حوار: يونس الفنادي
كنت مشغولا به وقلقاً عليه آبان مجريات ثورة فبراير المباركة حين لم تكن هناك وسيلة للتواصل معه سوى هاتفه النقال الذي ظل مغلقاً، أو لا يرد معظم الأوقات، فاخترت الاتصال به على هاتف بيته حين علمت أنه يتردد على المستشفى ثم لاحقاً جاءني صوته الخافت ليزرع الاطمئنان في نفسي عقب مراجعته لطبيب القلب وتحسن حالته الصحية التي تصاعدت مع الغليان الشعبي ومخاض فجر الخلاص.
كان ذلك أثناء حصار طرابلس الذي استمر شهوراً قاسية وصعبة، وما أن انتصر الحق على الباطل وتعالت بواكير النصر وهتافات الحرية في سماء عروس البحر وكافة أرجاء ليبيا الحبيبة حتى فاضت البهجة واسترد الجسد عافيته ورقص القلب كعصفور يفرد جناحيه منتشياً لنسائم الحرية وعودة الروح.
في تلك الأجواء عشت يوم التاسع من سبتمبر 2011 وسط الجموع في ميدان الشهداء بطرابلس أحلى أوقاتي تعبيراً عن استرداد العلاقة المصادرة مع الوطن. وفي غمرة تلك المشاعر الجياشة فكرت فيه فتواعدنا على اللقاء مساء اليوم التالي في بيته. وما أن دخلت حجرة الاستقبال حتى ارتميت في حضنه وهو يستقبلني بدموع الفرح الصادق وعبرات النفس التواقة لمعانقة المستقبل في عيون أطفال ليبيا الذين نذر حياته الإبداعية لهم. جلست مبتهجاً أسرد عليه صور الفرح الحقيقي ونعدد المواقف التي زلزلت التاريخ الإنساني والوطني بوجه خاص. تعانقنا وتحاورنا فوجدته يبحث عن نص الإعلان الدستوري لنشره في العدد الأول من صحيفته “الليبي اليوم” التي كان يرتب لإصدارها، فأرسلته له. ثم باعدت بيننا مشاغل العمل ولكني ها أنا اليوم وبعد شهور طويلة من الغياب أعود إلى نص حواره الشيق الذي أجريته معه في برنامجي المرئي (المشهد الثقافي) منذ سنين لأحييه من خلاله وأقدمه للقراء الأعزاء لمطالعة الفكر المستنير والعشق الحقيقي للثقافة والوطن.
أستاذ يوسف… بدايةً في إحدى رسائلك الإلكترونية التي أرسلتها إلي مشكوراً تصف نفسك قائلاً (… أنا رجل محكوم بالأسئلة، تتراكم مع تقدم سنوات العمر، والمحزن أننا عندما نرحل نترك خلفنا معظم الأسئلة دون إجابات…) ما صعوبة ومرارة أو معاناة إنسان تستوطنه الأسئلة المتوالدة التي لا تنتهي؟
طبعاً كنت أتمنى أن يكون هذا السؤال هو الأخير، وكنت أتمنى أن نبدأ بالأطفال، على الأقل لأن في الأطفال أمل وفرح وبعض النشوة. ولكن لا بأس فالموضوع متكامل. طبعاً أنا قلت لك أنا محكوم وكان من المفروض أن أقول لك أنني مسكون بالأسئلة ولست محكوماً، باعتبار أن الإنسان هو الذي يختار أسئلته، ولكن عندما يختارها تحكمه، يظل أسيراً لهذه الأسئلة. طبعاً أنا مسكون بالأسئلة كانسان فرد، ومسكون بالأسئلة على المستوى الثقافي بالدرجة الأولى. فالأسئلة كما تعرف يونس هي الحياة. فالحياة هي مجرد مجموعة من الأسئلة، ولو فرضنا أن الأسئلة انتهت من الحياة لما كانت هناك حياة. فكل شيء في حياتنا أسئلة.
ولكن هناك معاناة في البحث عن إجابات لكل تلك الأسئلة.
بالتأكيد، والمعاناة هي أيضاً تتفاوت. مثلاً عندما تخرج أنت من بيتك وتتوجه إلى عملك فأنت تسأل نفسك ضمنياً أي شارع تختار وأي اتجاه تأخذ وهنا تكون معاناتك محدودة لأنك تفكر في اختيار شارع معين واتجاه محدد. وهكذا فكلما عظم السؤال كلما عظمت المعاناة. ولذلك فالكثيرون يهونون من قدر الفلسفة وهذا ليس صحيحاً لأن الفلسفة هي مجرد مجموعة من الأسئلة.
يقولون بأن الفلسفة ليست القدرة على الإجابة على السؤال بقدر ما هي القدرة على خلق السؤال.
عليك نور… بالضبط. لذلك فالأسئلة هي الحياة، هي الناس، ويخطيء من يعتقد أن الأسئلة هي عبثية أو مختلفة عن حياة الناس. بالعكس فكلنا نمارس الفلسفة في كل شأن من شئون حياتنا مهما صغر أو كبر.
