أ. رقية محمد المبروك(*)
الكتابةُ صوتُ من لا صوت له، والأدب هو إعادة صياغة الواقع ونقده. والرواية جنسٌ أدبيٌّ له قدرة التعبير عن أي قضية تحدث في رحم المجتمع، وتقديمها في صورتها الحية، مع توظيف كل وسائل الفن الأدبي عند صياغتها.
إن الروائي يحتل اليوم سدرة منتهى المبدعين، لأنه وحده يسبر أغوار الواقع من غير أي حاجز فني أو شكلي، وهو ذاته مبتكر ذلك الصرح السردي الطويل، المكتنز بالأحداث، والشخصيات و(الزمكانات)(1)، ولكن توجد داخل هذا الهيكل العام بنياتٌ عميقةٌ داخلية يبتكرها المبدع، تتعدد فيها الأصوات ويدمج المبدع نفسه في ذات أخرى له( الراوي)، و(المنولوج)، و(الديالوج) وكلها بنيات تتميز بالتكامل، وعند تتبع هذه الأصوات نجد صوتاً يخفت صوت، فالمبدع يخفت صوت الراوي والعكس، والراوي يخفت صوت الشخصية والعكس، وتنطلق الشخصية لتعبر عن نفسها، وتترجم خلجَات نفسها، وفي النهاية نقف على تباين جميع تلك الأصوات، الأيديولوجيات، والتناقضات والقضايا داخل النص، ويأخذنا المبدع بإلحاح شديد للتفكير العميق لتقديم تحليل منطقي محايد، لإبراز تميز تلك الأصوات المتعددة (البوليفونية)(2) التي تميزت بها الرواية العربية الحديثة والمعاصرة(3).
أما الرواية التاريخية فهي اتجاهٌ قصصيٌّ يعبر عن مدى معالقة التاريخ بالفن، وهو الذي يتناول فيه الأديبُ حدثاً تاريخياً يحافظ فيه على أمانة التاريخ. وفي هذه الكتابة نحن بصدد رواية تنتمي إلى الاتجاه الواقعي في السرد حيث تروي أحداثاً تاريخية وقعت فعلياً في مناطق الغرب الليبي وتحديداً في باطن وقمة جبل نفوسة، لا ننسى أننا نسبر أغوار نص كتبه باحثٌ ومؤرخٌ وروائي في ذات الوقت، هو الدكتور محمد سعيد القشاط الذي يتجسد فيه نموذج الكاتب الذي تعمَّد تسجيل تاريخ بلاده، واستطاع أن يستوعب مسألة التلاقح بين التاريخ والفن، ليتناسل مذاق جديد لعمله الروائي الذي بين أيدينا.
أما حين نتمعن في مؤلفاته الشعرية والنثرية نجد أمامنا انعكاساً واضحاً للتاريخ، مثل رؤية (بلزاك) في الواقعية المفرطة لحياة الإنسان، و(ولتر سكوت) في استحضار الماضي وتسجيله، وإجمالاً تظل رواية (فاطمة الجبل) عنواناً مكتظاً بالرموز والدلالات السياسية والتاريخية والاجتماعية، تجسدها شخصية “فاطمة” التي تختزل المجتمع البدوي آنذاك في عاداته وتقاليده وقيمه، كما تختزل أيضاً معاناة الليبيين في غليانهم المكظوم وتشظيهم تحت وطأة الاستعمار البغيض.
ملخص الرواية:
تسجل الرواية أحداثاً وقعت في أوائل القرن التاسع عشر من تاريخ ليبيا الحديث، إبان دخول الاستعمار الايطالي الأراضي الليبية، ويعلن الكاتب صراحة من خلال تصديره في عتبة النص، بأن سنة 1913م هي بداية أحداث قصة روايته الأدبية فتطالعنا الرواية منذ استهلالها مشهد صد قبائل ليبيا للاستعمار، ونتعرف خلالها على شخوصها الحبريّة تتقدمهم فتاة ليبية من قبيلة البدرانة تدعى “فاطمة” وهي الشخصية المحورية والعمود الفقري للرواية. ومن خلال “فاطمة” نلتقي بثلاثة أجيال متعاقبة، جيل الآباء، وجيل الأبناء، وجيل الأحفاد.
