كتاب أنا خديجة الجهمي
طيوب المراجعات

سيرة حياة بنت الوطن السيدة خديجة الجهمي

كتاب أنا خديجة الجهمي
كتاب أنا خديجة الجهمي

شهد عام 2006 صدور كتابين عن الرائدة الإذاعية والصحافية خديجة الجهمي، وذلك لأنه صادف ذكرى مرور عشر سنوات على رحيلها. الكتاب الأول بعنوان (خديجة الجهمي نصف قرن من الابداع)، من اعداد الاستاذة حميدة بن عامر، التي سبق وأصدرت كتاب عن رائدة تعليم الفتيات في بنغازي السيدة حميدة العنيزى. أما الكتاب الثانى فهو من اعداد الاستاذة الباحثة أسماء الأسطى، وهو بعنوان (أنا خديجة الجهمي).

 كتاب الاستاذة حميدة بن عامر عبارة عن لقاءات صحافية وحوارات مع مجايليها من الاعلاميين والاعلاميات، وتلميذاتها من الاذاعيات والصحافيات، رفقة سرد بسيط لسيرتها المهنية، فيما كان كتاب الباحثة أسماء مصطفي الأسطى سرد لحياة السيدة خديجة الجهمي الشخصية والمهنية، بالحوار المباشر والمسجل معها شخصيا.
تورد الباحثة في مقدمتها للكتاب سبب اختيارها لسرد السيرة الذاتية لرائدة حقوق المرأة في ليبيا، ورائدة الاعلاميات والصحافيات الليبيات بنت الوطن خديجة الجهمي، كما تقول في مقدمة كتابها: عندما صدر كتاب (ورقات مطوية) لعمى محمد الأسطى متضمنا السيرة الذاتية التي سبق نشرها في صحيفة الأسبوع الثقافي عام 1976 أهديتها نسخة منه وكتبت لها في الصفحة الاولى ان تحذو حذوه وتكتب سيرتها الذاتية.
بعد ذلك انشغلت الباحثة كما تقول في مقدمة الكتاب بالتزاماتها الاسرية والامومية الى ان هاتفتها السيدة خديجة الجهمي واتفقتا على ان تتحدث السيدة خديجة الجهمي على سجيتها وتقوم الباحثة بتسجيل سيرتها على اشرطة تسجيل، تقوم بعد ذلك الباحثة بتفريغها، والذي اثمر عن صدور الجزء الاول من هذه السيرة الذاتية، ولكن الباحثة اسماء الاسطى لم تكتف بما أجرته من تسجيل حى وسردى للسيرة الذاتية للسيدة خديجة الجهمي شخصيا وانما اعتمدت كما تقول في كتابها على ما تركته السيدة من رسائل عند عزيزة الشيبانى، التي استلمتها منها الباحثة بعد وفاة السيدة خديجة الجهمي.

ومن المعروف ان السيدة عزيزة الشيبانى كانت قد اصدرت كتابا عن السيدة خديجة الجهمي بعنوان (بنت الوطن) نشرت فيه بعض من سيرتها الذاتية وبعض من كتاباتها وخواطرها.
وتذكر الباحثة اسماء الاسطى بأن كل مقتنيات السيدة خديجة الجهمي لازالت موجودة في مخازن ذويها، وانها تستحق ان ينِشأ متحف خاص بها باعتبارها اول من دافع عن حقوق المرأة واول اذاعية وصحافية واول مؤسسة لمجلة مختصة بالمراة.
تورد الباحثة في الصفحات الاولى من كتابها كلمة الاستاذ منير البعباع الذي ابدى تحسره على تجاهل تاريخ خديجة الجهمي النضالى الطويل وما عانته من من شقاء في طفولتها وشبابها، وكفاحها في وقت الحرب والصعوبة الاجتماعية التي واجهتها في حياتها، وانها تستحق ان تكون من ضمن الاسماء التي يشاد بها ليس على المستوى المحلى بل على المستوى العربى والعالمى.