هل نعرّف الحياة بأنها سؤال كبير؟
هي سؤال مستمر طبعاً، يبدأ سؤال ولن ينتهي ولا يجب أن ينتهي أصلاً. فروعة الحياة في دوام أسئلتها لأن أسئلتها تقودك إلى المعرفة والمعرفة تقود إلى سؤال جديد، والمعرفة نور كما تعرف. ولذا يجب أن تستمر الأسئلة لذلك قلت لك في رسالتي تلك: الإنسان لا يستطيع أن يدعي أنه كلما تقدم في السن كلما استطاع أن يجيب على أكبر قدر من الأسئلة، بالعكس… فالعكس قد يكون هو الصحيح. والغريب فعلا فقد يكتشف البعض أن كل أسئلته الماضية لم تكن في مكانها.
هل هذا يعني بأن تراكم الخبرة قد لا يعطي القدرة على الإجابة على الأسئلة؟
بالتأكيد. لأنك وأنت في سن متقدمة، تتقدم الأسئلة فأنت تتقدم في البحث عن إجابة وفي نفس الوقت تقوم بمراجعة اجابات سابقة.
إذا هي ملاحقة.
نعم هي ملاحقة. ملاحقة من أسئلة قديمة ومطاردة لأسئلة قادمة. طبعاً هناك بعض الناس من يكتفي بقدر معين من الأسئلة، وفي وقت معين أو مكان معين. هناك بعض الناس يكتفي ببعض الأسئلة ويعتقد هذا الشخص بأن هذا يكفيه لأنه كما يعتقد عرف كل شيء، وفهم كل شيء، طبعاً هذا للأسف يقود إلى انغلاق الرأي ويقود إلى التعصب في الرأي.
ولكن الشاعر يقول (وقل لمن يدعي العلم عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ)
بالضبط. فالذي يقول أنا عرفت كل شيء فهو لا يعرف.
ولكن بقدر ما في البحث المضني عن إجابات لتلك الأسئلة المتوالدة التي لا تنتهي من مشقة وتعب وقلق، بقدر ما هناك لذة واستمتاع ومتعة في البحث والمعرفة المتجددة.
بالتأكيد. أجمل ما في السؤال في شكله المطلق هو أولاً أنه يحررك من عبوديتك، عبودية الجهل، وليس هناك أقسى من عبودية الجهل. السؤال يحررك من عبودية الجهل. وعندما تكتشف أنك تحررت من جهلك بشيء ما، تجد نفسك أنك فتحت باباً واسعاً جداً جداً، وهذا يعطيك رضى عن نفسك، ويعطيك فرحاً ويعطيك سعادةً. لا بأس أنك ستكتشف بعد ذلك، أن ما عرفته قد فتح باباً لسؤال آخر، والأجمل والأروع في الحياة هو أنك تمضي للسؤال الذي بعده ثم الذي بعده ثم الذي بعده. هكذا يمتلك الإنسان إنسانيته، ويمتلك كينونته، ويمتلك حقيقته، وبالتالي يمتلك أمله. فالواقع أننا نحن لا نستطيع أن نصل إلى المدينة الفاضلة، ولكن حتى لو فرضنا أننا وصلنا إليها لتقنا إلى مدينة فاضلة أخرى. والجميل هو أننا نسعى لتحقيق هذه المدينة الفاضلة وهنا تكمن السعادة الكبرى وهي تحقيق الأجمل والأروع في الحياة دائماً. ليس هناك من أمل أخير، فالأمل دائماً يتجدد، فمع المعرفة يتجدد ومع الأسئلة يتجدد.
البعض يقول بأن الحياة بها نفس الأسئلة ولكن تلك الأسئلة في كل مرة ترتدي ثوباً آخر، وتأتي من ركن مختلف.
نعم يحدث هذا. فبعض الأسئلة العامة متكررة ويمكن تكون قد بدأت منذ بداية البشرية ولم يستطع الإنسان أن يجيب عنها، هذه في علم المولى عز وجل. فالإنسان لا يستطيع الإجابة عنها خاصة الأسئلة الخارجة عن نطاق عقله، فهو مهما فكر وفكر وفكر… هناك أسئلة لا يستطيع أن يجيب عنها. ولكن على مستوى السؤال الثقافي وعلى مستوى التجربة الشخصية بالإمكان الوصول إلى إجابات. على الأقل عندما أصل إلى إجابة أحس بسعادة لأني وجدت إجابة عن هذا السؤال حتى وإن قادني هذا السؤال إلى سؤال آخر، ويجب أن يقودني فعلاً إلى سؤال آخر وإلا فإن هذا يعني أنني إنسان توقف عند حد معين من المعرفة، وتوقف عند حد معين من الأسئلة. وهو الإجابة عن تلك الأسئلة. وهنا مكمن الخطر.. فقد نخطيء وقد نكرر السؤال ولكن يجب ألا نتوقف عن السؤال في كل شأن من شئون حياتنا، وليس في الثقافة فقط.
أعود وأسألك ألا ترهقك الأسئلة؟
ترهقني كثيراً. وكما قلت لك قبل قليل إن بعض الأسئلة القديمة تعود مرة أخرى. ولذلك فالقول بأن إنسان ما أنضجته التجربة وتوسع وعيه، فإن مرد ذلك لأنه راجع أسئلة قديمة وهو يراكم أسئلة جديدة بعدها.
أستاذ يوسف في رسالة أخرى تبوح لي قائلاً (…لا أخفي عليك أنني ومنذ زمن صرت أتردد كثيرا كلما سئلتُ عن رأيي في موضوعة أدبية أو ثقافية وعلى المستويين الشخصي والعام…) ما مبعث هذا التردد؟
مبعث هذا التردد هو المشهد الثقافي الذي أسميه الواضح الغامض. هو غامض لشدة وضوحه. وواضح لشدة غموضه.
دخلنا في مجال فلسفي.
المجال الثقافي عندما تلقي عليه نظرة عامة يبدو مشهداً هادئاً مسالماً كل شيء فيه محدد. فيه كتاب، فيه من يكتب، فيه مؤسسات ثقافية، فيه دور نشر، فيه لوحات تشكيلية، فيه معارض فيه ندوات، فيه طرب، فيه.. فيه.. وكما قلنا بالأسئلة تلتقط أنت هذه المشهدية العامة ثم يأتي السؤال ليقول: ماذا به المشهد الثقافي؟ ماذا يوجد بهذه الزركشة؟ في هذا الوضوح كل شيء واضح. ولكن عندما تحاول أن ترى ما هو أبعد مما هو على السطح قد لا تستطيع. المشهد الثقافي الليبي من بداياته هناك كم هائل من الكتب المنشورة، ومازالت الكتب تتوالى على المكتبة الليبية، هذه حقيقة موجودة. مجلس الثقافة العام ينشر، المؤسسة العامة للثقافة تنشر، المؤسسات الثقافية تنشر، مركز جهاد الليبيين ينشر، دور النشر الأخرى تنشر. فعلاً هناك تراكم كمي يتحقق يوماً بعد يوم على صعيد النشر الكتابي. لسان المشهد الذي يجب أن يتكلم به موجود. هذه الكتب موجودة. إضافة إلى أن هناك كتاباً يكتبون الشعر، ويكتبون القصيدة، ويكتبون القصة، ويكتبون الخاطرة والمقالة. ولكن هل نحن راضون عن هذه المشهدية؟ أنا لستُ راضياً عنها. لسبب بسيط جداً وهو أن قيمة أي حركة أدبية تتحدد، وهنا نعود للأسئلة، بما فيها من أسئلة. مشهدنا الثقافي تغيب عنه الأسئلة. طبعاً قد يقول قائل لا هناك من يكتب. ولكن ما أقرأه من خواطر سريعة أو من متابعات هي ليست نقدية بل إخبارية إلى حد أكثر. فالمشهد الثقافي بصفة عامة يخلو من الأسئلة وبالتالي وليعذرنا الأخوة النقاد، وأنا لست من المؤيدين لما سأقول، ولكن هناك من يقول بأن المشهد الثقافي غابت عنه الأسئلة لأن الناقد غاب عن هذا المشهد.
ألا تلاحظ أستاذ يوسف بأن هذا المشهد الثقافي المزركش، كما وصفته، يفتقد إلى الحوار.
طبعاً فأنا عندما قلت الأسئلة فإنني قصدت غياب الحوار.
هل تعني غياب الحوار مع الذات أم مع المتلقي أم غيرهما؟
الحوار المتفاعل. الحوار المتداخل. حوار ما بين الكاتب والقاريء، حوار بين الكاتب والناقد، حوار بين الناقد والناقد مثلاً.
ما أهمية تواجد هذا الحوار؟
لأن الحوار هو الذي يولد الأسئلة. ويثري ويفصح عن مكونات أي مشهد، ليس المشهد الثقافي فقط. يفصح عن مكونات هذا المشهد الثقافي ويجعله يتجاوز حده ويتقدم وينضج. يعني لا أعتقد أن هناك من يقول أن مشهدنا الثقافي به حوار نحن راضون عنه. لالا… لا يوجد به حوار. طبعاً أنا لا ألقي اللوم على المبدع والناقد فقط ولكن مثلاً غياب المطبوعة الأدبية الثابتة، طبعاً الآن عندما أتصفح الصحف أجد الملاحق الثقافية بها ومجلة شؤون ثقافية، لكن لو وجدت المطبوعة الثقافية منتظمة الصدور والمداومة على الصدور بالتأكيد ستوفر فضاء للنشر، وستوفر فضاء للنشر المتنوع، ولكن طبعاً هذا لا يحدث الآن، فالنشر المتاح بشكل أو بأخر لا يصل إلى الهدف الطموح، أما النشر للمستقبل طويل المدى موجود وهو نشر الكتاب ولا خلاف عليه، ولكن النشر اليومي، فأنت تريد أن تتابع يومياً، وإذا قرأت قصيدة فإنك تريد أن تكتب عنها غداً، وهكذا يحدث التفاعل بين القاريء وبين الكاتب وبين الناقد، ولكن لحد الآن أنا لا أجد أسئلة كبرى، أسئلة ضرورية، الأسئلة التي يجب أن تكون في المشهد الثقافي الليبي.
طالما أن المشهد الثقافي غير قادر على إفراز الأسئلة الكبرى، كيف نطور هذا المشهد؟
يمكن ليس لأنه غير قادر، ولكن ربما هو لا يستطيع أو لا يريد. طبعاً أنا لا أدين المشهد في ذاته لأن هذا الكلام لن يكون موضوعياً، ولكن لظروف معينة كونت هذا المشهد.
ما مرد ذلك، ما أسباب ذلك؟
أحدها غياب المطبوعات الأدبية المداومة، فهذه ضرورية جداً. يعني الآن ما يتوفر عندنا من فرص للنشر في الصحف لا يكفي لخلق حوار وإثارة قضايا المشهد الثقافي بكل الأسئلة التي حوله، ولكن قد، بمرور الزمن، وتغير الظروف، تتوفر هذه المطبوعات الأدبية وتتوفر لنا إمكانياتها ويتوفر لها الإصرار على استمرارها.
أستاذ يوسف أنا أعرف، بل أستطيع أن أوكد، بأنك تؤمن بأن الثقافة وطن، وهذا هو تعبيرك الشائع فإلى أي مدى تربط الوطن بالثقافة أو الثقافة بالوطن؟ وما ضرورة هذا الارتباط؟ وأهميته؟
من تحصيل الحاصل أن تكون الثقافة وطن. ولن تكون شيئاً إلا ذلك. إذا لم تكن الثقافة وطناً فماذا يمكن أن تكون؟ كل أنواع الإبداع مهما تنوعت واختلفت، وكل الكتاب كيفما كتبوا ومهما كتبوا، ففي النهاية فإن ما يكتبونه هو من أجل الوطن. هو وطن. الاختلاف هو اختلاف الرؤية لهذا الوطن. الثقافة وطن هذا للجميع فالكل يمارسه حتى وإن لم يسأل نفسه عنه، ولكن قد لا نتفق كلنا على هذه الثقافة بأنها وطن. أنت تراها من هذا الجانب وأنا أراها تحقق هذا الجانب، وهنا يحدث الحوار وهنا يحدث الاختلاف تأكيداً لهذا التوجه بأن الثقافة وطن. وما يضر هذه المقولة أن أحدنا يؤمن بأن رؤيته للوطن هي الرؤية الصحيحة. هنا يكمن الخطر الكبير جداً جداً جداً. ليس من حق أي كاتب أو إنسان أن يدعي أنه الوحيد الذي يعرف ثقافة الوطن. هذا لا يصح.
البعض يكتب عن الوطن من خارج الحدود الجغرافية المكانية… المرحوم الصادق النيهوم والروائي إبراهيم الكوني نموذجاً… فهل يؤثر ذلك التواجد المكاني على موضوعة وصدقية النص الثقافي الوطني؟
لا لا…. لا يؤثر… بالتأكيد لا يؤثر. ليس للجغرافيا علاقة بصدق الكتابة من عدمها.
هل نضيف في هذا الجانب أدب المهجريين إلى ذلك.
طبيعي. بصفة عامة جداً، سواء بالنسبة لنا كعرب أو حتى للأجانب. الإبداع لا علاقة له بالمكان الذي أنت فيه. له علاقة بوعيك، وباختياراتك عن التعبير، ونعود إلى موضوع الثقافة وطن، وهذا ما تصادفه عندما تقرأ كيف عبر إبراهيم الكوني، وكيف عبر أحمد إبراهيم الفقيه، وكيف عبر الصادق النيهوم ولكن المصداقية والصدق يتوفر فيهم جميعاً جداً.
تألقت في كتابة القصة القصيرة وامتلكت كل الأدوات الفنية لإبداع نصوص جميلة وراقية ومعبرة بداية ربما من “الجدار” التي تحصلت على الترتيب الثالث في إحدى المسابقات في منتصف الستينيات. هل لازالت القصة القصيرة كجنس أدبي تحظى بحضور في الوسط الثقافي الإبداعي أمام تطور أجناس أدبية أخرى كالشعر الحديث والرواية؟
طبعاً أنا دائماً أنطلق من المحلي، لأن معاناتي الدائمة والمباشرة والمستمرة والمضنية هي لسؤالي والواقع الذي أعيش فيه وأعرفه. أنا لا أستطيع أن أتكلم عن واقع خارج حدودي رغم متابعاتي له، ولكن أشخص الواقع الذي أنا فيه وهو حاضر في ذاتي. الآن القصة الليبية تستطيع أن تقول بأن عليها غبار كثيف، ولم يتحدد واقعها بعد، ففي ظني أنك تستطيع أن تراها واضحة في الستينيات، تستطيع أن تراها واضحة في السبعينيات، الآن بالتأكيد هناك من يكتب القصة القصيرة ولكن ألا ترى أن القصيدة هي الأكثر انتشاراً؟ والأغرب من ذلك أن الرواية تنتشر الآن بشكل كبير جداً جداً. وهذا فعلاً ما يثير سؤال قد لا يكون هذا مجاله، يعني الرواية في ليبيا عكس كل ما قال به النقاد القدامى وتكلموا فيه عن متى تظهر الرواية.
