النص القرآني
المقالة

النص القرآني ديناميكيته وتراكم تأويله معرفياً

بوابة الوسط

فلاني عبدالرحمن الزوي

النص القرآني
النص القرآني

أعتقد بأنه من شبه المستحيل تحنيط النص في كتاب هو آخر الكتب السماوية، أو إطلاق لفظ تفسير عليه منذ أكثر من عشرة قرون مضت، ومن وجهة نظري أيضاً فإن كلمة التفسير قد تحمل في معناه جموداً وتحنيطاً ومحدودية لمعاني وآيات القرآن، والتي تبرز معانيها من خلال ديناميكية النص وتمحيصه والنظر في استشراقه للمستقبل القريب والبعيد وأخبار وأنباء الغيب، كما نشهد ونرى في مواكبة التطور البشري. نحن نعلم بأن الكلام هو كلام الله نصاً وحرفاً ومضموناً، بينما ما أطلق عليه لفظ التفسير لا يمثل الاَّ اجتهاد صاحبه مع خالص نيته وقدر طاقته ووفق رؤيته ومحصلة ما حوله من أقصى درجات سلم المعرفة في الكون والأنفس اللتان جعلهما الله البوصلة والمنظار كدليل وآية على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق مع الديمومة والاستمرار في إثبات هذه المعجزات كلما خطت البشرية وارتقت درجة على سلم التطور والتقدم وحتى قيام الساعة. (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)). صدق الله العظيم. سورة فُصلت.، وطالما أن الذي فسر هو ليس أولى وأحق من ذات المتكلم ذو الجلال والدوام والكمال والمنزه عن أي نقص وعن الخطأ والنسيان والاشتباه ((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) سورة الإسراء.

إذاً ومن هنا وبناءً على ما سبق كان لزاماً علينا أن نضع وبكل جرأة وتمييز واحد من الاثنين في المكتبة كتراث ثقافي وكتاب تاريخ لحقبة معينة وربما مرجع تاريخي لمن أراد ذلك، وأن يكون الآخر في صدورنا وعقولنا ومنهجنا وبين أيدينا نهتدي به ونحلل معانيه ونستقرئ ونقارن مخرجاته في كل حين، ((فإما النص المقدس المنزه أو التفسير الذي يحتمل الخطأ والنسيان والزيادة والنقصان والتحريف والتزوير))، الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظ النص في الكتاب ولم يتعهد بحفظ أي كلام سواه قطعاً، هذا لا يعني إطلاقاً أن نترك أو نغفل عن سنة الرسول عملاً أو تبياناً لما في الكتاب إطلاقاً ليس هذا ما أعنيه أو أود الإشارة إليه ولن أقبل أن يقولني أيٍ كان ما لم أقله ولم أكتبه أو أنطق به.

علينا إذاً أن نتخطى كل العقبات والقيود والتلقينات المتكلسة حول النص لفظاً دون تحليل وتدبر والتي تعيق انطلاقنا نحو المستقبل على أن يكون القرآن هو المرجع والمرشد بما فيه من آيات وإعجاز، وسنة نبينا المؤكدة والتي ليس فيها أي شك أو شائبة تتعارض مع آيات القرآن الحكيم، وأن نجعل من عمل من سبقونا تراثاً وتاريخاً، وتكون كل تلك الأعمال والتفسيرات عبارة عن صفحة دوّن عليها الباحثون والمفسرون أفكارهم وأقصى ما وصلت إليه طاقة فهمهم واستيعابهم وما وصل إليه إدراكهم آنذاك، وبأقصى ما لديهم وما هو بين أيديهم من وسائل للبحث والتدبر.

من خلال هذه المفارقة الأولية والظاهرة للعيان ومع أول رخة من رخات غيث المعرفة وانقشاع غيمة الجهل عن العقل، الذي وهبه الله لنا للتدبر ولكي نروي ظمأنا من معين العلم من كل نهر من أنهار المعرفة، وليتم غسل الغبار عن الذاكرة فتصبح ناصعة نظيفة ومتفتحة، ثم نقوم بشحذها كلما تبلدت على صخرة الإرادة والتجديد التي أصبحت اليوم صلدة وأكثر لمعاناً وبريقاً يوماً بعد يوم وقرناً بعد قرن، بعد أن تم تطهيرها من مخلفات الغربان والبوم والسحالي.