“فاطمة” بنت يكتفي الراوي بوصفها فتاةً جميلة كان الكلُّ معجباً بها، ويرغب الزواج منها، ولكن هي تُعجب بشابٍ اسمه “خليفة” من قرية أخرى، وعندما يتقدم لخطبتها يرفض الأب بحجة أنها مخطوبة لابن عمها منذ الطفولة، ومن هذا الموقف تتشابك أحداث الرواية، ولكن “فاطمة” لم تتخلى عن حبها لخليفة حتى أنها وافقت مباشرة عندما أرسل لها مرسولاً يدعوها للهرب معه ولم تترد، بل تمردت على سيادة الأسرة والقبيلة، التي تمثل السلطة الاجتماعية القامعة في كل حين.
وعندما تصل “فاطمة” إلى قرية (الدقى) مع حبيبها “خليفة” يحتفون بها ويقيمون له عرساً، يقدم من خلاله الكاتب صورة تختزل المجتمع البدوي، وقيم مجتمع العصبية في آن (دفع خليفة كل ما طلبه الحداد وزوجته، ومع أن سكان قرية زعرارة لم يحضروا العرس مداراة لخواطر الطيف، إلاّ أن قرية دقى، احتفلت بالعرس، اعتبرته انتصاراً لإرادتها ضد زعراره)(4)، ولكن ردة فعل والد “فاطمة” كانت قاسية جداً حيث طلب ألاَّ يراها أبداً. بعدها نتعرف على شخصية ثالثة هي “مسعود” ونعدها من الشخصيات النامية والمتطورة داخل النص، وهو أتى قرية الدقى طفلاً صغيراً لا نعرف شيئاً عن ماضيه، وظل يشتغل عندهم راعياً للأغنام والأبل. ثم تتقدم أحداث الرواية فنجد أغلب رجال القبيلة ذهبوا للجهاد ضد الغزاة الايطاليين وتحديداً إلى مدن “الأصابعة” و”غريان”، وخاضوا معارك شرسة استشهد فيها الكثيرون منهم، من بينهم “سعد” والد “خليفة”، وعندما علمت زوجته بوفاته لحقت به بعد فترة وجيزة حسرةً على فراقه.
بعد هذه الأحداث التاريخية كما تعرضها الرواية، ومع اقتراب وصول الطليان إلى قبيلة “البدرانة” قرر “خليفة” الرحيل إلى تونس ووافقته زوجته “فاطمة” هذا الرأي وكل أهالي القرية، لأن أغلب مناطق الساحل الغربي والجبل راحلو آنذآك هرباً من بطش قوات الاحتلال الايطالي، ولكن قبل رحيلهم بقليل ينتقل والد “فاطمة” للرفيق الأعلى بينما تنجب هي مولودتها التي تسميها “نجمة”.
ومن خلال سرده الممتع والشيق ينتقل بنا كاتب الرواية للحظات نموذجية تجسدها مشاهد وقت الرحيل، حيث تتجه قرية “زعرارة” إلى مدينة “العجيلات”، أما قافلة قرية “دقى” فقد رحلت باتجاه الغرب وبعد سير طويل وصلت منطقة “الحرابة” حيث اعترضت طريقهم مجموعة من “البساييس” وهم عملاء يعملون لصلح قوات الاحتلال الايطالي، فقاموا بعزل رجال القبيلة عن نسائهم، ثم أمروا الرجال بالتجمع في جهة معينة واضعين أيديهم على رؤوسهم وقادوهم نحو منطقة “العسة”، حتى وصل رجل يسأل عن “فاطمة”، ويقول: أين فاطمة زوجها يريد التحدث إليها، وحين تأتي “فاطمة” لزوجها “خليفة” يقول لها كلمتين فقط هما (يا فاطمة الجبل) كأنها شفرة أو كلمة سر، الأمر الذي جعل “فاطمة” ترجو من “البساييس” بأن يسمحوا لها بالذهاب لقضاء حاجتها، وحينها انطلقت “فاطمة” هاربة كالسهم، فسارت نحو المجهول ليلاً تلهث حافية القدمين في طريق كله أشواك وأفاعي وأحجار، تحمل صغيرتها في حضنها بعد أن غمغمت عليها لكي لا يظهر صوت بكائها.
وأخيراً حين طلع عليها الفجر، وتنفس الصبح في مكان مجهول، وجدت نفسها بقرب نبع ماء عليه رجل يسقى، وحين قصّت عليه قصتها، تحسر على ما حصل للمرحول، وقرر أن يساعدها ويأخذها معه إلى بيته، فرافقته وذهبت معه والحيرة والشك من المجهول تسكن قلبها حتى لحظة وصولهما إلى بيته واستقبلتهما زوجته، وهي لا ترتاح لأمرها، ولكنها قبلت أن تنام في بيتهم تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي أمرت زوجها بأن يأخذ “فاطمة” وابنتها إلى السوق بعد أن أسمعت “فاطمة” كلاماً جارحاً (… نوظي امشي معاه يوصلك لأهلك في السوق كان لقيتي حد.. احنا مش ملجأ)(5)فتذهب “فاطمة” مع الرجلإلى السوق، وأثناء سيرهما في الطريق سألها الرجل هل تعرف أحداً ما في السوق؟ فقالت إنَّ لها ابن عمها عسكري يشتغل مع الطليان يمكث في مدينة زوراه، وقررت تذهب إليه لعله يساعدها في مصيبتها، ولكنه هو الأخر رفض بقائها عنده لأنه يخاف عواقب جنود الاحتلال الايطالي لو علمواً بها وصلهم نبأ التستر عن أحد هارب من قبضتهم.
أمرها قريبها بأن تذهب لمدينة العجيلات لأن جزءاً من قبائل الصيعان مقيمون فيها وهو سيدلها على الطريق بأن تتبع شاطي زوارة حتى تصل شاطي تليل الذي هو مجاور لمدينة العجيلات، فسارت في ليل مظلم والمجهول أمامها، وكل مشاعر الشك والخوف والقلق متضاربة تفعم بقلبها، ومن خلال متعة السرد كنا نحس بأننا كلنا معها ونتبعها ونرى عمق جروح قدميها في ضوء القمر تلاطمها أمواج البحر، وقسوة الحياة، وأخيراً تصل “فاطمة” مدينة “العجيلات” وتلتقي برجل يدعى “علي النطيط”، هو رجل من رجال قريتها وحين قصَّت عليه حكايتها، علمت منه نبأ وفاة أمها.
وبعد عدة أيام تعود “فاطمة” مع “علي النطيط” وزوجته إلى قريتها في جبل “البدرانة” وتعمر غارها من جديد، وبعد أيام قليلة عاد (مسعود) راعي الغنم وكان الرجل الوحيد الذي نجا من تلك القافلة، وتعلم “فاطمة” بأن زوجها “خليفة” قتل على يد “البساييس”، وبعد فترة قصيرة يطلب “مسعود” من “فاطمة” الزاوج به فوافقت، وعاشا معاً في القرية يزرعون أرضهم ويرزقهم الله بالكثير من الخيرات وتنجب منه طفلين، الأول تسميه “خليفة” والثاني “إلطيف”، وهنا نلتقي بجيل ثالث تسجله الرواية التاريخية ضمن أحداثها وشخصياتها، وعندما يبلغوا مرحلة الشباب يجندهم الاحتلال الايطالي لصالحه ويرسلهم على متن باخرة للحرب، ولكن الباخرة تتعرض لقصف طائرات الانجليز وتغرق ولم ينجى منها إلاّ 12 شاباً من قبائل الصيعان، بينما قتل البقية في الحرب بمن فيهم “إلطيف” وعلى إثر ذلك تقرر “فاطمة” الذهاب للأراضي المقدسة لتأدية فريضة الحج برفقة زوجها وابنها على متن باخرة لنقل الحجيج، لتجد أمامها مفاجأة تصادفها على ظهر هذه الباخرة حيث “مسعود” بأمه ومن خلال هذا اللقاء نتعرف على جذوره العائلية فنكتشف أنه من قبيلة القديرات في بئر الغنم، فرَّ صغيراً لأنه قتل جندياً إيطالياً أهانه، وتعدى عليه، ويصل الحجيج بسلام إلى الأراضي المقدسة ولكن أثناء تأدية الفرائض الدينية تنتهي رحلة الحياة عند “مسعود” وينتقل إلى رحمة الله ويدفن بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة الشريفة.