كانوا يقولون بأن المستقبل هو للقصة القصيرة.
كانوا يقولون ذلك فعلاً ولكن جاءت الرواية وعكست تلك الأقوال. صحيح من الصعب أن يدعي الإنسان أنه يستطيع أن يقرأ المستقبل، مهما يمتلك من أدوات، والأجمل أن الرواية الليبية مستمرة ونتمنى ذلك حتى للقصة الليبية، ولكن نعود ونقول أنه لغياب المتابعة النقدية، ولغياب المطبوعة الأدبية الثابتة والدائمة قد يكون هناك الكثير مما هو مكتوب ولم ينشر بعد، وأتمنى أن ينشر.
في مجموعتك القصصية “هذا كل شيء” الصادرة سنة 2001 في المغرب، أعدت نشر قصة “الجدار” التي سبق وأن نشرت سنة 1966، أعدت نشرها بعد حوالي أربعين سنة لماذا؟ هل تحمل رسالة معينة للقارئ، أم أنك اكتشفت جانباً مضيئاً أخر في “الجدار” فأعدت نشرها من جديد؟
لا لا لا لأن شخصية “مفتاح” تتكرر.
“مفتاح” ذاك الإنسان الذي يركب موجة أخرى ثم يعود إلى مجتمعه وأهله فينبذونه.
“مفتاح” يتكرر مرة أخرى. الفارق أن “مفتاح” عندما تكرر لم يلتفت إلى الوراء. لم يحاول أن يعود. ما يكتب لـ”مفتاح” الأول أنه عاد، أو حاول أن يعود، لكنه عندما استنسخ نفسه لم يفكر في العودة إلى الوراء، بل ولم يفكر حتى في النظر إلى الوراء. هو موجود، وإن بصيغ أخرى، وبصور أخرى فقط.
المجموعة الحديثة “هذا كل شيء” أهديت منها قصتين إلى شخصيتين الأستاذ محمود أمين العالم وعبدالعزيز الغرابلي. ماذا يمثلان لك شخصياً وللقصة؟
طبعاً الأستاذ محمود أمين العالم لا حاجة لأن يتكلم عنه الإنسان. طبعاً قرأته كثيراً وألتقيته مرة أو مرتين تقريباً، عندما جاء إلى هنا لزيارة رابطة الأدباء والكتاب، أهديته تلك القصة انحيازاً لأمل، لغد مشرق، انحيازاً للتفاؤل، انحيازاً بأن الطريق سيكون أكثر بهاء وأكثر اشعاعاً. أما عبدالعزيز الغرابلي فقد عرفته ولم أعرفه.
عرفته ولم تعرفه… هنا مكمن السؤال..هنا يولد السؤال… كيف؟
لم أتقابل معه ولكن من كثرة ما تكلم عنه من يحبونه أحببته. فأهديت له هذه القصة.
أستاذ يوسف ما هي طقوسك في الكتابة؟ نود أن نعرف بعض التفاصيل الخاصة. فالأدباء الكبار وأنت منهم لديهم طقوس معينة، متي يكتبون؟ أين يكتبون؟ كيف يؤثثون فضاءهم الإبداعي؟
للأسف أنا لا توجد عندي طقوس معينة للكتابة. ولا أعتقد أن من يقول بهذه الطقوس هي موجودة بحرفيتها، لأن إن قالت بها وقعت في الصنعة، مثلاً أنت تقرر أن تجلس في الساعة الخامسة لتكتب، ولكن الكتابة لا تأتي بقرار، والفكرة لا تأتي بقرار. الفكرة قد تبقى تتصارع في ذهنك لمدة أشهر، ثم فجأة وأنت في مكان ما تتكون هذه الفكرة، تنضج هذه الفكرة سواء كانت قصيدة أو قصة أو فكرة لرواية. من الناحية الجغرافية أنا عندما أريد أن أكتب أطلب الهدوء المطلق.
هل تنعزل؟
أطلب الهدوء المطلق، نعم أنعزل. فأنا أكتب في البيت طبعاً. ولا أستطيع أن أكتب وسط الزحام أو في الضجيج أو الضوضاء.. لا أستطيع.
منذ صدور أول مجموعة قصصية مطبوعة “نفوس حائرة” للمرحوم عبدالقادر أبوهروس سنة 1957 وحتى الوقت الحالي ما هي أبرز الملامح التي تطورت فيها القصة المحلية، هل بإمكاننا أن نرصد بعض التطور في القصة القصيرة الليبية؟
هذا وكأنه التفاف حول سؤال سابق. لا بأس. هو بالتأكيد أن القصة الليبية تطورت، بدأت بعبدالله القويري وكامل المقهور والمصراتي وآخرين.
وعلى الصعيد الشخصي كيف تطورت؟
بالنسبة لي فإنني لا أدعي أنني تطورت. أنا كتبت ثم توقفت وأنتهى الكلام. أنا الذي يعنيني وأنا حزين من أجله أن القصة الليبية تقدمت كثيراً فالآن هناك من يكتب القصة أفضل مما يكتبها يوسف الشريف، وأفضل مما يكتبها عبدالقادر أبوهروس، وأفضل مما يكتبها الكثيرون من السابقين، وقرأت نصوصاً فعلاً تتجاوزنا وهذا شيء محبب وشيء جميل، وهذا شيء واعد للمستقبل، وهذا يؤكد أن مشهدنا الثقافي مؤهل ويملك الإمكانيات ليكون أفضل مما سبق، ولذلك من هنا يأتي الاستغراب ومن هنا تأتي دهشتي بل وحزني لرتابة المشهدية الثقافية الموجودة والتي أتوقع وانتظر وأتمنى أن تسقط فيها قطعة حجر.
كتبت “الأيام الجنوبية” هل نعتبرها جزءً من سيرتك الذاتية؟ فالبعض يكتب سيرة ذاتية تقريرية والبعض سردية والبعض توثيقية. كيف تصنفها؟
هي سيرة بالتأكيد، وتمثل مرحلة معينة ومهمة من حياتي، عشتها وأنا في سن التاسعة عشرة. كتبتها بتلقائية تلك السن القديمة، ولم أكتبها بتلقائية أو وعي العمر الحالي لكي أمنحها حقيقتها وحقيقة معاناتها.
هذا أهم وأبرز الشروط التي يجب أن تكتب بها السيرة الذاتية، أي لابد أن تكتب بشواهد وشخصيات وروح تلك الفترة وليس بفكر الحاضر.
بالتأكيد، ولذلك أنا أرى أن البعض يخلط بين السيرة الذاتية والمذكرات، في الوقت الذي يوجد فيه فرق كبير بينهما. السيرة الذاتية فيها الشخصي الداخلي، فيها البوح، فيها الشفافية، فيها أسئلة داخلية، فيها كل الأحاسيس والمشاعر في نفس الإنسان. بينما المذكرات خارجية، وفيها حتى اختيار. أنت عندما تكتب مذكراتك فأنت تختار أحداثاً معينة، وتواريخاً معينة، وشخصيات معينة، لتسقط عليها أو لتقول ما تريد أن تقوله في مذكراتك. في السيرة الذاتية والتي يجب أن تكون فضاء شفافاً وبلا حدود، لا تستطيع أن تختار، وإن كنت انتقائياً فقدت السيرة صدقها وبالتالي فقدت قيمتها.
ما قيمة السيرة الذاتية للكاتب وللقارئ وللناقد؟
للناقد طبعاً لكي يعرف الكاتب.
هل تفتح بعض الأبواب المغلقة؟
بالتأكيد. فعندما يقرأ ناقد ما سيرة كاتب ما سيعرفه أكثر، ويفهمه أكثر، ويعرف خلفيات ما يكتب، بل وقد يصل إلى بعض الأسئلة التي لم يستطع الوصول إليها وهو يقرأ النص منفرداً. لأن السيرة بالتأكيد تضيء فضاء الكاتب الوجداني الكامل، وتضيء فضاء عقله الكامل، وإذا استطاع الناقد أن يعيش كل هذه الأجواء فهو بالتأكيد يستطيع أن يقرأ الكاتب قراءة صحيحة.
هل شعرت بالارتياح عندما أنهيت كتابة “الأيام الجنوبية” أم أنك سددت ديناً وفاءً لـ “ونزريك” ولمدن الجنوب؟
الاحتمال الأول أكثر. هي تجربة رغم قصرها، يمكن أقل من سنتين، ولكنها بقيت تمثل شيئاً أعاني منه في وجداني كثيراً جداً جداً.
معالم المكان كانت طاغية في النص.
جداً جداً، لأن المكان طبعاً قبل خمسين سنة كأنها فانتازيا.
وبعد أن زرتها هذا العام، كيف كان الفارق؟ كيف تجلت لك كل تلك الأماكن التي كنت تأتي وتخرج منها وتعود إليها؟
أنا لا أتمنى أن أعود إلى تلك اللحظات، ولكن طبعاً وجدتها أطلالاً، فجلست على أطلالها، وجدت ما هو أحدث منها ولكني وجدتها. طبعاً وجدتها في بعض الوجوه التي كانت من تلاميذي في تلك الفترة، وكانت بالنسبة لهم مفاجأة لا تصدق عندما رأوني بعد خمسين عاماً.
نأتي للموضوع الذي انشغلت به وهو الكتابة للأطفال. لماذا اخترت الكتابة للأطفال؟
الكتابة للأطفال… اكتشفت أنني من سنوات طويلة جداً أحمل هذا السؤال من قديم وقديم جداً. واكتشفت أنني كتبت أربعة مجموعات قصصية، وكان بإمكاني أن أكتب أكثر منها، إلا أنني توقفت، كان ذلك سنة 1974 أو 1975 ، ووجدت أن الطفل تكوّن ونما، واستطاع أن يمشى. المعنى أنني وجدت نفسي قادراً على مخاطبة الطفل كتابةً. فقد بقيت سنوات وسنوات وأنا متردد في الكتابة وعندما أحسست أنني أستطيع أن أكتب شيئاً يقرأه الطفل بدأت.
عذراً دعني أستعير منك أحد عناوين مقالاتك “كيف تكتب للأطفال”؟
إلى هذه اللحظة لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال. وكما قلت في مقالي قرأت للكثيرين الذين كتبوا للأطفال بعدها استغربت كثيراً. تعرف يونس… إذا أنت وضعت شرطاً للكتابة فقدت إبداعها. الإبداع خارج الشروط. لا يوجد إبداع فيه شرط.
ولكن الكتابة للأطفال لها محاذير.
ذاك شيء آخر. الكتابة للأطفال أو الكتابة بشكل عام، طبعاً مثلما أشرت في مقالي توفر اللغة الجيدة، وتوفر الثقافة الجيدة، هذا كله شيء ضروري ومفروغ منه. أنا أتكلم عن الشروط الداخلية. لا توجد شروط داخلية، كل ما في الأمر أن الكتابة تعود لكل كاتب ومكوناته العقلية ووعيه، لكن أن تضع شرطاً لكتابة الطفل فهذا غير ممكن.
يعني بتصورك أن تأطير الإلهام شيء مستبعد.
يستحيل ذلك طبعاً.
أسست مؤخراً “مكتبة الطفل من أجل عقل حر”، هكذا كان شعار اليافطة المعلقة على المدخل ما أهمية هذا العمل؟ هذا عمل يظل فردياً رغم أنه يجب أن يكون مؤسساتي.
صحيح هذا عمل فردي. والذي جعلني أنشيء هذا المشروع وهو كان أمنية قديمة جداً جداً. أحد الأسباب، على الأقل الأسباب المباشرة، ولعل مازال مستمراً حتى الآن، أن هناك كماً كبيراً جداً جداً حتى هذه اللحظة يعتمد على الخرافة أو يعتمد على أشياء أخرى تدمر عقل الطفل، ولا تمنحه فرصة للتفكير أو فرصة للسؤال. وأيضاً عودة للسؤال فحتى قصص الأطفال يجب أن تثير في نفس الطفل سؤالاً.
هل العولمة الثقافية تخلق تحديات حديثة في الكتابة للطفل؟ في التعامل مع الطفل وفي تنمية الطفل ثقافياً؟
بالتأكيد. الآن نحن ككتاب، أتكلم ككتاب للأطفال نعاني منها. الآن الانترنت تدفعنا إلى الجدار الأخير وتطلب منا ضمنياً أن نبحث عن لغة أخرى، إذا استطعتم أن تستمروا في حضوري هذا كلام الانترنت. حقيقة إنه تحدي كبير جداً جداً. ولذلك أيضاً فالطفل الآن يكاد يكون منحازاً للانترنت والتلفزيون لأن العولمة وفرت له كل شيء وهو جالس في غرفته، وهو لا يقرأ.
مما تخاف على طفلك وأطفالنا وأطفال الجميع؟
من الوصاية عليهم وعلى عقولهم، ولذلك أنا أنشأت هذه المكتبة وهي نموذجية بالدرجة الأولى، حاولت أن أوفر فيها ما يحترم عقل الطفل، لأن ما يكتب، وما يؤخذ ليس على المجتمع الليبي فقط بل والعربي أيضاً، وما يؤخذ على كل المؤسسات الثقافية في العالم العربي أنها خلقت من نفسها وصياً على عقل الطفل. ولذلك كثيراً ما جاءني أولياء أمور يريدون أن يشتروا كتباً لأطفالهم فلم أعطيها لهم. طلبت منهم أن يعطوا الفرصة لأطفالهم بأن يأتوا ليختاروا ما يريدون. صدقني يا يونس… وهذا حدث، فعندما جاء بعض أولياء الأمور بأطفالهم أختار الأطفال كتباً غير الكتب التي اختارها أباؤهم.
هذا يغرس الحرية في اختيارات الطفل والمسئولية أيضاً.
عليك نور. تماماً. تماماً. تماماً…. هو كلام يجيب كلام… ماذا يغيب الحرية إلا الوصاية. الوصاية فيها عبودية يا يونس… والعبودية تلغي الحرية.