إن الإقدام على تفقه وتدبر القرآن والغوص في أعماقه لا يزال محاطاً بالأسلاك الشائكة وما زال يرمز له بعلامة منطقة الإشعاع الذري الممنوع الاقتراب منها، بدلاً من أن يكون بؤرة لإشعاع العلوم والمعارف والالتفاف حوله والتعايش به وداخل مفرداته، وأن تُرفع كل الأسلاك الشائكة وعلامات المنع المختلق من الغوص في أعماق القرآن والتدبر فيها والتدرب على كشف أعماقه وما فيها من درر وكنوز وجواهر ثمينة.

إن معظم المحاولات السابقة في التعامل مع القرآن كانت محدودة تارة وعاجزة تارة أخرى مع سبغ بعض المبررات الغيبية والتي ليس لصاحبها حجة ولا أساس يستطيع طرحه، ولم تتعمق تلك المحاولات في عظمة هذا الكتاب وما فيه من كنوز وآيات، في حين أشار
إليها الخالق بوضوح وأمر بالنظر إليها وتدبرها وترقبها والبحث عنها، إلا أنه وللأسف الشديد تعرضت رسالة الإسلام وتم استهدافها وطعنها في مقتل مبكراً في فجر الإسلام وبعد قرنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما تحول الدين بقرآنه إلى ساحة جدل سياسي وتصفية حسابات واستعادة زعامات قبيلة أو عرقية وتم تقديم التفاسير والتأويل على صريح النصوص والآيات الواضحة وحتى المحكمة أحياناً، وظهر مصطلح ولقب السلاطين بدل الخلفاء واختلقوا وجود مطية يكتسبون من خلالها شرعية الحكم تحت مظلة القرآن وباسم الدين وتشريع الإسلام، ونسبوا الميراث على أنه للحكم من بعد وفاة الرسول وتناسوا أن الميراث الذي تحدث عنه القرآن لم يكن كذلك، ودخل على ذاكرة وعقل الفرد المسلم وفي مخيلته صورة مفادها طالما أن سليمان وداوود كانوا ملوكاً وأنبياء في أممهم، فإن ذلك النموذج السابق لم يكن في منأى أو معزل من أن يصل صداه إلى آذان الفرد في المجتمع المسلم مع تداخل الثقافات بين الأمم والشعوب الذي لم يكن هناك مفر منه، فما كان عليه شأن اليهود في علاقتهم بالرسالات السماوية وما كانت عليه مواقفهم وعلاقاتهم بأنبيائهم في تلك الحقبة وما تلتها بعد بعثة موسى عليه السلام، وكيف كان السجال بينهم وبين أنبيائهم وبأي وسيلة حاربوهم وحاولوا الطعن في مصداقيتهم ودحض رسالاتهم ومعالم نبوءتهم، ما فتأوا أن عملوا على استنساخ وتكرار نفس النموذج مع محمد وأتباع رسالته لكي يجدوا لأنفسهم حجة ومبرراً في ما فعلوه سابقاً مع الرسل والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم،. من هنا ولهذه الأسباب كان هاجس وهدف رهبان اليهود والقساوسة هو هذا السؤال المفصلي والخطير.

((كيف يمكن لنا أن نجد ما يحيد بالمسلمين عن جوهر ومعجزة عقيدتهم طالما أن معجزة رسالتهم هذه تكمن في كتابهم بذاته ومن داخل سطوره وآياته وسوره، وطالما أن هذا الكتاب لن يُحرف ولن يتم تزويره كما كان شأن الكتب السابقة، حيث وعد الله وتعهد علانية بحفظه بنص القرآن، وأن معجزة هذا القرآن هي ليست مثل عصا موسى ولا يده وليست مثل بلسم عيسى في إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بل هي أخبار وأنباء وعلامات في الأنفس والكون))؟؟؟.