* السيرة الذاتية للسيدة خديجة الجهمي كما روتها شخصيا

تذكر مؤلفة كتاب (الذاكرة والفلسفة) في فصل من فصول كتابها يتحدث عن السيرة الشخصية، كلمات لكاتبة السيرة ستورم جيمس في سيرتها الذاتية المعنونة بـ (رحلة الى الشمال) تقول فيها: حين يعيش الرجل او المرأة حياة غير اعتيادية او يلعب دورا في مشروع عظيم ما فانه لا يحتاج الى تقديم اسباب اخرى تدعوه الى تسجيل ما مربه، ولأن السيدة خديجة الجهمي امتلكت مشروعا كبيرا نذرت له كل حياتها فإن تجميع بعض الباحثات لسيرتها الذاتية هو عمل تستحقه هذه المرأة العظيمة، وما قامت به السيدة عزيزة الشيبانى والأستاذة أمينة بن عامر هو مجهود كبير من أجل اضاءة كثير من الجوانب الشخصية والمهنية لها.
ولكن كتاب (انا خديجة) للباحثة أسماء الاسطى هو كتاب مختلف عن الكتابين السابقين لأنه سيرة السيدة خديجة الجهمي بروايتها وبكلماتها، لذا جاء الكتاب دافقا حيويا ممتعا في قراءته بحيث تستحضر روح السيدة خديجة الجهمي بصفحات الكتاب وكأنها تتحدث بجانبك حين تسرد بلهجة بنغازية بسيطة كل صفحات حياتها الشخصية والمهنية بصدق وعفوية وبساطة بنت البلاد الأصيلة التي كونت اسما كبيرا لها بجهدها وكفاحها وتعبها وفتحت الطريق أمام أجيال كثيرة بعدها للتعلم ومعرفة الحقوق التي أعطاها لها الله، وكان العرف المجتمعي يحرمه منها. وأيضا لروحها الإنسانية الخيرة التي ظهرت من خلال اهتمامها بمشاكل وقضايا الناس عبر برنامجها الاذاعى الأول والرائد في البرامج الاذعية الاجتماعية والذي كان بعنوان (أضواء على المجتمع).
تبدأ السيدة خديجة الجهمي سيرتها في كتاب (أنا خديجة الجهمي) بذكر سنة ميلادها الذي كان في مدينة بنغازي، فجر يوم الجمعة 7 رجب الموافق 15/3/1921 ثم تتحدث عن والدها بالقول: أبى رجل متعلم بالنسبة لجيله، فهو يقرأ ويكتب باللغتين العربية والايطالية، رغم انه لم يدخل مدرسة قط، وكان يعمل في مطبعة يصفف الحروف ويطبع الجريدة التي كانت الإدارة الايطالية تصدرها انذاك وهى جريدة (بريد برقة). ثم تسترسل السيدة خديجة في الحديث عن والدها بحنان ومحبة حين تقول عنه في مقطع تالي من الكتاب: كان والدي شاعرا رقيقا وسيما أبيا، ذا شخصية قوية، عطوفا كريما وقد احبنى كثيرا. وتسرد السيدة خديجة تفاصيل العائلة الخاصة وطريقة زواج والدها من أمها وطفولتها في بيت الجد الذي عاش والداها فيه لمدة طويلة، ثم تصف بسلاسة وجمال بيت العائلة الذي تقول عنه: يقع بيتنا في شارع الكيش، وهو زقاق صغير يتكون من بيوت متشابهة محصورة بينه وبين زنقة البعباع. بيتنا ككل البيوت، له نفس الهندسة التقليدية التي تبدأ بممر طويل يتوقف عند سقيفة تفتح على ساحة في وسط البيت، وفي كل ضلع من أضلاعها المربعة دارين أرضيته مرصوفة بالاسمنت.