إذا ماذا نحتاج لنحقق حلم الطفل الواعد ونوطن لثقافة راقية ونفتح أبواب الحوار في أفكارنا؟ ماذا نحتاج لنحقق كل هذا؟
يجب أن نرفع وصايتنا عن الطفل، ولا نخاف من المعرفة، لأن الكثيرين ولأن ما يؤخذ على بعض المؤسسات وبعض الكتاب، خاصة وأن الكتابة للطفل دخلها كتاب قد أقول ما كان يجب أن يدخلوها، ومع ذلك لا خوف من المعرفة، لا خوف من المعرفة حتى وإن تعطلت قليلاً، حتى وإن شابها خطأ ما يوماً ما، لا يجب أن نخاف من المعرفة، المعرفة الحرة، وأنا لا أريد أن أدخل في التفاصيل لأن هناك الكثيرين يخافون لأسباب لا يدركونها. يجب أن نكون على يقين بأن الطفل يستطيع أن يفعل أي شيء مهما منعناه عنه، ولذلك يجب أن نكون أصدقاء للأطفال، أحباباً لهم، لا أوصياء عليهم، وإن لم نفعل ذلك فسيبقى الطفل في أي مكان عبداً لوصايتنا، وبالتالي لن تتحقق حرية الطفل العقلية والنفسية، وهذا أنا ما أنادي به. يجب وأتمنى أن نعطي الطفل فرصة ليكون حراً كاملاً في قراءاته، في حواره، ليس حراً فقط في البيت، بل في أي مكان يتعاملون فيه مع الطفل كالمدرسة مثلاً حيث يجب أن يكون حراً، في الكتاب المدرسي، في المنهج، في كل ما نحن نتعامل به.
هل يؤمن المسئول بأن تنمية عقل الطفل هو تحصين للهوية وأمان للوطن؟
المسئول لا يفكر في هذا السؤال.
إذاً على من تعول أنت في مشروعك الثقافي للطفل؟
أعول على الكاتب والمثقف. على المثقفين بالدرجة الأولى.
وماذا يشكلون؟
يوم بعد يوم سيشكلون شيئاً عندما يتحرك المشهد الثقافي فتتحرك العقول وتتراكم الأسئلة، وهكذا.
ألازلت متفائلاً؟
جداً جداً.
ألم يقهرك السؤال؟
هو مستمر معي. الآن أصبح اختياري. في يوم ما يمكن كان إجبارياً، أما الآن فقد أصبح اختيارياً وضرورياً. لأنه مثلما ذكرنا فكل ظرف ينتج أسئلته، بل كل ساعة تنتج أسئلتها ولا مفر أمامك إلا أن تواجه هذه الأسئلة إذا أردت أن تعرف، أما إذا أردت ألا تعرف لك الخيار.
بدأنا بالسؤال وها نحن نقترب من النهاية بالأسئلة. قلت لي بأنك تكتب “الأسئلة”، حدثنا عن الأسئلة؟
طبعاً هو مشروع لم يكتمل بعد أحاول أن أكتب رحلة الأسئلة في حياتي. كيف بدأت الأسئلة الأولى؟ ثم كيف تداخلت، كيف تشابكت؟ والمؤثرات التي أثرت فيها. مؤثرات المكان، مؤثرات الزمان، مؤثرات القراءة ومؤثرات أخرى.
تمنياتي لك بالتوفيق وعذراً إن أرهقتك أسئلتي أستاذي وصديقي العزيز
Fenadi@yahoo.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد أستاذنا الكبير يوسف الشريف سنة 1938 بمدينة ودان، وترعرع في مدينة طرابلس التي أحبها بكل جوارحه وعشق الوطن الذي يحتضنها فتألق من أجل عيون ليبيا وأهدى باقات من قصصه القصيرة الجميلة، وزرع خصباً وحباً وأحلاماً في قلوب وعقول أطفاله الطيبين الذين كتب وترجم لهم ما يزيد عن مائة قصة خلال فترة امتدت لنحو خمسين سنة أو أكثر، وقبل سنوات قريبة افتتح لهم مكتبة خاصة ليغرس بذور الحب للوطن وللحرف والكلمة في أعماق قلوبهم اليافعة، ويسافر بهم ومعهم على أجنحة خيالاتهم اللذيذة لعوالم أرحب وأبعد حاملين بين جنباتهم كل الوفاء والولاء لهذه الأرض الطيبة وهذا العطاء الإنساني الإبداعي الرائع.
مارس مهنة التدريس خلال فترة الخمسينيات في جنوبنا الجميل وأوقد مشاعل العلم والنور في أركان ونزريك القاتمة آنذاك. واصل تعليمه وتحصل على درجة الليسانس في علم الاجتماع من الجامعة الليبية سنة 1962. تولى منصب مدير الإذاعة سنة 1969 عقب قيام الثورة وعمل أميناً في كلية العلوم وفي مجال النفط. نشر إنتاجه الأدبي في أغلب الصحف والمطبوعات الليبية، وأصدر عدة مجموعات قصصية أبرزها “الجدار” الحائزة على الترتيب الثالث في مسابقة اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب سنة 1966 و”الأقدام العارية” و”ضمير الغائب” و”هذا كل شيء”.