أصوات مغاربية | 10 ديسمبر 2021
في كتابه الجديد “الإبادة الجماعية في ليبيا”، يؤكد الباحث الليبي، علي عبد اللطيف احميده، أن النظام الفاشي في إيطاليا ارتكب “أعمالا وحشية” خلال حقبة الاستعمار ترقى إلى “جرائم الإبادة” ضد الشعب الليبي، الذي يحتفل، بعد أيام قليلة، بالذكرى الـ70 للاستقلال.
وتحدّث احميده، الذي يُدرّس تاريخ الكولونيالية بجامعة نيو إنغلاند الأميركية، عما يصفه بـ”التاريخ الخفي” للاستعمار الإيطالي لليبيا، وكيف استطاعت روما “إخفاء” أرشيف تلك الحقبة، بالإضافة إلى عدد الليبيين الذين قضوا في “معسكرات الاعتقال الـ16 في مناطق مختلفة” من ليبيا.
نص المقابلة:
– في كتابك الجديد “الإبادة الجماعية في ليبيا” تقول إن الفاشية ارتكبت “انتهاكات وحشية” في حق الشعب الليبي خلال حقبة الاستعمار، ما هي الدلائل التي استندت إليها للتأكيد على حصول هذه “الإبادة”؟
تعريف الإبادة الجماعية في القرن الـ20 – وبالذات بعد المحرقة اليهودية – واضح. فقد عرفها المحامي والأستاذ القانوني البولندي، رفائيل ليمكين، الذي ترأس مؤتمر الأمم المتحدة عن جرائم الإبادة سنة 1948. وضع رفائيل ليمكين شرطين أساسيين للحديث عن حصول إبادة جماعية: أولا، النية المسبقة، وثانيا استخدام هذه النية من أجل التدمير العضوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي لثقافة معينة واستبدالها بثقافة أخرى. نقوم بتطبيق هذين الشرطين على حوادث تاريخية من أجل الجزم بحصول إبادة من عدمها. إذن، “الإبادة الجماعية” مفهوم خاضع لشروط قانونية وتاريخية واضحة.
بالنسبة للموضوع الليبي، يجب أن أشير إلى مسألة محزنة، وهي أن القرن الـ20 عرف تركيزا شديدا على قضايا معينة دون أخرى. وفي هذا الصدد، فإن الاهتمام بمخلفات الاستعمار الإيطالي لليبيا ظل مسألة هامشيّة في الدراسات التاريخية. والسبب هو حصول انتهاكات أخرى في وقت متزامن مثل الهولوكوست، ما جعل الجميع يركز أعينهم على ما وقع في أوروبا.
وفي الحقيقة، فإن ما وقع في ليبيا إبادة – حتى قبل المحرقة بست سنوات – بدليل أن أزيد من 100 ألف ليبي اعتقلوا في معسكرات الفاشية ولم يبق منهم سوى 40 ألف شخص. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم إجبار آلاف المدنيين على المشي سيرا على الأقدام عبر الصحاري نحو المعتقلات في مشهد تهجيري مروع، وبين هؤلاء أطفال ونساء وكبار السن.
– ذكرت في الكتاب ما سميّته “المركزية الأوروبية”، أي أن التركيز على ما وقع بأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية غطّى تماما على انتهاكات أخرى مثل مخلفات الاستعمار الإيطالي في ليبيا، لكن انتهاكات فرنسا في الجزائر معروفة للعالم، لماذا حصل إذن “تجاهل” لمدة 80 عاما لما وقع في ليبيا؟
هذا سؤال وجيه. في الحقيقة، فإن القارة الأفريقية شهدت ثلاث حالات بشعة. حالة الكونغو تحت الاستعمار البلجيكي، وحالة ناميبيا، التي تعرض قطاعها الإثني من قبائل “هيرورو” و”ناما” لتدمير متعمد على يد الألمان، ولدينا الحالة الجزائرية المشهورة جدا.
الحالة الليبية مجهولة حتى للعرب لأسباب محددة. أولا، تم إخفاء والعبث بأرشيف إيطاليا عن الحقبة الفاشية لأسباب سياسية عقب الحرب العالمية الثانية (وهذا موضوع آخر). وثانيا، الدراسات الأكاديمية والفكرية ركّزت أساسا على وحشية النظام النازي.
إن ما ارتكبه هذا النظام ضد اليهود في أوروبا جعل الإبادة الإيطالية في ليبيا باهتة لدى بعض الدارسين، وكأن ما يقع في شمال القارة أسوأ مما يقع لسكان الجنوب. علاوة على ذلك، فإنه لم تحصل محاكمات لقادة الفاشية الإيطالية كما حدث للنازيين، وهو ما جعل انتهاكاتهم في بلدان كثيرة تظل طي النسيان. لكن الحقيقة هي أن القتل الجماعي، الذي مورس بحق الشعب الليبي، مسألة ثابتة تاريخيا.
في الكتاب، تحدثت فعلاً عن نظرية “المركزية الأوروبية”، وأعني بذلك أن السياسيين والمؤرخين جعلوا ما وقع في أوروبا في المقام الأول، بينما بقيت الانتهاكات ضد شعوب العالم الثالث مسألة مؤسفة. الموضوع الليبي لا يفند نظرية “المركزية الأوروبية” إنما يثبت وجودها في الكتابات التاريخية للقرن العشرين مع الأسف.
– في 2008، اعتذرت إيطاليا لليبيا عن حقبة الاستعمار وتعهد رئيس الوزراء حينها، سيلفيو برلسكوني، لنظام معمر القذافي بدفع خمس مليارات دولار كتعويضات تأخذ شكل استثمارات على مدى 25 عاما. هل ذكر الاعتذار ما تعتبره “الإبادة الجماعية” بحق الشعب الليبي؟
الاعتذار الإيطالي كان في الحقيقة إنجازاً مهماً بالنسبة لأفريقيا ودول العالم الثالث. لكنه مع الأسف كان اعتذارا غامضا، ولم يحتو على ضرورة فتح أرشيف تلك الحقبة. في الكتاب، قدّرتُ عدد الليبيين الذين قتلوا على يد الفاشية، إما بسبب الجوع أو المرض، بحوالي 70 ألف شخص. إذن، الاعتذار الإيطالي لم يأت على ذكر ما حدث لهؤلاء وندمه على حقبة الفاشية إجمالا.
مع الأسف، كل ما حصلت عليه ليبيا من هذا الاعتذار الغامض والعام هو استثمارات من أجل بناء وإعمار بعض المناطق (أشهرها الطريق الساحلي) مقابل نسيان ما وقع حينها.
الاعتذار يجب أن يكون مصحوباً بخطوات منها إعادة قراءة الأرشيف، والتعريف بما وقع في الإعلام، وتدريس أخطاء تلك الحقبة للأجيال الجديدة. حاليا، ما يحصل في إيطاليا هو عكس ذلك تماما، فالفاشيون الجدد (وهم امتداد للفاشية التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية) منتعشون سياسيا، إذ وصلوا إلى مراتب وزارية ولديهم نفوذ سياسي واسع في البلد.
– في الكتاب، قلتَ إن المادة التاريخية كانت قليلة جدا بحيث أنك اضطرتَ لتقفي خطوات الاستعمار من برقة شرقا عبر زيارة أماكن هذه المعسكرات ولقاء الناجين، هل وجدت دلائل ملموسة عن حصول قتل جماعي؟
بدأت البحث في هذا الكتاب سنة 2000. ذهبت إلى إيطاليا بحثا عن كل ما يمكن أن أحصل عليه عن تلك الفترة. وجدت أن الأرشيف هناك غير موجود أصلا، أو من أجل الدقة غير متاح للأكاديميين. ثم تواصلت مع أهم مؤرخي إيطاليا الذين رفضوا الصمت عن موضوع الإبادة في ليبيا، وبعضهم اقترح عليّ الحديث مع أولئك الذين عاشوا أهوال الاستعمار الفاشي، لأن هذا هو أهم مصدر متاح بالنسبة إلينا في الوضع الراهن.
ذهبتُ إلى الشرق الليبي واستمر البحث حوالي عشر سنوات. خلال هذه الرحلة، حصلت على أزيد من 220 مقابلة واكتشفت أشياء مرعبة مثل آلاف المقابر الجماعية، وفجأة وجدت نفسي وجها لوجه أمام حرب الإبادة. لم يكن الموت في معتقلات الفاشية بالغاز – مثل معسكرات النازية – إنما كان الموت بطيئا من الجوع الشديد والأمراض. والكتاب يوثّق قصصا كثيرة ومعزز بأدلة في هذا الصدد. وأكثر الأشياء التي صدمتني هو كيف يصوّر هؤلاء الناجون عذاباتهم في المعتقلات وهم يشاهدون أقاربهم يموتون ببطء من الجوع الشديد. إنها صورة نجحوا في نقلها إلى بطريقة جعلتني لا أستطيع أن أزيل بشاعتها من مخيلتي.
بعد هذا البحث والتقصي وجدت أن الإيطاليين أنشأوا أزيد من 15 معسكرا للاعتقال في عموم التراب الليبي. مع الأسف، فإن الدولة الليبية بعد الاستقلال – رغم كل طنطنة ودعاية القذافي – أهملت هذه المعسكرات. لكن يظل هناك معسكر وحيد تم الحفاظ عليه هو “العقيلة”.
– أخيرا، أود أن أسألك كيف تنظر إلى موضوع تهجير الإيطاليين بعد استقلال ليبيا. في 2008، احتجت جمعية الإيطاليين المطرودين من ليبيا من دفع بيرلسكوني التعويضات، مطالبة بإقرار قانون يقضي بتقديم تعويضات لكل الذين طرهم نظام القذافي من البلاد عام 1970؟
هؤلاء في حالة إنكار. هؤلاء لم يكونوا سياحاً في ليبيا، إنما جاؤوا تحت حراب ودبابات الإيطاليين الذين سفكوا دماء آلاف الليبيين. بدل أن يواجه هؤلاء حقيقة الإبادة التي وقعت في هذا البلد يلجؤون إلى الإنكار بدعوى أنهم كانوا مواطنين ليبيين أيضا. هذا غير صحيح. الشعب الليبي عانى الأمرين من جراء الاستعمار، ولم يعاني هؤلاء أي شيء بل استفادوا من المؤسسات الاستغلالية التي خلقها الإيطاليون لنهب الثروات.
هذا الموضوع شبيه بموضوع “الأقدام السوداء” في الجزائر، لكن هذا لا يعني هضم حقوق أحد عندما يتم الاعتراف بالإبادة أولا وأن يكون ذلك بالطريقة الصحيحة. مستقبلا، إذا نجحت ليبيا في جعل إيطاليا تعترف بالموروث الدموي الفاشي للحقبة الاستعمارية فيمكن حينها الدخول في حوار مع المستوطنين الذين طردهم القذافي. الآن، لا بد أن نقول الحقيقة: ليبيا عاشت إبادة بشعة ومنسية لمدة 80 عاما.