هذا السؤال هو مركز الهدف ووجهة فوهة البندقية لتنطلق منها الرصاصة إلى قلبه أو رأسه، وهذا لم يكن جديداً بل متجدد فكم من محاولة للنيل من محمد صلى الله عليه وسلم بالمجاهرة بالطعن والتكذيب تارة وأخرى بالسحر ومحاولة التسميم وتارة مقارعة وتساءل لو أنه نبي أين معجزته كما كانت معجزة موسى وعيسى؟؟؟ فمن هذه الزاوية ظلوا يسربون الخرافة وينسبون له الأحاديث المزورة التي لا معنى لها وأحياناً حتى تتعارض مع العقل ونصوص القرآن، ثم توغلت وتسربت بعض منها إلى كتب الحديث والفقه وتم تصنيفها اضطراراً إلى ضعيف ومشكوك فيه وضعيف السند وغيرها من الثغرات الكثيرة، في حين أن القرآن لا توجد فيه ثغرة واحدة ولم يستطيعوا إحداث ذلك رغم كل محاولاتهم. لقد وضعوا نُصب أعينهم للنيل من محمد ورسالته وعرفوه بأنه النبي قبل بعثته وما حديث من حوار مع الراهب بحيرة وعبدالمطلب جده إلا دليل على ذلك. فركزوا على حرب وتشويه رسالته منذ فجر الدعوة وانطلاق أول آذان لها في سماء مكة.

إننا على علم ودراية بأن كل تلك المعجزات السابقة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن لا في صحف موسى ولا في إنجيل عيسى التي أنزلت إليهم بل كانت معجزات منفصلة بذاتها كانت واختفت مع موت الأول ورفع الثاني إلى السماء، ناهيك عما قبلها مثل سفينة نوح التي بناها الله بيديه الكريمتين وبنص القرآن، أو ناقة صالح التي نهضت من الأرض، أما معجزات النبوة عند محمد صلى الله عليه وسلم فهي تكمن في عمق وعظمة وتراتيل وترتيب ونسق ومعجزات آيات القرآن وهي دائمة متجددة تواكب الكون وتطوره وما إن تظهر حقيقة علمية إلا وتجد لها أصلاً وجذوراً ومقدمات جلية وواضحة سبقت في نص القرآن وهي تنطلق من قاعدتين اثنتين.

القاعدة الأولى في آيات القصص والأخبار التي أوردها القرآن مفصلة بدقة متناهية خالية من أي أخطاء وأكثر مما هو عليه الحال في الكتب والرسلات السماوية القديمة والتي بين أيديهم بنصوصها والتي تم حجبها من الوقوع بين يدي محمد فكانت رسالته ماحقة ساحقة وداحضة لأي ادعاء أو تكذيب.

القاعدة الثانية راجعة إلى الربط الوثيق بين العقل الإنساني الذي نفخ الله فيه من روحه يوم أن سواه، وبين ما في القرآن من آيات تجارب عملية وبراهين تحترم مستوى العقل والإدراك الذي وصل إليه الإنسان بعلم من خالقه على مستوى سلم الإنسانية وتطورها وانسلاخها التدريجي من البهيمية والحياة البدائية الأولى كما كان عليه في أمم ساحقة، تلك الدلالات والمعجزات يتم الوقوف عليها ومعايشتها بصفة دائمة وباستمرار لعملية التفاعل الفلكي والجيولوجي والبيولوجي والتقني والاختراعات والابتكارات في شتى مناحي الحياة وبما يجعل الإنسان المؤمن يزداد شكراً وثناءً لخالقه وعمقاً إيماناً لا يتزعزع بربه كما كان عليه في الأمس واليوم وحتى قيام الساعة،. تلك المعجزات تتحقق في كل فترة من الزمن وتقع أيدي العلماء والمخترعين على واحدة منها يتم اكتشافاتها سواء في خلق الإنسان أو في آفاق السموات والأرض ثم نجدها نحن بعد ذلك مذكورة دلالاتها في القرآن بوضوح وجلاء.

نحن اليوم أمام تحدٍ كبير لم يبدأ اليوم ولكن بدأ هناك وراء عدة قرون من الزمن، منذ ذلك اليوم الذي أقنعونا فيه بأن كلمة الحق والإنصاف قد تكون لحماً محرماً لوكها باللسان مثل أكل لحم الخنزير، في حين إنه لا حرام إلا ما حرمه الله علينا نصاً ومضموناً اخبرنا به الله وقال حُرمت عليكم إلى آخر الآية وكما عددها.

حين أقنعونا بأن النقد البناء ومحاولة أخذ الدرس والعبرة والعظة من حروب طاحنه على مقعد السلطة والتي حصدت عشرات الآلاف من الأرواح وخلفت وراءها إعداداً أكبر من الأرامل وأضعاف مضاعفة من اليتامى في نهاية العقد الثالث من الهجرة، بأنها حرب لا يجب الخوض فيها أو انتقادها ولا حتى البحث أو الطعن في أسبابها لأنهم جميعاً كانوا يحاربون لأجل إعلاء كلمة الله، ولأن قادتها وجنودها لا يجب ذكرهم إطلاقاً حتى باللوم أو البحث في مخالفة صريحة لنصوص آيات القرآن التي أمرتنا بأن نقاتل الفئة الباغية. ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) صدق الله العظيم. سورة الحُجرات))،.

ولكن سرعان ما أقنعونا بأن كلا الطرفين كان على حق وعلينا أن ننظر إلى نواياهم وليس إلى جريرة أفعالهم، وكأنها لم تكن بينهم فئة باغية، في حين عندما قُتل عمار بن ياسر وهو يحارب في جيش علي على يد الفئة الباغية، عندها أرادوا أن يحددوا من هي الفئة الباغية وهل هي التي قتلت؟. فنطق ناطق من جيش معاوية وقال لا. إن الذي قتل عمار هو من أتى به لهذا لحرب وليس نحن إذاً هم الفئة الباغية وليس نحن!!! هكذا كانوا يلوكون الكلام وهم أصحابه،. وفي هذا البحث والنقد والتقصي سوف يظهر الكم الهائل وحجم وما تركوه وراءهم من أهوال وأشلاء وموتى ومعاناة للأطفال والنساء وللأمة. ولأمر لا يزال على نفس النهج والمبررات الموبوءة بفيروس السلطة ونهم المال وتقنين الدين والدين والإسلام والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم في حِل وبراء منهم.

حان الوقت بان يكون كتاب الله ونصوصه وآياته بين أيدينا في كل لحظة، منه نستقي ومنه نأخذ وكأننا أمام نقل مباشر ومستمر دون انقطاع وحتى يوم القيامة لتعليمات الله الآنية والدائمة نتابع ما يجري ونترقب ما سيحدث ونقف على ما حدث بالأمس، ولكن أن نرتهن إلى إرث أكله الزمن وتخطته البشرية في كل شيء فهذا شيء يدعو إلى الحزن والأسى والمرارة والألم. فإن الذين كتبوا تلك التفاسير كانوا حتى عهد قريب لا يزيد على خمسة عشر قرناً من الزمن كان أجدادهم يطوفون عراة حول البيت وكانوا يتغوطون المنخفض من الأرض في العراء لقضاء الحاجة تبرزاً أو تبولاً. ولكن نحن اليوم لسنا على بدائية الحياة تلك وليست عقولنا ومصادرنا كذلك وما كان بالنسبة لهم هو ضرب من السحر أو رمي بالجنون أو نعت بالكفر كما حدث مع جاليليو ورهبان الكنيسة، فإنه اليوم حقائق شاخصة بين أيدينا تخدم وتعمل على راحة وسعادة ورفاهية البشرية في كل مجالات الحياة وفي كل زمان ومكان، والتقنيات التي بين أيدينا اليوم هي بعض من مئات الاختراعات وأحدث المبتكرات وما وصل إليه العقل البشري بفضل نفخة الله في الإنسان بشيء من روحه يوم أن جعله كذلك، وعندما قال للملائكة اسجدوا لآدم، بسبب تلك النفخة وهذا العقل وتلك الأوامر التي لم يكلف بها أي كائن آخر على وجه الأرض غير الإنسان، وإن هذه القدرات والملكات هي جزء من علم الله الذي علم به الإنسان ما لم يكن يعلمه عندما قال وعلم آدم الأسماء كلها دون سائر المخلوقات. وفوق كل ذي علم عليم.

مقالات ذات علاقة

كهف الضبعة

منصور أبوشناف

إنساني جداً!

حسن المغربي

مقالات قصيرة.. في الأشباه والنظائر

محمد دربي

اترك تعليق