وتسرد السيدة خديجة الجهمي بعفوية ملامح البيت من الداخل وتصف تفاصيله عبر منمنات دقيقة احتفظت بها ذاكرتها طازجة حية وكأنها ابنة اللحظة وكأنها لازالت تلك البنت الصغيرة التي تتجول في ربوع ذلك البيت وتغني لحصالتها باللغة الايطالية الأغنية التي علمتها لها مدرسة اللغة الايطالية. وتتحدث عن بنغازي بحنان غامر وحب دافق حين تسترجعها ذاكرتها: كانت مدينة صغيرة جدا، ولم يكن بها سوى شارع رئيسي واحد يصل وسط المدينة بالبركة إحدى ضواحيها، رغم أن المسافة بينهما لا تزيد عن كيلومتر ونصف إلا إننا كنا نعتبرها سفرا كلما اضطررنا لقطعها، أما عدد سكانها انذاك فلا يزيد عن عدد سكان حي في ضواحي مدينة كبيرة، الا انها كانت بالنسبة لي مدينة كبيرة جدا قضيت فيها ربع قرن من عمري.
وتسهب السيدة خديجة الجهمي في وصف أسواق المدينة التي كانت كما تقول: الأسواق الوحيدة في ذلك الوقت التي يقبل عليها المشترين من كل المناطق مثل سوق الفندق وسوق الحشيش. والحديث عن سوق الحشيش حديث ذو شجون فهو اكبر أسواق المدينة ويقع وسط الحي على مساحة مربعة تقريبا، منه تمتد طرق تؤدى إلى شارعي سالم الزوبيك ومقام ولى سمى الشارع باسمه هو عثمان بحيح. كان السوق ولا يزال له اكبر الأثر في خيالي بل في حياتي، ففي ساحته لعبت، ومن الحوانيت التي على جانبيه ابتعت لاسرتى جل ما تحتاج له.
وتمضى السيدة خديجة في سردها الممتع الجميل لكل زوايا المدينة والأشخاص المعروفين بالمنطقة، في استدعاء حميم ومذهل ويعبر عن ذاكرة صافية وذهن متقد بالرغم من أنها سردت سيرة حياتها وهى متجاوزة للسبعين من عمرها الا انها تذكر تفاصيل حدثت معها وهى طفلة في السابعة من عمرها مع الجيران والاهل باسلوب عفوى ممتع يجعل القارئ يواصل قراءة كل تلك الذكريات المنهمرة لزمن اخر وعالم اخر وناس غير الناس بشغف وحب. وفي رواية دقيقة لتفاصيل اليومية في البيت والشارع وطريقة التسوق وانواع الاكلات التي كان تعدها العائلات في تلك الفترة الزمنية عبر لوحة بانورامية جميلة تعبر عن وعى مبكر منذ طفولتها بمجريات الاحداث السياسية حولها حيث تتحدث عن استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار، في عام 1931. كما ان وعيها المبكر وفطنتها وذكاءها سانده ما كانت تتحصل عليه من مجلات مهربة من مصر، لان حيازة المجلات كانت تهمة في ذلك الوقت، فكانت تطالع مجلة الرسالة، الثقافة، الأزهر، الاسلام، الاثنين، الدنيا، الكواكب، روز اليوسف.
ومع إطلالة عام 1934 تقول السيدة خديجة الجهمي: احضر لي والدي راديو كبير، نسمع عبره إذاعة مصر بصعوبة اثناء الليل، كما يصلنا بوضوح بث راديو بارى وراديو طنجة باعتبارهما مركزا دوليا.

* عمل النساء في البيوت

السيدة خديجة الجهمي في صباها
السيدة خديجة الجهمي في صباها

تسرد السيدة خديجة الجهمي لدور المرأة وعملها من داخل البيت في تلك الفترة الزمنية من عقد ثلاثينات القرن العشرين عند العائلات الليبية التي بدأت صناعات بسيطة تقليدية للأحذية والبلغ. والبلغة جمعها بلغ، والرقعة هي التي تنتعلها النساء وهى حذاء يصل الى ما تحت الركبة تشبه البوت او الجزمة ونص الرقعة، اما الصباط حيث تأتى النساء بالقطع المفصلة والمقصقصة من الجلود لتتحول بأناملهما بواسطة اداة ذات رأس حاد تسمى المشفة حيث تستعمل لحرم الجلد الذي يطرز فيما بعد بخيوط رفيعة من الجلد ذاته او بخيوط ملونة، بينما تقوم عائلة سيدى فرج بصنع اسرجة الخيول التي تطرزها النساء بخيوط من الذهب والفضة ليبيعها سيدى فرج في دكانه بسوق الحشيش. اما خالتي سعدة وبناتها وزوجة ابنها فهن جميعا في بيت اخر يصنعن الثياب الخاصة بالرجال من الصوف الذي يقمن بغزله ونسجه، كما تعمل نساء اخريات في صنع الجوارب من القطن او الجدائل المستعارة من الصوف المصبوغ باللون الاسود، كما ان هناك نساء اخريات يعملن في فن الدانتيل او الكروشيه الذي تصنع منها انصاف اكمام وياقات المريول، ذلك القميص القصير الذي يلبس تحت الزى الشعبى للنساء.

* شخصيات من معالم مدينة بنغازي

تورد السيدة خديجة الجهمي شخصيات شعبية معروفة بمدينة بنغازي في أوائل القرن العشرين محفورة في ذاكرة أهل المدينة الأوائل ومنها كما تتحدث السيدة خديجة شخصية محضية والتي تصفها بالقول: هي امرأة ضخمة الحجم تمشى كالمجنونة في الشارع تكلم نفسها ولا تؤذى احدا. وعبابودة ملامحه تشبه الصوماليين يلبس جلابية مفرطة الطول ينتعل صباطا او شبشبا ويرتدى فوق كل ذلك جاكبيتى. ثم تتحدث بصورة طريفة عن ثريا التي تقول عنها جاءت من البادية، لكنتها غريبة سمراء ذات تقاطيع رقيقة بوجهها استطالة تقترب في عمرها من الخامسة والثلاثين حلوة. وبطة المغنية اليهودية، زوجها خموس له دكان قبالة شارعنا يعمل لحاما وتسهب السيدة خديجة في الحديث عن كل شخصية بعفوية وطيبة وحياد وموضوعية كما رأتهم عين الطفلة وكما احتفظت بهم في الذاكرة عين المرأة الكبيرة.

* نشوب الحرب العالمية الثانية

تقول السيدة خديجة الجهمي في سيرتها الذاتية: عندما نشبت الحرب العالمية الثانية كنت في العشرينات من عمري، ولم أغادر مدينتي سوى مرتين، واحدة إلى القوا رشة والأخرى إلى قمينس. وتتحدث في مقطع اخر من الكتاب عن مغادرة عائلتها من بنغازي إلى منطقة القوارشة عند نشوب الحرب العالمية الثانية: غادرنا إلى القوارشة مع جدي البعباع حيث عملت هناك كممرضة متطوعة لأنني أتقن ضرب الحقن ومداوة الجروح وتضميدها. كان جدي يناديني مداعبا جيجا وهو اسم عجوز أرمينية كانت تحقن بالإبر وهى معروفة في أوساطنا الأسرية. كان هذا العمل تطوعي اى بلا مقابل فكيف نعيش أنا وامى واختى جازية وربيعة؟ لم يكن من المنطقي أن نكون في عنق جدي الذي يعول أربعة اسر غيرنا. عندها أخرجت آلة أو ماكينة الخياطة وبدأت العمل. لم يكن هناك قماش، لكن المظلات التي تسقطها الطائرات في الحرب الدائرة – وهى من نسيج الحرير الطبيعي وتخاط بشكل دائري – أوحت بالحل، فلم يكن من الصعب فتق الخياطة الأصلية وإعدادها قطعا من القماش، كما كنت أصبغها بالألوان وأفصلها إلى سواري رجالة وقفاطين، بذلك صار لدى الكثير من المال الذي لا يحقق اى شيء ففي السابق الألف فرنك يمكن المرء من شراء منزل الا انه في زمن الحرب لا يأتى برغيف خبز.

* سفرها الأول إلى مصر

بعد انتهاء الحرب رجعت السيدة خديجة الجهمي رفقة عائلتها إلى بنغازي ولكن والدها لم يرجع وإنما سافر إلى مصر، ثم توفت أمها بعد ذلك، وعاشت رفقة أختها ربيعة وجازية في بيت عمها محمد على دغيم، وطرأت عليها فكرة السفر لوالدها في مصر برفقة اختها ربيعة، فطلبت من عمها أن يصحبها إليه وكان يعدهم خيرا ولكنه لم يفعل. تقول السيدة خديجة الجهمي في سرد تفاصيل سفرها إلى مصر: قررنا أنا واختى ربيعة أن نسافر دون صحبته بل ودون علمه، خرجنا من البيت صباح يوم الخميس 1-11-1946 دون عدة ولاجواز سفر، بدون مال وبدون تقدير لمخاطر الرحلة التي عزمنا القيام بها من بنغازي عند الساعة العاشرة صباحا. كنت متنكرة في زى عجوز بدوية تضع غطاء على وجهها وتتوكأ على عكاز. وتروى السيدة خديجة الجهمي تفاصيل الرحلة الخطرة التي قضتها طيلة يوم كامل إلى أن وصلت إلى مصر، والتقت بوالدها ومكثت في بيته بعد أن اكتشفت أن والدها قد تزوج من امرأة مصرية، و أنجب منها أربعة أبناء.

في هذا الفصل من الكتاب تسترجع السيدة خديجة الجهمي رحلتها مع التعليم والقراءة حيث تذكر بأنها دخلت إلى المدرسة في سن السابعة اى في سنة 1928 وتقول عن تلك المرحلة: عندما بلغت السابعة من عمري رأى أبى ضرورة الالتحاق مع تلك القلة المدرسة، وبفضله انخرطت مع عشر تلميذات أغلبهن غير ليبيات، البعض أمهاتهن من تونس والبعض الاخر من أصول كريتلية، كنا ثلاث بنات ليبيات الاصل فقط. أختان يعمل والدهما قاضيا في الشق الشرقى من البلاد جاءتا من طرابلس هما بهيجة وسكينة ميلاد العرادى وأنا، رفض الناس دخولى الى المدرسة، ووقفوا موقف الهجوم على والدى، إلا إن أبى لم يكن يشابه أبناء جيله في نظرتهم وتفكيرهم تجاه البنات، عادة يصل عدد التلميذات الى 25 في الغالب، وما ان يصلن الى الصف الثالث حتى ينحسر عدد التلميذات، الى اربع أو خمس تلميذات فقط. مدرستنا عبارة عن بيت فيه عدة حجرات للدراسة، وهى ايطالية المنهج والادارة، تتخللها حصتان في الاسبوع للغة العربية وقواعد النحو والقران الكريم، درستها على يد الشيخ محمود بن مسعود، اما باقى العلوم مما يتعلق بتاريخ الرومان وجغرافيا إيطاليا والرياضيات، فتدرس لنا باللغة الايطالية. تبلغ مدة الدراسة خمس سنوات، تبدأ بأول وثانى تحضيرى ومن ثم اول وثانى وثالث ابتدائى، بعدها يتوقف سلم التعليم في بنغازى للبنات، اما البنين فتتاح لهم ثلاث سنوات اخرى للصنائع. انخرطت في فصول المدرسة الملوكية الابتدائية للبنات المسلمات، ولكنى توقفت عن تعليمى الابتدائى عامين امضيتهما في البيت ولم اعد اذهب للبيت، وصرت اطرز المحارم الخاصة برؤوس النساء، ثم عدت للمدرسة مرة اخرى حيث نلت الشهادة الابتدائية للصف الخامس وعمرى حينذاك 14 سنة.

* رسالتها إلى الزعيم الفاسيشتى موسيلينى

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن رسالة تطالب فيها موسيلينى بالرحيل وجيوشه عن ليبيا، بعثتها إلى مجلة (ليبيا المصورة) في عام 1939 ولكنها لم تنشر، عند ذلك تقول السيدة خديجة الجهمي راوية تفاصيل الحادثة التي أدت للتحقيق مع والدها: أعقبتها برسالة مفتوحة للزعيم الفاسيشتى موسيلينى أوضح فيها استيائي من وجود الاستعمار، وأعلن فيها عن رغبتي في طرده وجيوشه من بلادي. تقول السيدة خديجة هذا المقال عرضني لتعنيف أبى لي بعدما خضع لتحقيقات مرهقة.

* رحلتها الثانية الى مصر

تقول السيدة خديجة الجهمي عن سبب سفرها مرة ثانية إلى مصر بعد عودتها منها: كنت متحفزة دائما لاكمال تحصيلي العلمي، خاصة بعد ما عاد والدي إلى ليبيا فسافرت في 10/8/1952 الى مصر مرة ثانية، برفقة أختي ربيعة مع ابنتها سعاد البالغة من العمر أربع سنوات وأقمنا في بيت أقارب لنا في القاهرة، هناك بدأت أبحث عن عمل بعدما تعرفت على صديقة تدعى إنصاف سرى، وهى زوجة منصور باشا فهمى التي تعد أول امرأة في مصر كلفت بإدارة المدرسة السنية حيث طمأنتني بأنها ستتوسط لي لدى وكيل وزارة التعليم لأعمل كمعلمة وأواصل تعليمي. استقبلنى المعنى واسمه جعفر وسألني عن المؤهل ؟ قلت: خامس ابتدائي ايطالي وبمجاملة المصريين المعروفة أضاف أنا مقتنع بأنك أفضل من أية مدرسة هنا إلا إن الملف يحتاج لـ .. قاطعته بشكرا وخرجت.
تمضى السيدة خديجة الجهمي في سرد مسيرة أيامها في مصر وبحثها عن العمل إلى أن قادتها المصادفة للعمل خياطة في بيت الممثلة ليلى رستم وهى المذيعة المصرية في الإذاعة الانجليزية وخريجة الجامعة الأمريكية التي عرفت بجمالها وثقافتها العالية، وأكملت السيدة خديجة الجهمي دراستها فخاضت امتحان الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية.

* نادي الشباب الليبي

كان لدى السيدة خديجة الجهمي نشاط وافر وعدم رغبة في الركون للسكون والرتابة في حياتها، وذلك يتضح من خلال نشاطها الذي وزعته بين الدراسة والعمل، ولم تكتف بذلك بل انضمت لنادي في مصر اسمه (نادي الشباب الطرابلسى)، كما تقول ثم تغير اسمه إلى (نادي الشباب الليبي). تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن هذا النادي بالقول: كان النادي يضم فريقين، فريق يدرس في الجامعات المصرية، والاخر في الجامع الأزهر الشريف، ويخيل لي انه كانت بينهما بعض الحساسية، ففي كل يوم خميس من كل أسبوع أتردد على هذا النادي، فوجئت بأن الجمعية العمومية تعقد اجتماعها لاختيار أعضاء لمجلس الإدارة وبأنهم انتخبونى للرئاسة ضد مصطفي التريكى. اعتذرت ولم يقبل اعتذارى الجامعيون الذين يمثلهم: محمود كامل المقهور، منصور الكيخيا، شوقى كانون، عثمان الكاديكى، أحمد نجم، الدغيس، وغيرهم. أما الازهريون فيمثلهم: محمد التركى التاجورى، مصطفي التريكى، واخرون. بعد التصويت فاز مصطفي التريكى مما أعفانى من هذه المهمة.

* محاضرة لها عن المرأة تثير معركة

الراحلة خديجة الجهمي
الراحلة خديجة الجهمي

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن محاضرة القتها في النادى اثارت معركة بين الطلبة الجامعيين وذوى التوجه الاسلامى المتشدد. تسرد السيدة خديجة الجهمي تفاصيل ما حدث من خلال هذه الفقرة في الكتاب: في زيارة لى للنادى أقترح على من في النادى إلقاء محاضرة، رغم انى لست مستعدة لها، لا ثقافيا ولا علميا، فأعددت كلمة بسيطة قلت في اولها انى اثبت وجود اختكم الليبية بينكم وهى بعنوان المرأة في الاسلام، كتبتها فيما يقارب ثلاث صفحات جمعت بعض معلوماتها من المراجع، وبينما انا في منتصف المحاضرة دخل الشيخ … وقاطعنى بالقول: مع احترامى للآنسة خديجة الجهمي، لعن الله قوما ولوا امرهم امرأة، ونسج على هذا المنوال لمدة ساعتين حتى احتدم الخلاف بين الفريقين إلى حد الاشتباك. كان كامل المقهور من ضمن اثنين أو ثلاثة يحاولون فض الاشتباك وإصلاح الموقف الذي عرفت فيما بعد أن أحدهم أخبره بأن خديجة قالت بأن المرأة يجب أن تكون قاضيا وحاكما الخ .. رغم انى كنت أدعو لأن تعرف وتتعلم المرأة القرأة والكتابة.

* زواج السيدة خديجة الجهمي وطلاقها

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن زواجها بالقول بانه كان نكتة. وتسرد قصة زواجها بالقول: تزوجت من رجل فاضل، سورى الجنسية، مقيم في مصر اسمه محمود خليل السباعى، وهو ارمل له ولد وبنت احببتهم واحبونى. وتتحدث السيدة خديجة عن العوامل التي دفعتها لهذا الزواج منها ان اقامتها في مصر كانت مهددة، فاضطرت لان تتزوج من الرجل صاحب مشغل الخياطة الذي عملت فيه. وتقول في فقرة اخرى: استمرت هذه الزيجة عاما واحدا تقريبا، لم تتحقق فيها أمومتى حينما وضعت بنتين توأمين ماتا فور الولادة. وعندما توفي والدى اردت العودة الى ليبيا، لكن زوجى ابقانى هناك، ثم قررت العودة بدونه لأنه كان يتابع قضايا تتعلق بمحلات يملكها في مصر، فلم أنتظر مرافقته لى وعدت الى ليبيا. وتحصلت بعد ذلك على طلاقها منه.

* مشكلة رجوعها للعمل في التعليم

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن المعاناة التي تعرضت لها بعد عودتها من مصر التي قضت خمس سنوات فيها، ومعها شهادة الثقافة والشهادة الاعدادية، ولكنها تفاجأت بأن المدة التي تغيبت فيها عن عملها بالتعليم ستعيدها لدرجة الصفر فرفضت العودة للتعليم.

* ثانى صوت نسائى في الاذاعة في عام 1956

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن عملها بالاذاعة من خلال العرض الذي قدمه لها الاستاذ محمود للعمل في الاذاعة ولكنها ترددت مخافة رفض عائلتها، كما تقول في هذا المقطع: لم أخبر أحدا بهذا العرض، حتى جاءتنى السيدة حميدة العنيزى تقول لى لماذا التشدد في الرفض اليس افضل من التعليم بثمانية جنيهات؟ فقلت لها: تعلمين بأننى أتحصل بالخياطة على مبالغ اكبر ولكن لن أعمل بالاذاعة. قالت: لكن جدك البعباع موافق. قلت: ولكن عائلة ابى لن يوافقوا.
بذلك التدخل من حميدة العنيزى بدأت العمل في الاذاعة، ولكن عائلة عمى لم تكن راضية عن عملى كمدرسة فكانت مجازفة كبرى دخولى للإذاعة. حينها كان ابن عمى عبد القادر شابا متحمسا فقال مهددا: نخش عليها في نص الليل نقبض روحها. فلم أخف، وفكرت ثم ذهبت الى عائلة عمى رحمهم الله: تعال اقتلنى اما تهددنى لا. فخجل وقال: حشمتينا يقولوا الناس بنت عمك تخدم في الاذاعة. قلت له: تعال وتبعنى واحكم.
وتسرد السيدة خديجة الجهمي دخولها الاول للإذاعة في بنغازى والتي كان المسؤول الاول فيها مستر فليشر السكرتير الاول بالسفارة البريطانية، ثم قيامها بتقديم برنامج (اضواء على المجتمع) الذي استمر لمدة 18 عاما بعد ذلك، واصبحت اول مذيعة تقرأ الاخبار في الاذاعة الليبية، واول من اعد برنامجا يذاع على الهواء للأطفال بعنوان (ركن الاطفال). بعد ذلك توالت البرامج التي قدمتها في الاذاعة:
صور من الماضى يتحدث عن سيرة المجاهدين – سل طبيبك – ندوة الاذاعة – اسهر معانا – ربع ساعة – يا فتاح يا عليم – صباح الخير – فكر معى – ركن المرأة – من حياة الناس – جولة الميكرفون – لقاءات مع الفنانين العرب، بالاضافة لاعداد الكثير من التمثيليات الاذاعية.

* دورة اذاعية في تونس

تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن الدورة الاذاعية التي تم فيها إيفاد ثلاثة عشر رجلا وهى العنصر النسائى الوحيد بينهم في عام 1960 والتي استمرت لمدة 100 يوم حيث سافرت اولا من بنغازى الى طرابلس، ثم من طرابلس الى تونس وتتحدث بروح انسانية جميلة عن لقاءها بمدير الاذاعة الشاذلى القليبى وتدريبها رفقة المذيعين والمذيعات من تونس وعن لقاءها بالرئيس التونسى الحبيب بورقيبة.

* إقامتها في طرابلس

بعد عودتها من تونس إلى بنغازي وجدت ان الأسرة قد قررت تزويج أختها ليلى، وهى لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، فعارضت ذلك ولكن الاسرة لم تأبه لذلك، فقررت السفر والعيش مع أخيها بالرضاعة منير البعباع رفقة زوجته وأولاده، وتتحدث في هذا الفصل عن بداية عملها بالإذاعة في طرابلس وعن اصطدامها بالرفض من قبل العاملين من الرجال بالإذاعة لها، إلى أن استطاعت بإخوتها واحترامها أن تكسبهم كأخوة، ثم تتحدث عن مشكلة لهجتها البنغازية ومحاولة إزاحتها من البرامج، وتتحدث عن حادثة طريفة لذلك كما تذكرها في سيرتها الذاتية: كلفني المراقب أن أتولى (ركن المرأة) بسبب أن المذيعات الموجودات كن يتعاركن عليه فالخلاف حوله قائم بصورة دائمة سواء في اذاعة بنغازى او طرابلس. ومن ضمن فقرات هذا الركن الذي توليته لمدة عشرين يوم فقط فقرة بعنوان ايش ناكلوا بكرة وصلتنى على اثره رسالة رسمية مضمونها الاتى: لازم تحترمى المجتمع الذي تخاطبينه. المفروض مادمتى تتكلمى باللهجة الدارجة ان تقولى شن ناكلوا غدوة مش كيف ما تقولى.

* نظمها للزجل والشعر الشعبى

نظمت خديجة الجهمي كثير من الزجل الشعرى كما تتحدث في سيرتها الذاتية ولكنها لم تحتفظ بالكثير منه مكتوبا ولكنها اوردت في كتابها قصيدة (نصيحة) عن ضرورة تعليم الفتاة وعدم منعها من القراة والكتابة، باعتبار ان ذلك يعمل على تقدم المجتمع، بالاضافة لكتابتها لكثير من كلمات الاغانى وبذلك هى تعتبر اول امراة ليبية كتبت كلمات اغانى، ومنها اغنية نور القلب والجوبة بعيدة، وغيرها من االاغانى الاجتماعية واغانى الاطفال.

* اصدارها لأول مجلة ليبية عن المرأة

تولت السيدة خديجة الجهمي الاشراف على اصدار مجلة المراة في 5/1/1964 وتعاون معها من المحررين رباب ادهم، عمر الجعفرى، عبد الله القويرى، يوسف الشريف، كامل عراب، محمد عكاشة، محمد غضبان، واخرون ثم التقت بعد ذلك بصديقة عريبى، فوزية بربون. وفي لمحات بارقة قصيرة تتحدث السيدة خديجة الجهمي عن باقى الصحفيات اللواتى التحقن بالصحيفة في بداية صدورها وكن من المؤسسات لها، ومنهن من اصبحت اسم معروف في عالم الكتابة القصصية والروائية تقول عن كل اسم منهن:
مرضية النعاس: كانت موظفة في المطبوعات ولكونها ام لاطفال وتقيم في طرابلس بعيدا عن اهلها واهل زوجها، طلب منى زوجها ان تعمل معى وهى قلم جيد
نادرة العويتى: جاءنى اخوها صبرى الذي يعمل معنا في المطبوعات وقال لى اريدها ان تعمل ولو بدون مقابل.
شريفة القيادى: جيدة وجدية جدا.
نزهات القريتلى: كانت تجيد الايطالية أكثر من الايطاليين أنفسهم.
زهرة الفيتورى: جاءت بعد عام من صدور المجلة كطباعة في البداية، حيث كان والدها يعارض عملها اخذتها معى والحقتها بدورة تصوير فوتوغرافي لتصبح مصورة صحافية بالمجلة.
ثم تسرد السيدة خديجة الجهمي تفاصيل العمل بالمجلة الذي كانت تقوم به، بالموازاة مع عملها في الاذاعة المسموعة، واستمرارها في اعداد وتقديم برنامج اجتماعى معنى بحل المشاكل الاجتماعية للمستمعين من الجنسين، بعنوان (أضواء على المجتمع).

* تفاصيل العمل اليومي بمجلة المرأة

السيدة خديجة الجهمي
السيدة خديجة الجهمي (أرشيفية عن الشبكة)

تقول السيدة خديجة الجهمي في هذه الفقرة من الكتاب عن تفاصيل العمل بالمجلة: يوميا أتابع المجلة بالمرور على المطبعة لأرى المادة التي تمت طباعتها، حيث كان الجمع يدويا لا مرئيا وبعدها أذهب إلى مكتبي في المجلة بمجرد صدور العدد، أذهب للموزع في شارع الوادي، أحمل معي الأعداد في سيارتي لتسويقها وأحيانا اذهب للمطار لأرسل المجلة إلى بنغازي وسبها واتأكد من ذلك. كم تمنيت ان تصبح المجلة مدرسة وان تكون مجلة (المرأة) مثل مجلة الهلال.

* مجلة الامل

انبثقت مجلة الأمل كما تقول السيدة خديجة الجهمي عن مجلة البيت، كما اسماها الصادق النيهوم بعد قيام الثورة الليبية باعتبار أن لا تكون المرأة منفصلة عن الاسرة. وبدأت مجلة الأمل في 22/6/1975 واستلمتها لطفية القبائلى مع زهرة الفيتورى ومحمد الزوواى.
بكل هذا الزخم التاريخي، للحياة الشخصية، والمهنية للسيدة خديجة الجهمي ينتهي الجزء الأول من كتاب السيرة الذاتية لها، الذي صدر منذ أكثر من عامين. ولقد قصدت أن اعرض لهذا الكتاب بهذا الشكل المفصل وحاولت لملمة أهم، المحطات المذكورة في هذا الكتاب الجميل الذي يستحق القراءة، لأنه يتحدث عن امرأة ليبية كافحت وناضلت، من اجل أن تتعلم وتنشر العلم والتعليم ليس من اجل المرأة فقط، كما يعتقد البعض، وإنما كافحت من اجل مجتمع بكامله، حاربت ذهنية الأعراف والتقاليد، التي كبلت كل من الرجل والمرأة، وكانت رؤيتها ومبدأها الذي سارت عليه هو التعويل على التعليم للجنسين باعتباره الطريق الوحيد كي ينهض المجتمع، وينفض عنه غبار الافكار البعيدة عن روح وجمالية الاسلام الذي لا يحارب التعليم والمعرفة، لذا لم يكن من الغريب أن تكون أول محاضرة عامة لها والتي أثارت معركة بين اتجاهين من التفكير، بعنوان (المرأة في الاسلام).

الا نحتاج في هذا الوقت من تاريخ بلادنا لأن نستضيء بمثل هذه الرموز الوطنية، التي مثلتها السيدة خديجة الجهمي التي لم تبحث عن مصلحتها الشخصية، أو اتخذت مناصبها الإعلامية، كوسيلة للربح المادي أو التكسب من خلاله، بل عاشت وسط الناس ووهبت نفسها لمساعدتهم عبر العمل الاذاعى والصحافي طيلة حياتها، فكانت بحق كما أطلق عليها بنت الوطن، لأنها عشقت الوطن فوهبت نفسها له. ومن المثير للأسى أنه لم يتم حتى الآن إنشاء متحف خاص بها كما أشارت واقترحت الباحثة في مقالتها المنشورة بالملحق الثقافي، وخاصة أن السيدة خديجة الجهمي كما تقول الباحثة تركت كثير من المقتنيات والأعمال المكتوبة الخاصة بها والتي لم تنشر في كتب حتى اليوم.

مقالات ذات علاقة

ثمانية عشر روائيا ولا صوت يطغى على صوت آخر

خلود الفلاح

كتاب جديد… يرصد معوقات إدارة الصراع ديمقراطيا في ليبيا

المشرف العام

في ذكرى النكسة.. قراءة في كتاب الرحلة الأصعب

عمر عبدالدائم

اترك تعليق