المقالة

مابعد الحداثة وانعدام الأصل

أصبح تعبير “مابعد الحداثة Postmodernism” منذ ثمانينيات القرن الماضي، تعبيرا جاريا على ألسن وكتابات المثقفين عموما، وسرى هذا مفهوم هذا التعبير في مجالات عدة، كما انبثقت منه “مابعديات” أخرى، من مثل مابعد البنيوية، ومابعد الاستعمار، ومابعد الماركسية.

لن نخوض هنا في تفاصيل مفهوم مابعد الحداثة والتنظيرات الدائرة بشأنه، ولكننا سنركز على بعد واحد نعتقده بعدا جوهريا يميزه. وهذا البعد المميز هو البعد الافتراضي الذي دخل في حياة الناس اليومية. ومن وظيفة هذا البعد الافتراضي ما أسميه “طي الزمن”*.

لا شك أن عملية الطي أخذت تمس الزمن منذ أن أخذ الإنسان يستخدم الخيول والإبل في عمليات التنقل، ثم ازداد هذا الطي قوة مع اكتشاف قوة البخار واستخدامها في السفن ثم في القطارات بعد اختراع القطار. وازداد مع اختراع السيارات وتطويرها، ومع اختراع الطائرات.

لكن الطي الأوضح والأسرع حدث مع اختراع الهاتف، حيث صار بإمكان شخصين، أحدهما في ليبيا، مثلا والآخر في الصين أو أمريكا، أن يتحادثا مباشرة وفي نفس اللحظة. في الواقع هما موجودان في زمنين مختلفين تفصل بينهما ساعات. لكنهما يلتقيان في نقطة خارج الزمن الواقعي. يلتقيان في “زمن افتراضي”. وبالطبع، ازدادت هذه الافتراضية تمكنا مع اختراع الهاتف النقال والانترنت.

إذن، فالافتراضية هي جوهر مابعد الحداثة. وتقتضي هذه الافتراضية عدم وجود نسخة أصلية. أي انتفاء وجود أصل.

“وطبقا لجين بودليار Jean Baudrillard فإنه، بالنسبة إلى المجتمع بعد الحديث، لا توجد أصول وإنما مستنسخات فقط – أو ما يسميه صورا زائفة simulacra-” ويضرب مثالا “بموسيقى الأقراص المدمجة أو الأشرطة حيث لا يوجد “أصل” مثلما هو الحال مع الرسم. ما من تسجيل يعلق على الجدار أو يحتفظ به في سرداب، وإنما توجد فقط نسخ، بالملايين، متماثلة كلها، وكلها تباع بنفس المبلغ تقريبا. إن نسخة أخرى من “الصورة الزائفة” لدى بودليار ستكون هي مفهوم الواقع الافتراضي virtual reality، وهو الواقع المخلوق بواسطة النمذجة simulation حيث ما من أصل. وهذا واضح على نحو خاص في ألعاب الكومبيوتر وما يخلقه من نماذج”**.

يمكن ضرب مثال مشابه بالرسائل الإدارية التي تطبع على الحاسوب. ففي عهد الآلة الكاتبة كان ثمة أصل للرسائل، وهو تلك الورقة الأولى في مجموع الأوراق التي تتألف منها الرسالة والصور. فالورقة الأولى تلامسها أصابع الآلة الكاتبة التي تحمل الحروف ملامسة مباشرة. أما “الصور” فتنطبع عليها الحروف عبر واسطة هي الورق الناسخ “ستنسل”. وكلما زاد عدد الأوراق-الصور كلما بهت لونها. أما في الرسائل المطبوعة على الحاسوب فكلها متماثلة. كلها صورة زائفة لا يوجد لها أصل. وحتى الرسالة التي يعتقد أنها أصل، وهي تلك التي في الحاسوب، فهي صورة ورقة. وبالتالي فهي نسخة افتراضية تحاكي ورقة لا وجود لها.

________________________________
الهوامش:
* عمر أبو القاسم الككلي، طي الزمن، http://alwasat.ly/news/opinions/98321?author=1
** Mary Klages, Postmodernism
http://www.webpages.uidaho.edu/~sflores/KlagesPostmodernism.html

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

كازينو

منصور أبوشناف

أين ليبيا التي عرفت؟ (8)

المشرف العام

بين المدنية والتدين 3/3

علي الخليفي

اترك تعليق