من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
المقالة

عن الفن التشكيلي والشعر

ثمة علاقة راسخة ومباشرة ما بين الشعر والفنون التشكيلية، هذا مما لا شك فيه ولا ينكره إلا غير عارف بالفنون، فالشعر قبل أن يكون شعرا هو نوع من أنواع الفنون الجميلة شأنه شأن الموسيقى والرقص والمسرح وغيره، والشعر يتماس مع الفن التشكيلي في نواحٍ عدة لعل أبرزها أنه وكما يتجلى في الرقص والموسيقى والقصة والرواية والسينما والمسرحية يتجلى في الرسم، فبعض اللوحات لفرط ما بها من جمال أو خيال أو دلالات ومعاني تكاد تحمل ذات اشتراطات تحقق الشعر إلى حد أننا قد نطلق عليها صفة القصيدة لأنها جميلة وحيوية وذات إيحاءات تماما كالقصيدة، فالشعر ليس ذاك المكتوب فقط والمُدون والمُترجم إلى كلمات، إذ يمكن أن نعثر عليه في جهات ونواحٍ عدة إذا ما أرهف المرء حواسه وتتبع دبيبه في الأشياء من حوله، ويمكن للشعر أن يلعب دور الرسم ويتقمص صفة اللوحة حين يكون ذو تلاوين جميلة وتكوينات إيحائية وصور نابضة بالحركة وترصيعات لغوية مدهشة.

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

إذن يوجد من القواسم المشتركة ما بين الشعر والرسم الشيء الكثير، هذا إضافة إلى الإفادة المباشرة من الآخر فيما يخص كليهما، إذ يفكر أول ما يفكر الشاعر عند اعتزامه لملمة نتاجه الشعري وطباعته في ديوان ورقي أو إلكتروني في الغلاف الذي هو عتبة أولى تصافح نظر المتلقي بعنوانه وتجنيس الكتاب و أسم مؤلفه وكذلك بتصميمه العام واللوحة التي تتصدره – في الأغلب -، ذلك أنَّ أكثر الشعراء يضعون لوحات فنية لدواوينهم يختارونها من بين ما هو متاح ويرون فيها عناصر جذب لعين القارئ ولربما تصوروا أنها قد تشكل مدخل فاره للديوان وتُعبر عما بداخله وتعزز ما فيه من شعر، فاللوحة حين يتم اختيارها بدقة قد تحمل بعض الدلالات التي يحرص الشاعر على إيصالها وتعكس معانيه، والغلاف الخارجي عند الشاعر والمصمم بأهمية ما في داخله من شعر، ولهذا يحرص كل منهما على انتقاء اللوحة المعبرة والأثر التشكيلي الفعال الذي يتضافر مع المعنى ويزيده رسوخا ويضيئه، وحتى يكون الأختيار موفقاً باعتقادي ينبغي الأعتماد على اللوحات الأنطباعية والرمزية والتجريدية التي تمنح قراءات ودلالات مختلفة وتحث المتلقي على إعمال خياله وتوسيع أفق توقعاته حتى يغتني المعنى، ذلك أنّ اللوحات ذات الموضوعات المباشرة أو المُعالجة بطرق وتقنيات واقعية تقليدية لا تؤدي هذا الغرض لأن إمكانية قراءتها محدودة ولا تتجاوز أحيانا ما تم رسمه والذي لا يحيل إلى خارجه.

وبهذا نخلص إلى أنَّ اللوحة التجريدية بألوانها وتكويناتها وشخصياتها المبهمة والمتخفية وفضاءاتها اللا متناهية تناسب أكثر تقديم الشعر الذي هو الآخر يعشق المجاز وارتياد الأفاق والذهاب بعيدا في سديم الخيال خاصة مع قصيدة النثر التي خلخلت نمطية الشعر وحركت جموده.