ونتتبع محطات التاريخ وتراكم الزمن السردي داخل النص الروائي في (يا فاطمة الجبل) للدكتور محمد سعيد القشاط حتى تدخل ليبيا حقبة جديدة ويظهر جيل جديد في تاريخها الحديث. هكذا هى النظرة الفلسفية للرواية التي تتأسس على احتضار جيل ومعتقدات، وولادة جيل جديد آخر، ودخول ليبيا مرحلة سياسية فيها طموحات وآمال جيل تالي تكونت فيه أحزاب سياسية ونالت ليبيا استقلالها سنة 1951م، وتستمر رحلة الحياة العمرية مع “فاطمة” على الصعيد الشخصي لتلامس سن الشيخوخة لتشهد إنجاب زوجة ابنها “خليفة” أربعة أطفال فتروي لهم قصتها وماذا فعل الاحتلال الايطالي بها وبأهلها، وعلى الصعيد الوطني العام تتغير ملامح الحياة مع الزمن، وأصبحت ليبيا دولة مستقلة تم بها إنشاء العديد من المدراس، وغيرها من التطورات العصرية على الأصعدة كافة. أما بالنسبة لرواية (يا فاطمة الجبل) فإن الكاتب يقدم لنا مشهد احتضار بطلة روايته “فاطمة” فيغرقنا في أجواءه الحزينة ويجعلنا نودعها بكل أسى وحزن، كأننا كنا نعيش معها داخل النص، عندما يرجع بنا المبدع ليقلب صفحات التاريخ القريب والبعيد، وعبر هذا البناء الفني السردي من خلال شخصية نموذجية منقطعة النظير، وكذلك حين يلمح الكاتب بأسلوب رمزي غير مباشر إلى أن الاجيال اللاحقة نسيت، بكل أسف، نضال الأجداد وتضحياتهم من أجل تحرر الوطن ومقاومتهم الاحتلال والاستعمار، وكأنه يرسم لنا ملامح الحاضر المعاش بكل ما يعانيه من جحود ونكران. وينتهي نص الرواية بفن الاسترجاع حين يسرد الراوي قصة “إلطيف” الذي كان يسمع القصص من جدته ويتوعد الاستعمار كنوع من استباق للزمن، ويتحقق حلمه بأنه كان أحد أبناء الوطن الذين وقفوا في نهاية ستينيات القرن الماضي في وجه الاستعمار وطرد قواعده التي كانت على أرض الوطن.
الزمكان:
يتكون النص الروائي عبر سلسة من البُنَى في حالة ترابط واحتواء حميمي مع بعضها البعض، وقادرة على منحه نمطاً خاصّا يتسم بقدر من التميز، والخصوصية بين الاجناس الأدبية الأخرى، ومن خلال تاريخ الخطاب النقدي الموجّه إلى الرواية تمّ تسليط الضوء على عدد كبير من تلك البِنَى، بداية من الشخصية مروراً بالمضمون الاجتماعي أو الفكري، وصولاً إلى متصل الزمان والمكان. وعند سبر أغوار النص يشد تفكير القاري للتميز بين الأزمنة في النص بين تاريخي ونفسي وغيرهما، وبين الأمكنة المنغلقة والمفتوحة ومدى ارتباطها بالشخصية.
وعند الولوج للعالم الروائي الذي نسجه الدكتور محمد القشاط نجده يقدم الأحداث من خلال حدث تاريخي يعلنه منذ الاستهلال صراحة للقاريء بأن عام 1913م، وهو تاريخ نموذجي معروف، كما يطالعنا بتورايخ (1911-1912)م، بداية انتهاك الاستعمار وطن الأبرياء، وبذلك فإنه يطلعنا عن التاريخ الزمني للرواية. ولكن عند عمق السرد وتسلسل الأحداث لا تقابلنا تواريخ واضحة، إنما يشير إلى الأحداث النموذجية لا التاريخ، ونكتشف أننا نتابع أحداث عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والحرب العالمية الأولى، واحتلال فلسطين في الاربعينيات من القرن المنفرط، وذهاب رجالات ليبيا للجهاد، كذلك حدث استقلال ليبيا وطرد القواعد الايطالية من ليبيا في نهاية الستينيات، لأن الزمن الطبيعي وثيق الصلة بالتاريخ “حيث أن التاريخ يمثل اسقاطاً للخبرة البشرية على خط الزمن الطبيعي، وهو يمثل ذاكرة البشرية: ويختزن خبراتها مدونة في نص له استقلاله عن عالم الرواية، ويستطيع الروائي أن يغترف منه كلما أراد أن يستخدم خيوطه في عمله الفني، واهتم الواقعيون اهتماماً خاصاً بالزمن التاريخي”(5).
أما الزمن التخييلي عادةً ما يلجأ القشاط لاسترجاعٍ خارج النص وذلك لملء فراغات زمنية توضح مسار الأحداث، من خلال العودة إلى جذور الشخصية، ولهذا نجد طغيان تقنية الاسترجاع تارة خارج النص وتارة أخرى داخل النص، على شكل منولوج داخلي مع الشخصيات الرئيسة (فاطمة، مسعود، خليفة).
