يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقة: 20/ هـــذا عــصر الجمــاهــير!!!!
الغريب في هذه الحلقات التي وصلت بها إلى الحلقة العشرين الآن، هو أنني كنت حينما بدأت الكتابة قد قررت إعطاء فكرة للكثير من الناس عن حركة القوميين العرب في ليبيا، وكيف وصلت بها الظروف الى أن يعتقل النظام الملكى جل المنتسبين اليها ويحاكمونهم، وتصدر في حقهم أحكام، وذلك من خلال تجربتى كواحد منهم وكشاهد على تلك المرحلة، ولكننى بعدها شعرت بنهم للكتابة وتدوين بعض محطات حياتى بشكل عام، وماحدث لي من مفارقات خلال هذا الكم من السنين الذى أعيش تراكماته الثقيلة وأجرجر خلفي أحداث كانت حصيلة أكثر من سبعين عامـًا (ربما كانت مواجهاتى في عصر المملكة أكثر وضوحًا وأكثر جرأة، ولذلك كانت أحكامهم أكثر منطقية وعدلا بقدر جرمى)، أما عصر القذافي فكما كانت قصائدى فيها الرموز والاشارات التي تقول شيئـًا آخر يصل غالبـًا إلى من يعنيه الأمر ولهذا كان أسلوب انتقامهم في مستوى ما أقوله في هذه القصائد دون سجن أوعزل أو مواجهة صريحة.
أعجبنى العمل في مجال الشباب والرياضة، وكنا نشرف على كل الأندية الرياضية الواقعة في نطاق محافظة درنة، من الأبرق حتى امساعد (كانت الدولة منتصف السبعينيات تدعم الأندية ماليـًا، ولذلك تشرف على حضور جلسات مجالس اداراتها وتعتمد المحاضر، وتراقب كيف هى مصروفاتها وإراداتها ومجالات أنشطتها)، واكتسبنا خبرة في مجال انتخاب مجالس الإدارات وصياغة القوانين واللوائح الداخلية لهذه الأندية، وكسبنا كمًا رائعًا من الأصدقاء في كل المناطق المحيطة بدرنة، وأنجزت بناء بيتى بقرض جديد من مصرف الجمهورية عام 1974م، وأصبحت أمورى كلها على مايرام والحمد لله، وجعلتنى كل هذه الأمور الطيبه أجهز نفسى للقادم غير الطيب لامحاله، كماجرت العاده كان لي صديق متشائم يقول:
(حينما تـنعدل كل أمورى وتسعدنى الدنيا لا أفرح كثيرًا، بل أقف وسط كل هذه الأشياء الجميلة لأتساءل: ترى ما هو الثمن الذى سادفعه في القادم من الأيام مقابل كل هذه السعادة التي اعيشها الآن؟)
وقد دفعت مثل هذا الثمن كثيرًا ودائمـًا وسط السعادة والفرح، وفي كل الأحوال أقول دائمـًا (الحمدلله الذى لايحمدعلى مكروه سواه).
في بداية عام 1982م أصبحت رئيس مكتب الأندية والاتحادات، وكنت طوال حياتى أكـره الرئاسة لا تهربًا من المسئولية، ولكن لكى أبعد نفسى عن الاحتراق والتـبكـيت والمسايرة والنفاق والتورط في ممارسات ضد قناعاتى تلزمنى بها واجبات الوظيفة، خاصة حينما ترتكب أمامى الأخطاء المتعمدة، وأجد نفسى ولأسباب لاعلاقة لها بالوظيفة عاجزًا عن إصلاحها لأن حجم الفساد كان أكبر من وسائل الاصلاح المتاحة، كنت يومها متضايقًا من الرئاسة وابحث عن مخرج ليخلصنى من هذا العبء، وفي جلسة مع أصدقائى القدامى (وأنا صاحب عشرة) وكان أغلبهم من موظفي الكهرباء، حيث بدأت حياتى عاملا بالكهرباء عام 1955م. ومن خلال دردشة بيننا حاولوا إقناعى بالعودة للكهرباء، وهكذا تقدمت بطلب لمدير الشباب والرياضة من أجل النقل الى أمانة الكهرباء. وفعلا تـمت موافقة الطرفين كالعادة في مثل هذا الشأن، وصرت موظفًا بالكهرباء، وها أنا بعد جولة مضطربة وغير مستقرة على مدى ثلاثين عامًا في كثير من الدوائر والامانات من مديرية الثقافة الى محافظة الخليج الى مديرية الشباب والرياضه، ها أنا أحط عصى الترحال أخيرًا من حيث بدأت في الكهرباء، وبعد اشهر قليلة تم تكليفي أمـينـًا لخزانة إيردات كهرباء درنة.
كانت يومها مهزلة التصعيد واللجان الشعبية والعنصرية القبلية في عنفوانها (وكان الفيلسوف والملهم والقائد والمعلم وصاحب النظرية العالمية الثالثة)، يصب الزيت على النار من خلال مقولاته الفقهيه التي تقول (لاتهم الشهادات ولا المستوى التعليمى في القيادات التي تختارها الجماهير فهناك أمـيـّـون لهم خبرة ودراية أكثر من أى واحد يحمل شهادات علميه عاليه). وبهذا المنطق السقيم مع وجود مناخ الصراع المفتعل بين الحضر والبدو، وبين القبائل ضد بعضها البعض وبين المدن والمناطق المحيطة بها، أصبحت كل الأمور تتردى وأصبحت أركان الدولة تنهار وتفقد انظمتها وقوانينها وهيبتها، وتأخر الشرفاء وأصحاب النفوس الابية عن ممارسة دورهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حينما اكتشفوا أن الوظائف الخطيرة في الدولة تقسم على القبائل، ومن حق كل قبيلة أن ترشح للوظيفة التي أعطيت لها من ترى أنه أكثر تعلقًا بقبيلته، ويعرف كيف يأخذ لها حقها، وكيف يمتطونه شيوخها حتى يحقق لهم مصالحهم المادية بغض النظر عن مستواه العلمى أو خبرته الادارية في الوظيفة التي قد كلف بها، وأغرانى يومها شيطان شعرى أن أعارض القصيدة الشهيرة التي مطلعها: في حال ياناشد علينا حاله
حيث قلت في شطرة منها:
حال إيشـيـّب
حـال كـيف نحـكى لك عليه أتريّب
اللى كان في الأول نظيف وطـيب
تغيـّر ربـط في كـل ذيـل أحبالــــه
وبـاعد اللـّى من قبل كان أقـريـّب
وقـدّم اللـّى يرضى بكـل سـفالـــه
وماعـادمن يوم الحسـاب إيهيّــب
السارق قعد يسرق اليـــوم قبالــه
هذا الحاضـر خـــوذ وإلا ســيب
أمغير تنجلط ماعاد أهـناك عداله
وفي حـال يانـاشـــد علــيناحالـه.
لابد لى أن أقـف عند هذه الشطرة من القصيدة التي تصور بعض مساخر عصر الجماهير الذى سيسحقنى بدون هوادة، وفي الحلقة القادمه تكون مواجهة صادمه سببت لي كارثة كنت فيها، أرى حقى واضحًا صريحًا ولا أستطيع أن أصل اليه.. فلا حول ولا قوة إلا بالله…