والكثير من الفنانين زاوج ما بين الشعر والتشكيل كونهما أقرب الفنون إلى بعض، فمن الطبيعي أن تجد الشاعر رساما أو الرسام شاعرا فقد يبدا الشاعر شاعرا ثم ينزلق إلى الرسم وبالعكس والأمثلة في الواقع كثيرة ولا بد للشاعر في هكذا حالة من أن يوظف خبرته في الشعر للرسم وبالعكس وثمة من اشتغل من الفنانين على قصائد بعض الشعراء واتخذ منها منطلقا لمشروعه الفني كما حدث مع بعض قصائد محمود درويش وقصائد الشاعر البحريني قاسم حداد مثلا، وهذا الفنان الحروفي المصري الراحل حامد العوضي عالج قصائد الشاعر أمل دنقل وفي مقدمتها قصيدة “لا تصالح” الشهيرة بحرفية عالية وإبداع قل نظيره، وعلى ذكر الحروفيات تجذر الإشارة إلى أنَّ فنانوا هذا النوع استفادوا استفادة مباشرة من الشعر حينَ ضمّنوه في لوحاتهم وارتكزوا على كلماته وعباراته التي وكما أسلفنا بها ما بها من الإيحاء والحيوية.

وعملية إرفاق نص بصري مع النص الشعري المقروء ميزة أتاحها الفيس بوك للجميع اليوم، وعلى الفنانين والشعراء استثمار هذه الميزة كما استُثمرت من قبل في الصحافة الورقية، إذ قلَّ أن يُنشر نص شعري خاصة في المجلات والصحف الثقافية المتخصصة دون أن ترافقه صورة لوحة تشكيلية أو قراءة بصرية من قبل رسام الصحيفة الذي يضع معادلا بصريا لكل نص عبارة عن تخطيطات ورسومات تنحو إلى الرمزية، والمتصفح لمجلة الناقد اللبنانية على سبيل المثال يجد هذا التقليد الذي تبنته الكثير من الصحف والمجلات ومن ضمنها المطبوعات الليبية في زمن مضى.

والشاعر النبيه هو من يعهد إلى فنان أو مصمم أغلفة متمكن لتصميم غلاف ديوانه، وثمة من يقوم بهذه العملية بنفسه، هذا عن التصميم الكلي أما بشأن اللوحة التي تتصدر غلاف الديوان فغالبا ما تكون من اختيار أو عمل الشاعر، ذلك أن تصميم الغلاف مهم جدا لاجتذاب القارئ لأن هذا الأخير سيضع حكمه الأولي بناء على الشكل الخارجي ولربما فعل ذلك دون وعي أو إدراك خاصة إذا ما كان الشاعر غير معروف بالنسبة له.

والتقاء الشعر والتشكيل في نقطة ما هو شراكة ضمنية وغير مُعلنة بين كل من فن الرسم وفن الشعر فالفنون وهو المُلاحظ، تأخذ من بعضها وتعطي – ولم تكن فيما أتصور – في يوم من الأيام منعزلة عن بعضها البعض، ففي المسرحية مثلا، نجد القصة والتشكيل والديكور والموسيقى والأزياء والإضاءة والشعر كما نجد في الشعر المشهدية والسرد والموسيقى وفي السينما جماليات الصورة والخدع السينمائية والحوارية والدراما وغيره، وهكذا مع بقية الفنون فالتنافذ والتراسل ما بين الفنون صفة أصيلة فيها وليست وليدة اللحظة.

ويحرص الفنان كثيرا على اختيار عنوان مميز وذو إيحاء للوحته بعد الفراغ منها وفي هذا الفعل تماس صريح مع الشعر، ولا ننسى ونحن ننحدر نحو نهاية المقال تلك الشعرية التي تنضح بها بعض الصور الفوتوغرافية التي هي كذلك فرع من فروع التشكيل.

ثم أن الكثير من الكلام أُثير حول تأثر الشعر بالأتجاهات التجريدية في الفن التشكيلي ونتيجة لاحتكاك الشعراء بالتجريديين أخذ الشعر يميل إلى التجريد هو أيضا وينسج على منواله إلى أن اكتُشفت قصيدة النثر التي نستطيع أن نعدها أبنا شرعيا للحراك الفكري الذي طبع العالم أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وفلسفة الفنون لم تكن بمعزل عن هذا المخاض والحراك.
هذا ما وددت قوله بخصوص علاقة التشكيل بالشعر .،،

مقالات ذات علاقة

حتّى لا ينفرط عقد العهد

إبراهيم الكوني

عام عودة عايدة

فاطمة غندور

تطور مفهوم الحرية في التداول العربي

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق