هويتي المزدوجة أشعر معها بالألفة وبالغربة معاً
ان الذين يدافعون عن المحلية، هم أقل الناس محلية
حوار: عابــد اسماعيــل – شاعر ومترجم من سور ية
يجمع الشاعر الأمريكي، من أصل ليبي، خالد مطاوع، بين رصانة البروفسور وشفافية الشاعر، إذ تارةً يتحدّث عن القصيدة بثقة الأكاديمي، العارف بتاريخية الخطاب الأدبي، ومراحل تطوره، وتارةً يلجأ إلى عفوية المبدع للكشف عن مجاهيل المجاز، واستراتجيات الإلهام. على أنّه لا يتركُ لطرفٍ التغلّبَ على الآخر، بل ينجحُ في جعلِ ثقافته تتناغم مع موهبته، لرسم صورته ككاتب مهاجر، مزدوج اللّغة، يقيمُ بين برزخين حضاريين مختلفين. أصدر مطاوع ثلاثة دوواين شعرية، باللّغة الإنجليزية، كان آخرها (أموريسكو)، 2008، كما أنه نقل إلى الإنجليزية نصوصاً لعدد من الشعراء العرب، من بينهم أمجد ناصر وسعدي يوسف وأدونيس، ونال جوائز مرموقة في الولايات المتحدة، تقديراً لجهوده كمترجم.
التقيتُ الشاعر في دمشق، خلال زيارة قام بها مؤخّراً، وكان هذا الحوار عن تجربته:
– ماذا تعني لك الإقامة بين برزخين ثقافيين، وكيف تعرّف الهوية كشاعر مزدوج اللغة؟
أرى أن الهويةَ شيء يُفرض على الإنسان أكثر مما هو يختاره. حين نقابل شخصاً ما، نجد أن خلفيتنا وخلفيته، ديننا أو دينه، لغتنا أو لغته، أوهى أو أضعف من الظرف الخارجي الذي نجد أنفسنا فيه، أو يحكم تلك العلاقة بيننا، بمعنى، أنّ علاقتنا بالآخر لا تخضع لقاعدة ثابتة، أي أنك لا تتعمّد أن تتعامل مع الآخر دائماً طبقاً لهذه الهوية.
– هل الهوية معطى ثابت أم متحول؟
طبعاً هي متحولة لأن ظروف الحياة تتحوّل، ونشعر أن هوية الشخص بذاتها، والتي ينبثق منها العامل الاجتماعي، تتجلّى في صور وأشكال مختلفة.
– أنت خالد مطاوع، ليبي، متشبع بالثقافة العربية، ولكنك أيضاً أمريكي، تكتبُ وتعبّر باللغة الانكليزية، فأنت تقيم في هذه المنطقة الرمادية بين ثقافتين، ماذا تعني لك هذه الازدواجية؟
أنا أشعر بالاثنين معاً، وأستطيع أن أتعامل معهما بالأريحية نفسها، وهما مألوفان بالنسبة لي، وفي بعض الأوقات، أشعر أنني غريب في الاثنين معاً. ما أريد قوله هو أن هذا الشعور بالألفة والغربة معاً، مستمرّ، وحقيقة أنا لا أشعرُ بالشرخ الكبير بينهما، فأنت في نهاية الأمر تتعامل مع بشر يتعاملون مع أوضاع اقتصادية واجتماعية فيها تشابه كبير، هنا أو هناك، ولو أن العادات والتقاليد تختلف، ولكن ليس إلى الحد الذي تشعر به أنك بين ثقافتين.
– هل تعتقد أننا نتجه إلى عولمة شاملة، حتى في الفكر والمفاهيم، بمعنى أننا نتجه إلى إنتاج ما يسمى بالإنسان الكوزموبولتي؟
حسب رأيي الإنسان العولمي دائماً يتبدّل، وفي اللحظة التي يتعرف فيها على ماهيته، ينتهي كمفهوم. أحياناً نذهب إلى مدن كبيرة، مثل نيويورك أو القاهرة، فنشعر أن الأهالي أو المثقفين ليس كلهم بالطبع، بل البعض منهم، يشعرون أنهم موجودون في مركز العالم، والذي لم يحدث في هذا المكان، لم يحدث أبداً، فأنا أجد مثلاً أن بعض المثقفين في نيويورك يتصرفون ويفكرون كأنهم فلاحين فعلاً، ولا يشعرون بباقي أمريكا، ولا يعرفون أمريكا، كما أنك تجد بعض المثقفين في القاهرة يظنون أنه إذا لم يحدث ذاك الأمر في القاهرة، بالتالي لم يحدث في العالم كله، وهذا ما أسمّيه النمط المتحجّر للعولمة، ولكن يُهيأ لي أن الكوني الحقيقي هو القابل دائماً للتغيير، والقابل دوماً لاستقطاب الفكر الجديد.
– إذاً أنت لا تخشى على الذات المحلية من التصدع أو الانسحاق أمام هذا النمط الأعلى الذي تقدمه عادة ثقافة العولمة؟
لا، الذي نخاف عليه نوع من الأصالة، في أن يكون النمط تجاري واحد، أو نمط تفكير سياسي واحد، يتحكم في الأمور ككل، والذي تخاف منه هو الانحلال في نمط واحد يمسك بالأمور كلها. لكن التبادلية بين الثقافات يجب أن تبقى دائماً قابلة للتبدّل. وأنا رأيي، أن كل وضع مقدر له أن يكون دائماً محلياً، فليس هناك إنسان عالمي عالمي، فالإنسان دائماً في وضع محلّي متغيّر، لأنه يتعامل مع ظروف متغيّرة. المشكلة التي أراها في عملية العولمة هي أننا نستورد أفكاراً فقط لاستيرادها. أن يأتينا ذوق ونأخذه كما هو، دون أن نخضعه للتحليل. أنا لا أخاف من شيء يأتي لي، ولكن يجب أن أطوره وأتعامل معه، ولا أستسلم له، فالمشكلة أننا نشعر في الأجواء الفنية والأدبية في العالم العربي، بأن أكثر الناس استيعاباً للعالمية، هم أكثر الناس تنميطاً لها، لكن الناس الذين يخافون العولمة، هم الذين يتعاملون معها ولا يعرفون ذلك، فترى الطبقة المتوسطة، التي يُفتَرضُ أنها محافظة في العالم العربي هي التي تتابع الأفلام الهوليودية مثلاً، وهي تزعم أنها لا تحب هوليود، لكنها تتابع أفلامها.
– إذاً هي الطبقة الأكثر تأثراً؟
طبعاً هي الأكثر تأثراً، وهي تتأثر بأي شيء، فتكتشف أن الذين يدافعون عن المحلية، هم أقل الناس محليةً، وترى عائلات إسلامية محافظة، تتابعُ أفلاماً هوليودية بحتة كما قلت، فأنت، كمستهلك لهذه الأفلام، لا تملك أية قضية، وهي متغلغلة فيك، ولا تملك أمامها ردّاً أو نقداً.
– تقصد لا تملك ما أسماه ادوارد سعيد نوعاً من المقاومة النقدية لها، ليس بالمعنى العسكري أو العُنفي، بل الثقافي؟
برأيي أن الذي يحدث، يشبه قصةً قصيرةً جداً لكاتب اسمه (مارمادول بيكتال)، الذي سبق وترجم القرآن، وأسلم لاحقاً، وعنده حكاية عن «كاراكوز» صعيدي في مصر، في نهاية القرن التاسع عشر، وجهه أحمر، ويتكلم بلغة عربية ركيكة جداً، لكنه، كشخصية محلية، استوعبت شخصية الجندي الانكليزي الوافد، وأدخلتها في نظام الكاراكوز الساخر، وعرفت كيف تضحك عليه. هنا، المقاومة تعني أن تأخذ المادة الأجنبية وتحاورها، وتستوعبها، وتُدخِلُها في محورِكَ.
– المقاومة ليست الرفض، وإنما هي تمثّل وامتصاص؟
أنا بالنسبة لي، عندما أتى الطوفان، في عهد نوح، لم يقل الله لنوح تعلّم أن تحيا تحت الماء، بل أمره أن يبني سفينة، ويطفو فوق الماء، حتى يتحكّم بها، وبرأيي حتى الناس العاديين الأمريكان، يشعرون بقوة أمريكا، وطوفانها، ويعانون من هيمنة النمط الواحد، مثلنا، أو أكثر، وهم يشعرون بضرورة المقاومة.
– أريد أن أعود إلى اهتمامك الأساسي. أنت شاعر وصدر لك حتى الآن ثلاثة دواوين شعرية من (خسوف الاسماعلية) عام 1995، ومن ثم فلك الأصداء في 2003 والآن (أموريسكو – 2008). أود أن أبدأ طبعاً بسؤال عن الكتابة الإبداعية، بوصفك أستاذ في هذا النوع من الكتابة، كيف يمكن أن نعلّمَ كتابةَ القصيدة، أليس الشعر نتاج موهبة، وهل يمكن ترويض المخيلة حقاً، وإخضاعها لضوابط ومعايير؟
-واحدة من الإجابات أن الإبداع لا يُعلّم، ولا تستطيع أن تعلّمه، ولكن الطالب يمكن أن يتعلم، فالذي يحدث في ورشات الكتابة، أن الطالب، طبعاً، يجب أن يمتلك الموهبة، وأول بداية الموهبة هي الرغبة. إذا كان بالإمكان تعلم الرسم أو الموسيقى، فلماذا لا يمكن تعلّم الشعر!
– إذاً أنت لا تعتبر القصيدة نتاج إلهام غامض، سحري، بل هي في، نهاية المطاف، نص يخضع لمبادئ وأسس يمكن بكل بساطة أن نتعلّمها؟
حين يأتي الإلهام يجب عليك أن تشتغل عليه قليلاً، ويكون لديك استعداد وبحث، ويمكن بعد ذلك للكتابة أن تأتي، عندما تأتي. لكن أيضاً، هناك شعراء كثر مثلاً، حتى شعراء عرب، يكتبون بشكل يومي فعندما يستيقظ (سعدي يوسف) كل يوم صباحاً، أحياناً يأتيه الإلهام، وأحياناً لا يأتيه، فأنا لا أقول أنه لا يوجد قصيدة بدون إلهام. هناك قصائد، تأتي، ولكن أحياناً تأتيكَ فكرة، لم ترد في ذهنك من قبل، ولم تتخيلها، وهذا نوع من الإلهام. الموهبة أساسية، لكن التعليم يصقلها. في أمريكا يقولون للطالب الذي يريد أن يكتب عن البحر، أنّ أول شيء يجب أن يقرأه هو (موبي ديك) لهرمان ملفيل، ويجب أن يقرأ أيضاً (أوميروس) لديريك وولكت. عليك أن تراقب الشعراء الذين تحدثوا عن موضوع ما، وماذا فعلوا حياله، ومن ثم تشقّ طريقك بنفسك، والمهم في الأمر أن تجد صوتك أو تكتشفه، أي أن تُحدث شرخاً في الحائط الكبير. حتى العرب كانت تنصح الشاعر المبتدئ بأن يذهب ويحفظ عشرة آلاف بيت ثم ينساها.
– أود أن أستمر في السؤال عن القصيدة، وخاصة تلك التي تكتبها أنت. يلحظ المتتبع أن ثمة نزوعاً لديك للدمج بين البلاغي، الرفيع «Sublime» واليومي، المباشر، (conversational). ما سر هذا التناقض، إذا كان ثمة من تناقض، وكيف تجد التناغم بين الهاجسين؟
-أنا الآن أراجع نسخة مترجمة من ديواني (فلك الأصداء)، بالعربية، وفيه، بالأخص قصيدتان طويلتان واحدة اسمها (في الجوار) وأخرى عن التلفزيون اسمها (بثّ) وهذه الأخيرة هي التي يوجد فيها شرارة الاحتكاك بين الغنائي والشفوي. في كلا القصيدتين، ثمة ما يشبه الكتابة الآلية، كما يقول بريتون ورامبو-
– تقصد التداعي الحر للأفكار!
نعم، ولكن حتى التداعي الحرّ يجب أن يخضع لشيء من الرقابة. أنا في واحدة من القصائد كنت أحب أن يتصارع الغنائي مع اليومي، وهذا دائماً موجودٌ عندي، حتى في الديوان الجديد، (أموريسكو)، وهناك شيء يشبه روح الحنين، من جهة، وروح البراغماتية الأمريكية، التي هي أصلاً لا تصدّق الشعر، من جهة أخرى. بالنسبة للغنائية، فأنا، كما قلت لك، أتيت من عائلة فلاحية من طبقة متوسطة، وليس لها علاقة بالشعر، أقصد تجنح إلى عدم تصديق للشعر. أنا دائماً لا أصدق الشعر، لكنني أدافع عنه، في نفس الوقت.
– أريد أن أسلّط الضّوء على منبع الغنائية في قصيدتِكَ. هل هي مجرّدُ حساسية رومانتيكية متأخّرة، تعلّمتها من الشعراء الغربيين (بايرون، كيتس، وردزورث) أم أنها أيضاً مرتبطة بطفولة فلاحية. ما سر هذه النوستالجيا، وهذا التجاور بين الوجدانية المشرقية والبراغماتية الانكلو-ساكسونية؟
-أقول لك، إن قصيدة (مقدمة) للشاعر وردزورث، عمل مثير ومهم جداً، وأيضاً فيه شجن. وقد تأثرتُ بها، وهي قصيدة ملحمية تحكي عن استعادة الماضي. أنا حقيقة تركتُ ليبيا وأنا شاب صغير في سن الخامسة عشرة، وكنتُ راغباً في الهروب، ولكني أيضاً شعرتُ بعد مدة أن هناك أشياء لم تكتمل، وأن هناك أشياء كثيرة كانت جميلة. أعتقد أنّ ذكريات الماضي حاضرة في قصائدي.
– إذاً هي حصيلة لتأثرك بالنمط الرومانتيكي، ممثلاً بالشعر الانكليزي، وبعض الأصداء البعيدة من طفولتك؟
-أجل. أود القول إنني خرجتُ من بلدي، لأنني كنت أشعر أنه لا مستقبل لي فيه، مع أنه الآن أصبح لدي فيه حياة وأصدقاء كثر، أقصد ليبيا طبعاً. واستمر عندي نوع من الحنين إلى الحياة التي كان يمكن أن تحدث. ربما هو نوع من الحنين إلى المستقبل الذي كنت أعرف أنه لن يحدث أبداً، أو إلى الشخص الذي كان يمكن أن أكونه. أحن إلى شعور بانتماء ما، كان يمكن أن يكون، وهذا ما أعيش، بدونه الآن، ولكن، لا بأس.
– كيف تكتب القصيدة؟ هل ثمة طقوس خاصة؟ هل تمحو أكثر مما تدون؟ ومن هو القارئ الذي تتوجه إليه؟
لا يوجد لدي طقوس، وأتمنى أن أجلس بشكل يومي، ولكن في الحقيقة أشعر أنني أكتب الشعر عندما أحتاج إليه، أو أشعر به أنه موجود، أو أشعر بمخزونه، وأحياناً يجب أن أفرغ وقتاً كبيراً لأبدأ في الكتابة، وأنتظر. لا أنتظر قصيدةً تأتي، بل أنتظر أن تتكون، يعني أن أكتب شيئاً، وأنتظر. في ديوان (أموريسكو)، يوجد أربع أو خمس قصائد أتتني جاهزة، أو عملت عليها بشكل بسيط، لكن البقية أخذت وقتاً. ثمة قصيدة غريبة بعض الشيء، تبدأ بقطّة وتتوسّع، وتتركّب بشكل مرجاني، بحيث دائماً تأتيها مادة جديدة وتتكوم عليها. وفيها صراع بين الغنائي مع الشفوي. تأتيك فكرة ثم تدونها، وتدع معلومات اللا وعي تمتلئ، وخاصة إذا كان الموضوع كبيراً، ثم تنسى ما كتبت، حتى يأتي وقت الكتابة، وبعد أن تنتهي، تعودُ وتقرأُ ذاكَ الذي كتَبْتَهُ بعينٍ باردةٍ وقاسية.
– من هو القارئ الذي تحب أن تخاطبه؟ هل هو قارئ عربي أم أمريكي، أم هو قارئ كوني، بالضرورة؟
يقول باختين في كتاباته الأولى، عندما كان عمره 22 سنة، وكان عبقرياً أصلاً إن الخطاب الشعري هو بين الشّاعر وقارئ متخيل، أي أنّ كل قصيدة تُنبِتُ قارءَها بنفسها. ثمة دائماً قارئ وشاعر متخيل، وهما الاثنان في غواصة في قاع البحر، لا يؤثر فيهما الرأي العام، ولا يؤثر فيهما شخصية الشاعر ذاتها. أنا أتوجّه إلى قارئ مركّب، عربي وأمريكي، والشاعر (ويتمان) موجود في كل كتبي، وبالطبع القارئ الأمريكي يعرف (ويتمان)، لكن هناك قصائد تضم رموزاً قرآنية وكنعانية، وسواها، قد تصعب على القارئ الأمريكي، وليس، بالضرورة على القارئ العربي.
– هل تؤمن بما يسميه مالارميه، الشعر الصافي، أم أن القصيدة ينبغي أن تنقل رسالة ما في النهاية إلى القارئ؟
طبعاً أنا أقول إن الرسالة ليست هي الأيديولوجيا، ولكن تعطي للقارئ شيئاً يعمل عليه، وهي طالعة من عمل نفساني وروحاني للشاعر، ولكن كلّما وضحت الرسالة للقارئ أصبحت القصيدة أسوأ. الغموض في الشعر ضروري أحياناً، وقصيدة (الأرض الخراب) لإليوت، مثال على ذلك.
– ذكرتَ، من قبل، ويتمان، ذاك الشاعر المتدفق كالسيل، وهو يختلف كثيراً عن إليوت، الميتافيزيقي، الفلسفي. ماذا تعلّمت من (ويتمان)؟
من القصائد التي أحبها للشاعر (ويتمان) قصيدة أسمها (النائمون) حيث كتبها بروح الحنان والمحبة، وتجده يخلقُ من نفسِه ملاكاً آخر، وفعلاً تشعر فيها روح الانسيابية، والرغبة في الاحتواء، والالتحام بالآخر.
– تشعرُ برغبتِهِ في لمسِ كلّ شيء تقريباً، واحتضان المتناقضات.
طبعاً، (ويتمان) شاعر شاسع وضخم، ولكنه كان وحيداً، رغم أنه لم يكن خجولاً، لكن في أحلامه، كان شخصاً وحيداً، وإلى حدّ ما، مقهوراً، لكن روح المحبة والروحانية الإنسانية، تنبثق لديه من حبّ جمّ للحياة، وللأمكنة.
– ما علاقتك بالمكان كشاعر؟
الحقيقة أنني لا أعرف ما إذا كنت أحبّ اكتشاف الأمكنة، أو أنني لا أجيد اكتشافها … أنا دائماً أتكلم عن المكان. وثمة مدن كثيرة في قصائدي. هناك من يقول إنني أحاول أن أكوّنَ خريطة أخرى للعالم، وربما مشروعي الأخير الذي أقدمت عليه، وهو إعادة النظر في تاريخ ليبيا، أو الشخصيات الليبية أو المنطقة الليبية، بعد الاحتواء الإغريقي أو الروماني.
– تقصد إحياء فكرة التعددية الثقافية والأدبية المرتبطة بالمكان؟
بالضبط. مثلاً لدي قصيدة طويلة اسمها (شرق قرطاج) وهي بمثابة استعادة للتاريخ الروماني والذي هو جزء من تاريخ ليبيا. ثمة دائماً أولئك الأفارقة الذين يأخذون مراكب من ليبيا، ويريدون الذهاب بها إلى إيطاليا. هذه اللعبة التاريخية ما زالت مستمرة حتى الآن. من هنا أشعر أنني دائماً في المكان الذي هجرتُ منه. ويصبح التاريخ نفسه طريقةً في العثور على مكان خاص بك.
– هل المكان، إذاً، مجرد استعارة؟ وإلى أي حد تعتبره حقيقياً في القصيدة؟ هل هو حيلة شعرية؟ وأنت ذكرت الإسكندرية وقرطاج وبنغازي، وسواها؟
لا، المكان، في الحقيقة، يجب أن يوحي بحالة شعرية، لا بحيلة شعرية، وأقصد مثلاً أنني حين أستذكر بنغازي في وقت الغروب، أو في يوم الجمعة، أشعرُ بشيءٍ من اليأس، حقيقة، وأنا ذكرتُ في إحدى قصائدي أن صباحات يوم الجمعة كانت تملأني بالحزن. كنتُ أشعرُ أننا نصل إلى حفرة من الزّمن، ونقع فيها.
– ما علاقتك بالدين؟
علاقتي بالدين، تنحصر في الإحساس بالكون، وبصغر الإنسان، وكبر البشرية. هذه الأشياء أخذتُها من الدين. لذلك ما زالت في تاريخي، وما زالت موجودة معي، إلى حد ما، طبعاً هذه اعتبرها من الجانب الروحاني في الدين ولكن …
– وماذا عن الجانب الدوغمائي؟
في الحقيقة، أنا نفرتُ منه، وكان جزءاً من حياتي كطفل. لكن يجذبني البعد الروحاني في الدين، وأفهم تماماً جوهره الرمزي.
– هل يجذبك بُعده الشعائري، الطقسي، الخرافي؟ ومن أين أتتك تلك الكآبة أيام الجمعة؟
الحققية، أنا لا أعلم.
– دعني أنتقل إلى سؤال عن علاقتك بالشعر العربي الحديث، هل تواكبه، هل أنت مطلع على الشعر الجديد الذي يُكتب في العالم العربي، ومن هم شعراؤك المفضلون؟
مطلع بقدر الإمكان، وأنا الآن على وشك نشر ثامن ديوان مترجم لي، هو (مختارات لأمجد ناصر). كما أنني على وشك الانتهاء من نشر مختارات كبيرة لأدونيس.
– وطبعا صدر لك مختارات بالانكليزية (لسعدي يوسف)، ونلت جوائز قيمة؟
أنا ترجمت كتباً لشعراء لم يكونوا معروفين منهم مرام المصري، وجمال حداد، وايمان مرسال. أما فاضل العزاوي فقد ترجمتُ له ديوانين. المهم أنني مطلع بشكل جيد على شعر الشعراء الذين ترجمتهم في كتب، مثلاً فاضل أو سعدي يوسف أو أمجد ناصر أما، أدونيس فصعبٌ، ومشروعه كبير، وأنا ما زلتُ لم أستوعب كتاب (الكتاب).
– أنت تترجم كتاب «الكتاب»؟
لا، هي مختارات تغطي أكثر من نصف قرن من مسيرة أدونيس الشعرية. الشعر لا يتغير كثيراً، وجوهرياً، من جيل إلى جيل، ونحن لسنا إزاء سجل مدني. وعودة إلى سؤالك، تستطيع أن تقول أني مطّلع شيئاً ما، وأقرأ ما يُكتب في جريدة (الحياة) وفي (القدس العربي) و(السفير الثقافي) بالطبع، ولكنني لا أستطيع أن أقول أنني ملم بما فيه الكفاية.
– أنت مطلع على الجدل الدائر بين الشعر الموزون والمقفى، وبين قصيدة النثر الخالية من الوزن، لكن الغنية بالإيقاع. ما مفهوم الإيقاع عند خالد مطاوع، وكيف يترجم نفسه في قصيدته الإنكليزية؟
تستطيع أن تقول أن أذني الانكليزية أقوى من أذني العربية، فأنا أحياناً لا أسمع إيقاع القصيدة العربية، بقدر ما أسمع الإيقاع الذي ينسجم معي. خذ شاعراً مثل سعدي يوسف، إنه يكتب التفعيلة غالباً، لكنني لم أبحث له عن أوزان meters، في الإنكليزية. أنا شخصياً أكتب القصيدة على غرار تيد هيوز وليس روبرت فروست، أي أكتب الشعر الحرّ، وهذا يعني أن الإيقاع مهمّ جداً بالنسبة لي. وقد ترجمتُ سعدي يوسف بروحٍ «رتميةٍ» ولكن ليس بروحٍ وزنية.
– الوزن لا يترجم ولكن الإيقاع يمكن أن يتحوّل؟
أنا قمتُ بذلك، وقرأتُ مع سعدي القراءة الأولية، وحاولت أن تكون في نفس عدد الدقّات أو نفس عدد المقاطع الموجودة في البيت تقريباً. فالإيقاع إذاً موجود في الانكليزية، ويمثل حركة ما في مقطع طويل أو قصير، وفقاً لفكرة تجذب تلك الدقات، وتعكس أفكاراًَ، ناهيك عن وقفات الصمت، وأنا منتبه لهذه العملية بشكل غريزي، عفوي، وليس بشكل مدروس، وفي شعري، يهمّني جداً قراءة القصيدة بصوت عالي، لتساعدني في الكتابة أو الترجمة.
– أحياناً تجد خللاً إيقاعياً فتعيدُ كتابة المقطع، ولكن ثمة قصائد تخفي دلالاتها أكثر مما تُفصِحُ عنها. كيف تتعامل، كمترجم، مع تلك الفجوات أو ذاك التواري الدائم للمعنى؟
لا أحبّذُ مقولة «الترجمة خيانة». بالعكس، الترجمة أمانة كبرى، والترجمة بالنسبة لي هي نفخة الروح في الطين، فهي صعبة وأنت تحاول، كما يقول الناقد هارولد بلوم، أن تسيء قراءة النص بقدرٍ كبيرٍ من الانتباه. أنا مع مقولة بلوم هذه حول مفهوم القراءة القوية الضالة. إن وجود ما يسمّيه بلوم قلق التأثر، بين المترجم والشاعر، حالة صحية، فأنتما في النص الواحد نفسه، لكنك، كمترجم، تحاول أن تجعله ملكك. هو لك وليس لك، في الوقت نفسه. إنّ خلق التناغم والموازاة بين لغتك، ولغة النص الأصلي، هو الرّهان. هي رقصة طويلة، يحاول الاثنان من خلالها الاقتراب كثيراً من بعضهما، لكي يرقصان معاً.
– هل لديك نظرية أو فلسفة خاصة بالترجمة، أم أن النص هو الذي يفرض منطقَهُ؟
أحد التحديات التي واجهتني في ترجمة أمجد ناصر مثلاً هو أنه يكتب قصائد الكتلة في ديوانه (حياة كسرد متقطّع). وثمة لعب على الجملة العربية بحيث تبدو طويلة جداً، وكان لا بدّ من كسرها، وتقطيعها. ذكرتُ هذا لأقول إنه لا توجد فلسفة خاصة بي، ولا تستطيع أن تقول أنك تريد أن تتبع فلسفةً محدّدة. أؤمن بالنظرية البراغماتية، فالحلول، في الترجمة، تأتي من خلال التجربة.
– دعنا نتحدث بشكل أوضح. هل لاحظتَ فرقاً مثلاً بين ترجمة قصيدة سعدي يوسف وقصيدة أدونيس، وهل اتبعتَ مقاربتين مختلفتين؟
نعم، ولكن يُهيّأ لي، إلى حدّ ما، أن عفويتي، كمترجم، مهمّة جداً. أنا أرغب بأن أصبح شاعراً مختلفاً حين أترجمُ لشاعرٍ آخر، وسرعان ما أصبحُ مترجماً مختلفاً حال الدخول في نصٍ مختلف. وعندما تتعامل مع مختارات أدونيس، وخاصة القصائد الطويلة في ديوانه (تنبأ أيها الأعمى) مثلاً، يجب أن تكون مرناً، ولا تخاف على صورتكَ كشاعر، فأنا لا أخاف على صورتي كشاعر عندما أترجم.
– ثمة من يقول إن سعدي يوسف ترجم (ويتمان) بالطريقة نفسها التي ترجم بها (ريتسوس)، وكانت نبرته الشعرية واضحة في الترجمتين، ألا تخشى أن يطغى صوتك كشاعر على النص الذي تترجمه؟
ربما هذا يحدث، حين تصبح شاعراً مهمّاً، ربما. وسعدي يوسف، حين ترجم ويتمان لم يختر قدراً كافياً من النصوص، في الحقيقة، وشعرت أنها مختارات صغيرة تلك التي أنجزها، وأعتقد لو أنّ سعدي صبر مع ويتمان، لكانت النتيجة أفضل. واحدة من أهم النصائح التي وصلتني كشاعر هي أنك يجب أن لا تجدَ صوتك أبداً. أنا في الحقيقة لا أخاف، والدواوين التي أترجمها، تتغير، ومشكلتي أنني ما زلتُ أنوّع وأستطيع أن أنتقل من أسلوب إلى أسلوب بشكل سريع. كشاعر، أنا قلق أسلوبياً، وربما وجودياً أيضاً. أنا لستُ في حالة وعي مقصودة، أثناء الترجمة، وأترك شيئاً للعفوية، وإلا تُقتَلُ القصيدة قيد الترجمة.