كما نلاحظ في الاسترجاع خارج النص مشهد “فاطمة” حين تتذكر جذور لقاءها الأول بحبيبها “خليفة” من خلال منولوج داخلي” تذكرت فاطمة أنهن جئن ليقطعن العرف، فتواجد خليفة مع مجموعة من الشباب فقام، وقطع لهن العرف وسلمه إلى فاطمة”(6). وأيضاً هناك استرجاع خارجي أيضاً يأتي في صوت المنولوج لدى “فاطمة” عندما يستيقظ الماضي فيها، ويستدرجها إلى دهاليز الذاكرة فتعود عبر الماضي القريب البعيد، للأحداث التي تختزل صورة المجتمع وكيف كان، وتصور معاناة ملايين الناس من الجهل والفقر “إنها الأيام تمر، كانت معي رجعة رحمها الله، لقد لسعتها أفعى وهي في الغار تتحسسُ موقعها في الظلام فنهشتها الأفعى. كنتُ بجانبها قام عمي سعد بذبح كلب، وبقر بطنه، ووضع يدها في جوفه قيل أن السم يخرج ويتسرب إلى جوف الحيوان. إلاَّ أن القدر لم يمهلها وماتت وهى تمسك بيدي وتقول فاطمة أنني لم أعد أر شيئاً لقد صعد السم على عينها”(7). وفي استذكار آخر داخل النص يأتي هذه المرة مع “خليفة” حين تعود به الذاكرة لحياة أمه “تذكر والدته رحمها الله وكيف كانت توصيه بفاطمة وتذكر والد فاطمة عمه إلطيف العبرود.. وكيف كان يتهدده ويتوعده، ولكن الله له قدرة أخرى”(8).
لقد نشّط الدكتور محمد القشاط الذاكرة وحركها من خلال تركيزه على عدة مواقف مثيرة، وإن كانت بسيطة في تفعيل الأحداث، وإيقاظ الذاكرة، فعندما نلتفت لسيرة الكاتب الذاتية يمكن القول بأنه جزء من الحكاية، وعمل على استدراجنا بسهولة لمعايشة أحداث الرواية معه، في جزء كبير من تفاصيلها الدرامية، أو في جانبها التراجيدي خاصة أحداث فضائع أفعال الاستعمار الإيطالي بعد اربعينيات القرن الماضي، من خلال الاسترجاع و التداعي.
أما الفضاء المكاني الذي يحتضن رواية (يا فاطمة الجبل)، فأغلب أحداثها كانت في فضاء جغرافي مفتوح تجسد في كل أماكن جبل نفوسة الغربي الليبي (بدر، تيجي، الأصابعة، غريان، الحرابة، الجوش) وكذلك أغلب مناطق الساحل الغربي، امتداداً من (زواره وحتى صبراته، العجيلات، وصرمان). أما المكان المغلق فقد تمثل في الغار، الذي هو بمثابة البيت آنذاك. والكاتب للأسف لا يقدم للمتلقي أي وصف عن الغار، أو طريقة الحياة داخله، وإنما يشير دائماً إلى الغار وألسنة النار أمامه نهاراً وليلاً فقط، كما يقدم الراوي صورة بسيطة للمكان” قام خليفة إلى حماره ليركبه متوجهاً إلى قريته دقى وبقيت فاطمة مع أمها، وهو يحدث نفسه أن فاطمة هذا الشهر قد تلد. بات وحيداً في الغار بعد أن ربط المعزة في السقيفة، وربط الحمار وأعطاه حزمة القزاح لأكله”(9).
الشخصيات:
تعتبر الشخصية العنصر الرئيس، والعمود الذي تبني عليه الرواية الحديثة، لأنها تصور الواقع من خلال حركتها مع غيرها، وفي نموها التدريجي، إذ تقدم حياة الناس في العمل السردي بحيوية وفاعلية. ومن خلال الشخصية تتكون الأحداث وتتشابك وتتضح الرؤى، سواء أكانت شخصية رئيسة أو ثانوية.
وشخصيات هذه الرواية (يا فاطمة الجبل) للدكتور محمد سعيد القشاط هي شخصيات لها فاعلية في إعادة التاريخ “وهنا يكون التاريخ مفيداً في الرواية، وتكون الرواية التاريخية بصبغة اجتماعية ضرورة، وعلى الأديب الذي يلجأ إلى التاريخ أن يعيد بث الروح في شخصياته لكي تمثل أمامنا باعتبارها شخصيات حية واقعية تتحرك أمامنا وتدير الأحداث إدارة واعية بظرفها الذي تتحرك فيه”(10).
