحفظ أمنه واستقراره وهو أمرقليله أو كثيره لم يكن في حوزة تلك الحقبة وسلطتها السياسية وحكوماتها المتعاقبة والتي اصلاً كانت فاقدة لإارادة الإنجاز من اجل التقدم والنهوض بالمجتمع ولمصلحة الناس ولذلك كان من اليسير أن ينجح المنطق العسكري وأنْ يتغنى الشعب طائعاً ومترنماً  ”  على شط الحرية رست مركب ثورتنا ” و يهتز طرباً على أنغام ” ثورة على الطغيان والرجعية ” بمزيدً من التّرنم وأنْيخرج ذات الشعب صارخاً بصوت مجلجلٍ ” بالروح.. بالدم نفديك يا ثورتنا” على أنْ لاينسى الشعب المحروم من نعمة الدجاج ” يا وكال دجاج محمر – – ماتحساب وراك معمر” انسجاماً مع العاطفة الوجدانية كناية بالنظام المهزوم.

مقالات ذات علاقة

الفيل…صديقي النبيل

محمد عقيلة العمامي

ترنيمة لبلادي …

عزالدين عبدالكريم

جبروت العقل

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق