مروة الأوجلي
.
نوْعٌ منَ الإرادة القَوية الممزوجة باليأسْ تملأ حدقة عيْنايْ .. تسْري عبر أوردتي وشراييني مالئة فراغاَ يُعاني منهُ القلبْ ويأن لهُ الجسدْ .. تخْرجُ منها خيوطٌ تتشعبُ بأخرى مُعلقة في زاوية الغُرفة .. على أمل قدومِ هذهِ اللحظة التي اعيتْ الزمنَ إنتظاراً معي .. عندَ تلكـَ النقطة يموتُ القلبْ .. وهُنا تنبضُ قدماي لتبْعث في جسدي روحَ النهوض والتجوُل في الغُرفة مبْتعدة عنْ نقطة التقوقعْ أعلى السريرْ الذي أكل عليه الدهرْ وبالْ ..! أسيرْ واتحسس كُل شيءْ تحت قدمي .. ومعها تصارع مقلة العينِ الجفونَ .. تخترقها فتقعُ على الشمّاعاتْ المُعلقة خلفَ بابْ الغُرفة .. واحِدة .. إثنتانْ .. الثالثة مكْسورة .. ! كانتْ المُفضلة لدى أمي .. تُعلقْ عليها معطفَ النومْ البني كُلما أتت للإطمئْنانْ عليْ وتطبعَ قُبلة أعلى جبيني الكبيرْ .. دُخولها يزيدْ منْ إشتعال الغُرفة المحْمومة المْرصوصة دفْئاً .. تجدُني ملْفوفة حول محور جسدي .. قدمايْ الصغيرتانْ قرب المْدفئة المُصممة على الطرازْ الاوروبي .. عابثَة بخصلاتْ شْعري البُني وانا أقرأ كِتابَ ” السرْ ” الذي لمْ أفهمهُ يوْماً !.. تضمني اليها فتختلط مكوناتْ عطْرينا .. أمتزجُ معها وكلّي رغْبة في العودة الى احشائها بعيداً عنْ ضوضاءْ العالمْ ! ..أضيعُ في غيْبوبة لأجدني وقدْ فتحتُ عيناي على إشراقة شمسْ الصباحْ .. والإبتسامة مطْبوعة على شفتايْ كأنما تكلستْ على هذا الحالْ دونَ حراكـْ ..
أسيرُ في غُرفتي أراقبُ خيوطـَ العنْكبوتْ وهي تدْخل وتخرجْ عبرَ ثُرية الغُرفة .. مصباحٌ واحدْ من بينِ ستة مصابيح لا زالَ يقاومْ .. يُحاولُ بثَ البريقِ عبر زُجاجْ الكريسْتال فيهْزمه الغُبارْ المُتربعْ على عرْشهْ.. أتحسسْ بأصابعي الجُدرانْ .. اتحسسْ شقوقَ الحائطْ .. شقَا شِقاً ..اتشممْ رائحتهْ فينزلقُ وجْهي وينْهار جسَدي واقِعاً .. ها قدْ أصبح لونُ الحائطْ هنا يميلُ للإخضرارْ .. وهُناكـَ شقٌ يتطاولُ على قُطر الغرفة يدْخُل عبْره الماءْ .. ازحفْ اليهْ .. أستجمع قوتي للنهوضْ .. امعنُ النظرَ فيهْ .. يا الهي ! .. يمُر أسفل صورة أمي .. وتتشبتُ هي حتى لا تقعْ .. مائلة بشدة على وشكـْ الوقوعْ والإنتهاءْ بإنتهائي الليْلة .. إطارُ الصورة بتفصيلهْ المنمقة والمصْنوع بعِناية فائقَة .. تقُوساتهْ الذهبية لا زالتْ كما لوْ انها صُنعتْ للتوْ . اتذكرْ كمْ كانتْ أمي تحُب المظاهرَ لتُجبرهمْ على وضعِ صورتها في اطارِ مرْشوشٌ بماءْ الذهبْ ..! ما تزالُ عيناها تبرقانْ في تلكـ الصورة .. كإيتسامتها التي لا تخْتلفْ عنْ أبتسامتي .. إشتممتُها .. بحثْتُ عنْ عطرها هناكـْ .. غباءٌ ان نبحث عنْ شيءْ ما في صورة ! .. لكًني لمْ اعر للقوانينْ الكْونية أيّان إهتمامْ .. حاولتُ بث الروحِ فيها .. أرقتُ الدمَ قُرباناً لها .. ذرفتُ الدمعْ .. لمْ أفلحْ ! .. فوحده الله القادرُ على إحياءْ الموتى ..
البرقْ .. الرعدْ .. غُرفتي الصَغيرة تهتزْ .. وشقوقْ الحائطـْ آخذة في الإتساعْ شيْئاً فشيئاً ..الريحْ تعْبر النافذّة المكْسورة وتتسربُ عبرَ فتحات الفُسْتانْ الرفيعْ كاشفة الجُروحَ التي صنعْتها بجسَدي .. ريحٌ قوية .. فأخرى اقوى .. أسارعْ في ألتقاطْ صورة أمي ! .. الحمدُ لله ! .. ادركتثُها قبل انْ تنكسرْ .. ضممتُها اليً بشِدة .. إنها اللحظة التي كُنت انتظرها ! .. نظرتُ الى عيْنها أسالها السماحَ لي بتوْديع والدي؟! .. لا تخَافي أمي .. لنْ يُظنيني ذلكـَ عنْ اللحاقِ بكـِ .. بلْ لربما سيدْفعني اكثر للإستمرارْ فيما أقدمُ على فعْله .. أمي اتعلمينْ ؟! .. لقدْ إنتقل أبي للعيشِ في المدينة الأخرى معَ زوْجته الجديدة وأبناءهْ .. أظنه سعيدٌ للغاية حتى ان سعادتهُ أنسته السؤالَ عني .. لمْ يسْأل عني أحدُ بعدكـْ ..
قطْرة من الماءْ عبرتْ شقوقَ السقفْ لتسقُطْ فوق الصورة .. تماماً فوقَ عيْنها اليُسْرى .. تنْسابُ على خًدها بإرتياح شديدْ لتموت بينَ شفَتيها .. أمي لا تبكي!؟ .. أرجوكـِ لا تفعلي .. لنْ اذهب اليهْ .. عدلتُ عنْ الأمرْ .. حتى اني لنْ احادثه لأجلكـْ .. اتذكرينَ أمي حينَ كُنتِ تقٌصينَ عليّ قصة الطفلة البطلة التي لا تخافُ الموتْ .. التي ألقتْ لعبها حين رأت أطفال بلدها يبكونَ لعدمْ إمتلاكـَ لعبْ فتخلتْ عنها لأجلهمْ .. تلكـَ الطفلة لمْ تعدْ صغيرة .. ولنْ تُلقي ألعابها هذهْ المرة .. الطفلة يا أمي كبرتْ .. القتْ سني عمرها ورائها حينَ رأت الدمعَ ينسابُ منْ عينيكـْ .. حينَ إغتصبتها صفعاتُ زوْجة أبيها .. وفض عُنفها المتعمدْ بكارة سعادتها .. ولمْ يحاولْ الأبْ إخاطته بتخلييه عنْها .. تلكـَ الطفلة يا امي كبرتْ .. ولمْ تجد من يأنسها بعدكـْ .. إستأنستْ لوحدها حشراتٍ خاطتْ من دموعها ستارَ أملٍ بسيطْ .. لكنها لمْ تنجحْ في إعادة عِفتها ..
أخذت الصورة .. والأرضُ تغْلي تحت قدمايْ .. للحظةٍ خُيل لي اننَا في تموزْ .. لكن مؤثراتِ الطقس نبهتْني على اننا لمْ نكنْ سوى في شباطْ .. عادتْ الصورة لتبشرني بمصير بتُ أستحسنه وترسمُ بحافة وجهي إبتسامه تهْزأ بالدنْيا .. تباً للدنيا .. لأبي وزوجتهْ.. للعالمْ !.. أرفع حاجبي الأيسرْ .. اخطو بضع خطواتٍ اتسلقٌ معها الكُرسي العالي .. هُناكـْ تشتبكـُ عينايْ بالخيطـْ المعلقْ مرة أخرى .. أفردُ اصابعي .. يمينْ .. يسارْ .. باحثة عنْ صورة امي .. آه .. ها هي بجانبي ! .. يُسدل المصباحُ الاخيرُ الستارَعنْ عمرهْ .. ينطفي مُعلنا إنتهاءَ المسرحية .. ومعهُ اميلُ للامامْ لأحيّ الجمهورَ .. العنكبوتْ .. الشقوقْ .. الندى .. البرقْ .. الزجاجْ الكسورْ .. ترتعشُ قدمايْ … ألفظْ أنفاسي الأخيرة .. وأنتهي .. !