ونلحظ منذ البداية أن الكاتب يقدم “فاطمة” هي الشخصية الرئيسة منذ عتبة غلاف (يا فاطمة الجبل)، ومن ثم أول شخصية يقدمها “كانت فاطمة ابنة الطيف العبرود فتاة جميلة يتسابق الشباب لخطبتها والزواج بها”(11)، وفي المقابل فإن الراوي لا يقدم لنا أية أبعاد جسمانية لها.
وبعدها تأتي الشخصية الرئيسة الثانية (خليفة) الذي أعجب بـ”فاطمة” وتمرد على العادات والتقاليد القبلية آنذاك لكي يلتقي “فاطمة” ويُلقي عليها أبيات شعر، فمنذ البداية يقدمها الراوي في مشهد “لقد التقت وهى تملأ الماء من البئر بخليفة بن سعد من القرية المجاورة، وراق لها وكان قد ملأ لها قربتها وسقى حمارها ولم يتركها تملأ الماء من البئر”(12)، ولا نجد الكاتب يرسم أوصاف الشخصية من الخارج، وهكذا تعامل مع كل شخوص روايته.
ثم تأتي الشخصية الثالثة (مسعود) الذي يقدمه الراوي هو الآخر من خلال تشابك الأحداث ولم يرسم لنا ملامح شخصيته.
ونلاحظ أن الروائي أعطى البعد النفسي قدراً كبيراً من الاهتمام في معالجة شخصياته من خلال المنولوج الداخلي إذ هو يكشف النقاب للقراء عن العوالم الداخلية للشخصية ويترك لهم الحكم عليها، وعلى القضية التي تعالجها.
وكذلك من خلال الشخوص الرئيسة التي تمثلت بالحركة داخل النص باعتبارها العمود الفقري الذي ترتكز عليه الرواية، وتجسدت أمامنا كائنات حبريّة خلقها الكاتب حتى توشك أن تخرج إلينا متمردة من الورق.
أما بالنسبة للشخصيات الثانوية فهي كثيرة في النص، مثل أسرة فاطمة (إلطيف العبرود، امدللة)، وأسرة خليفة (سعد، ونجمة)، (سالم الحداد، وزوجته مبروكة)، (علي النطيط) الذي كان الطبيب الشعبي بالقرية، و(الفقيه ضو) الذي كان إمام الصلاة في جامع القرية، وأغلب الشخصيات الثانوية في رواية (يا فاطمة الجبل) تتجلى من خلال العلاقات الاجتماعية، فالمبدع يصور طقوس العلاقات الاجتماعية من خلال الطبقة أو الشريحة التي يصورها، فالشخوص لها فاعلية في معرفة أفكار وتوجهات الشخصيات الرئيسة من خلال الديالوج أو الحوار المباشر.
تعالق الأجناس:
الأدب ينضوي تحته جنسين كبيرين هما الشعر والنثر. وتنضوي تحت الأول تفرعات (الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، والشعر الحر)، أما الثاني ينضوي تحته (المقامة، والملحمة، والرحلة ، والسيرة، والرواية والقصة…الخ)، وفن الرواية غازل كل الفنون بمختلف أنواعها من الشعر، والموسيقى، والسينما، والمسرح، والغناء، والرقص، وهذا ما أكده مخائيل باختين حين قال: “إن الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التعبيرية سواء أكانت أدبية (قصص، أشعار، قصائد، مقاطع كوميدية..) أو غير أدبية (دراسات عن السلوك، نصوص بلاغية، وعلمية، ودينية…) فإن أي جنس تعبيري يمكنه أن يدخل إلى بنية الرواية، وليس من السهل العثور على جنس تعبيري واحد لم يسبق له في يوم ما أن ألحقه كاتب أو آخر بالرواية”(13).
وهذا يجعلنا نتفق على أن الرواية الأدبية استقطبت جميع الفنون وكونت علائق حميمة، وحوارية معها “والحق أن الرواية لا ترتكب بهذه الممارسة خطيئة أو انحرافاً، لأنها أصلاً لا يمكن إلاّ أن تكون حوارية، إنها فن التنوع بامتياز، وفن الاحتواء بلا منازع، فهي الجنس الذي يمثل ابتلاع جميع الأنواع الأدبية الأخرى تقريبا، بل ابتلاع فنون أخرى”(14). فعند التمعن في رواية (يا فاطمة الجبل) على هذا الأساس نجد أن الروائي الدكتور محمد سعيد القشاط قد مزج وغازل أنواعاً أدبية أخرى في روايته، ونراه يقوم بتضمين بيت شعر من الشعر الجاهلي للشاعر قيس بن الملوح، ورد على لسان الكاتب، وليس الراوي عند رجوع “فاطمة” إلى الجبل من جديد “وتنهدت فاطمة وهى ترى جبل البدارنة حيث قريتها وأهلها الذين لم يبقى منهم أحد، وانطبق عليها قول الشاعر قيس بن الملوح“(15).
واجهشتُ للتُوبادِ لما رأيتُه *** و كبَّرَ للرحمنِ لمَّا رآنِي
ثم نجد تعالق النص بفن الغناء الشعبي من محفوظات التراث الليبي الأصيل وتسلله للمقطع السردي، في صورة يقدمها الراوي “ونساء البدو يبثثن شجوهن عن رحى الرحى.. بدأت الرحى تدور.. و بدأت فاطمة في الغناء:
كنا أربعــــين صبيــــــــة وفراشنا على وســــادة
وجانا الزمن لمفــــرق فرقنا بلا غــــــــير راده
يا والده وين غبـــــتى تركتي لفاهـــــــق عليه
كن لا رفعتى وجبتي وجدّت علّـــــــَى الثنيّة”(16)
وإن كانت هنا تتضح حميمة العناق بين الرواية والغناء، فإنه عند التمعن في مقاطع الغناء ونسيج أبيات شعرها نجد أن الكاتب لا ينسبها لأحد، ويمكننا القول بأن هذه الأبيات انعكاسُ ما يختلج في نفس الكاتب، نتيجة تبعيات الاقصاء والتهجير الذي يعانيه في الوقت الراهن والإجحاف الظالم بحقه كما يراه ويحس مرارته، وكذلك تهجير ونزوح ألاف الليبيين بالداخل والخارج، تفسر كوامنه الحسية العميقة الألم والحزن، وهو إسقاط تجاه معاناة الوطن اليوم، فعندما يورد القول الشعري (كنا أربعين صبية)، كأنه يحاكي ليبيا المستقرة طيلة الأربعين سنة الماضية قبل الخريف العربي، حين كانت ليبيا موحدة قبل مجيء (.. الزمان المفرق فرقنا بلا غير رادة)، أي فرق أبناء الوطن الواحد رغماً عنهم وبعيداً عن إرادتهم الشخصية وحتى الجماعية الحرة والكاملة.
وتواصل الرواية استكمال نصها الشعري الغنائي من التراث الأصيل على لسان بطلتها “فاطمة”:
دقًّى بكت ناس دقَّى راحوا عليـــها شتايت
والدهــــــر فيهم ينَقىّ ولا من يرجّـع الاتيت
***
يا بوي غابــــــــــــــــوا الجيران اللى كنت نحسن عليهم
اليوم صرت نلقى افلحسان ومن لى يجيهـــــــــــــــــــــــم
***
يا غار كنك بلا نـــاس وين غيـــــــبوا اليوم ناسك
يا غار ضيقت لنفاس كيف ما ضياقت أنفاسك
الخاتمة:
نؤكد على أن (يا فاطمة الجبل) للدكتور محمد سعيد القشاط، هي رواية واقعية عن التاريخ الليبي تروي فظائع الاحتلال الإيطالي، حيث اختزلت بين دفتي صفحاتها جانباً مكثفاً من تاريخنا الوطني البطولي، وأماطت اللثام عن معاناة الحياة الاجتماعية القاسية آنذاك بواقعية مفرطة.
وقد جاءت لغة الرواية في أغلب الأحيان وصفية تسجيلية مباشرة، والملفت للنظر تفوق الكاتب في هذا الجانب، حيث مازج بين الفصحى واللهجة العامية، وجعلها مناسبة لرسم معالم الحدث الروائي كما هو مسجل في واقع الحياة التاريخية مع نقل حواراته بالمفردات العامية حتى يضفي عليه الكثير من الحيوية والقبول والواقعية وضمان وصول رسالة النص الروائي لفكر ووجدان المتلقي.
