“عتمة، تتخلخل مفاصل بيتنا، تتباعد وتقترب في حالة اتساع دون حس، إيذانا بقدومه، ذاك الثوب الأزرق المتسربل، حول القوام الأنثوي المتمايل، ناثرا حواليه هالة من نقط الضوء المشعة في برود…
في كل خطوة يقفز قلبي مؤملا شقّ أضلع جدتي لأبي والاختباء في صدرها، يفشل قلبي كما ريقي مع استحالة ايقاظها، وحده أنفي ملتصق بالصدر النائم، فما نفع القرب؟ يدنو وأصفد، وحده الخفقان يتدافع يخنق حنجرتي ويهزّ طبلتي أذني، حالتْ بقعة ضوء بيني وبين ملامح الوجه، صرّيت على عيني والخيال ينحني تجاهي، تصطك أسناني، وتنتفض جمجمتي، وتغزوني رائحة بلل وغيطان، تتمسح يده كتف جزعي، وبخفة ينسحب فوق جسدي منسابا بنعومة ساقية حرير، أهبُّ مكاني جالسا، تلحق نظراتي الذيل الحريري الأزرق نحو الردهة، تتباعد ومضات الضوء تباعا، تختفي، أصرخ، أستغيث منها متعلقا برقبة جدتي، أتشنج، وزبد أبيض سدّ فمي، أرتخي، وحُمىّ. وتذيع لأمي، (لِحْبَيّبَاتْ بِيكْسْرَنْ رقبة “جبر”)*، وبسرعة، تعضُّ “جدتي” بأسنانها على صرة المسحوق الكبريتي الأبيض، تمرره بسبابتها على مفصلي قدمي اليسار ويدي اليمين خلافا، وبين فخدي أسفل عنق الكنز، وبسبابتها الغليظة تدعك أرنبة أنفي، فتغشاني رائحة اليأس، وأنهار أنا في كل مرة تزورني فيها الأنثى الزرقاء، التي أدمنتُها رغم صمتها، رغم الحُمّى، رغم رائحة مسحوق “جدتي”، تباعدتْ زياراتها، وانقطعتْ بعد أن رمتْ “سأعود”، لكنها لم تعد، وما دمتُ ذكرا وتجاوزتُ السادسة، ولم تقتلني فقد (فات سوَّها) تصرّح جدتي، وتسخر أمي، وتبتسم الردهة.
فماذا لو علمنَ! كبُر ذكرهنّ وفتح مدينة اسمها “غزالة”، فستانها ليس أزرق كما أحلم! وتخلو من رائحة الطين المبلول التي أشتهي، الرائحة الممتدة الغائرة عميقا، بعيدا، تثيرني الزرقاء، أتبعها، أتبعها تسحبني فيها. شقيٌّ أنا، فلَونُ “غزالة” رمادي، ورائحتها مُحايدة، كمحطات المُدن مصنوعة الظل، وأنا العاشق ظل الشجر والدوالي وأكمام النخيل، وسيوف الرمل، ظل حقيقي كجرد عمي “الغناي”، يَشي بالطمأنينة واليقين.
تدفعني الريح تحفّ أقدامي بالكاد تلامس الثرى، كلّ همّي الخروج من هنا، لا أريدُ أنْ يَطالني ما طال “المستبلي”، ولا حتّى رصاصة طائشة، ولا حتى تقييد معصمي، كيف لو رأوني أدفنه ذاك الذي أجهله!؟ ساعدتني على حملهِ للسيارة لكنّها لا تعلم أين ردمته فهل عَلِموا؟ لا شكّ هناك نصبوا كاميراتهم، فأين ألصَقوا بي أجهزة تعقبهم؟ تتوشوش الدروب تتآمر علي، وأصابع الريح تتخطفني، والفرار، الفرار، إلى أين؟ إلى حيث تريد الريح، إلى حيث ذلك اللحن المُغري، إلى حيث لا أعلم يسير بي درب ترابي متحرك دونما إرهاق، تتسع رئتاي مع خطواتي، مع تباعد الضاحية، يئستُ “فتحية”، ولم أفكر في “غزالة”، ولا تهمني ” لمياء”، ولا أمر صديقي “فضل”، ولا صندوق “بو شنوارة“.
برشّة ماء داعبتُ تلك الخُنفَساء فيما كانتْ تحاول تسلّق السّور للخروج، برشة ماء أعادتْها جدول الشجرة مثل كلّ مرة.
خلعتُ كل شيء على ذاك الرّف الصغير، ساعتي ومحمولي وخمسين دينارا، فلم أكنْ أحمل خاتم زواجنا، وفي صرّة صغيرة كنتُ خبأتُ دعواتِ أمّي وابتسامتها، تأملتُها كثيرا، نفضتُ الصرّة وغادرتُ. خلعتُ كل شيء، أو هكذا خيّل إليّ، استسلمتُ للريح، للدرب الترابي، لا أذكرُ مِن خلفي غير كَوْم حجارة، وأوّل قُبلة حُبّ سترتها عتمةٌ وصندوقُ قُمامة.
خلعتُ كلّ شيء.. إلا نعليّ..
”إخلع نعليك واقترب”.. قال لي…
* “لحْبِيّبٓاتْ”: مصطلح شعبي كناية عن المس عندما يصاب الطفل الذكر بالتشنج.