ونتيجة لتراكم التجارب الابداعية للمؤلف الدكتور محمد سعيد القشاط سواء على الصعيد الشعري أو البحثي أو الإبداعي فقد تمكن بمهاراته الفنية من توظيف المنولوج الداخلي لسبر أغوار شخصياته وتقريبها لخيال المتلقي. أما عن الرؤية السردية فالراوي يعلم ما تعلمه الشخصية، وقد لاحظنا تعدد الأصوات في الرواية بين (المؤلف، والشخصية، والراوي). وقد أجاد مؤلف الرواية إسقاط وصف الأشياء الساكنة الواردة في الفضاء المكاني للرواية، فلا نلاحظ إغراقاً في تصويرها النمطي الممل، وكذلك لا نلحظ أي وصف لملامح الشخصيات، ولا تجليات المكان، ومرد ذلك ربما لأن جلّ تركيز المؤلف كان منصباً على القضية موضوع الرواية، وصورة التاريخ التي ظلت حبيسة فيه، ولكن نجده قد ركز بشكل لافت على جانب الأفعال المتحركة، ولهذا نلحظ طغيان الصورة السردية في نص الرواية، لأن الحركة المادية الظاهرة هي مفتاحٌ لما يدور في النفس البشرية، وكل هذه الإيماءات تعطي للصورة دلالتها الاجتماعية ودلالات بعدها التفسيري وجماليتها الإبداعية الفنية.
المصادر والمراجع:
– محمد سعيد القشاط، رواية فاطمة الجبل، مكتبة جزيرة الورد القاهرة، الطبعة الأولى 2016.
– سيزا قاسم، بناء الرواية دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، مكتبة الأسرة، الطبعة الأولى، 1978م.
– كمال الرياحي، حركة النص السردي ومناخاته في استراتيجيات التشكيل، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2005م.
– مخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دائرة الفكر القاهرة،1987.
– محمد أبو عزة، حوارية الخطاب الروائي، التعدد اللغوي البوليفونية، دار رؤية للنشر القاهرة، الطبعة الأولى، 2016م
– محمد التونجي، المعجم المفصل في الأدب، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية، 1999م.
– محمد القاضي، وآخرون، علي عبيد، نورالدين بنخود، فتحي النصري، محمد آيت ميهوب، معجم السرديات إشراف محمد القاضي، دار محمد علي تونس، الطبعة الأولى، 2010م.
– حسين حمودة، في غياب الحديقة، حول متصل والمكان في روايات نجيب محفوظ، مكتبة مدبولي القاهرة، الطبعة الأولى،2007م
– دورية نجيب محفوظ التاريخ والزمن، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، العدد الثالث، 2010م.
الهوامش:
(*) ماجستير في اللغة العربية والنقد والأدب العربي، الأكاديمية الليبية الدراسات العليا، طرابلس – ليبيا
(1) الزمكان، أو كرونوتوب مصطلح حدده مخائيل باختين، يشير إلى اتصال الزمان والمكان و يعبر عن الترابط الوثيق بينهما” ينظر حسن حموده، في غياب الحديقة حول متصل الزمان و المكان في روايات نجيب محفوظ، مكتبة مدبولي2007، ص10.
(2) البوليفونية مصطلح غربي يقصد بها الموسيقى حيث يصدر نغمتان أو أكثر في نفس الوقت، وهي مشتقة من اليونانية يعني بها أصوات متعددة، ينظر محمد أبو عزة، حوارية الخطاب الروائي التعدد اللغوي والبوليفونية، رؤية للنشر القاهرةن،2016، ص 11
(3) ينظر، رقية محمد، السلطة الاستبدادية للرجل الشرقي من خلال التصدير الفني ثلاثية نجيب محفوظ، رسالة ماجستير في اللغة و الأدب، الأكاديمية الليبية، 2018، ص1 (غير منشورة)
(4) محمد سعيد القشاط، رواية فاطمة الجبل، مكتبة جزيرة الورد، ط1، 2016ـ، ص10
(5) محمد سعيد القشاط، رواية فاطمة الجبل، ص 46
(5) سيزا قاسم، بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، مكتبة الأسرة،3003م، ص 68
(6) محمد سعيد القشاط، فاطمة الجبل ص 30
(7) محمد سعيد القشاط، يا فاطمة الجبل، ص30،31
(8) المصدر السابق، ص23
(9) المصدر السابق، ص23
(10) محمد علي سلامة، نجيب محفوظ والتاريخ جدلية القناع والواع، دورية نجيب محفوظ التاريخ والزمن ص 79
(11) محمد سعيد القشاط، يا فاطمة الجبل، ص 6
(12) المصدر نفسه، ص 6
(13) مخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دائرة الفكر القاهرة،1987، ص88
(14) كمال الرياحي، حركة السرد الروائي ومناخاته، في استراتيجيات التشكيل، دار مجدولاي للنشر، عمان،2005، ص127
(15) محمد سعيد القشاط، يا فاطمة الجبل، ص 62
(16) المصدر السابق، ص 73