تطرقُ ذهن المطلع على الشأن الليبي في تناقضاته السياسية المختلفة بعد عام 2011، شجون كثيرة لعل أهمها: كيف تولد الإحساس بهذا الكيان الجغرافي الشاسع كوطن؟
وعلى الرغم من أن الإحساس المختلف بالكيان لم يتشكل عند المواطن الليبي إلا خلال العقود التي تلت فترة الاستقلال، حيث كان الكيان خلال فترة الاربعينات يمر بمخاضٍ خطير تشكل خلال بداية الخمسينات في كيان سياسي واحد وبنظام اتحادي (فيدرالي)
نعود هنا لقراءة كتاب (معنى الكيان، محاولةٌ نظرية لفهم الكيان الليبي) للكاتب (عبدالله القويري) الذي أصدره خلال الستينات من القرن الماضي، مُترصداً شجون الكيان الليبي، كخواطر متفرقة تجاه هذه الرقعة التي نسميها وطناً.
يبدو الكتاب كمقالةٍ واحدة طويلة عبر صفحات الكتاب (54 صفحة) والتي يستعرضُ الكاتب فيها جملة من المواضيع التي تمس الكيان الليبي في تلك الفترة .
نبدأ استعراض الكتاب من خلال هذه الكلمات التي يضعها (القويري) كنتيجةٍ مسبقة قبل عرضه لأي أفكار (فهذه المساحة الكبيرة الواحدة المترابطة، رغم اتساعها شرقاً وغرباً وجنوباً، ورغم وقوعها على مشارف الارتباط الحضاري ومشارف الحواجز الحضارية.
فهذا الترابط الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأ منذ فجر التاريخ وأمتد عبر مراحله جميعاً إلا في فترات التقطع والتغيير والصراع الذي ساد قديماً على مستوى المناطق وساد حديثاً على مستوى التكتلات ثم انعكس على مستوى المناطق والأفكار.
نقول أن هذا الترابط الاقتصادي والاجتماعي ظل يمثل الشكل الاساسي لهذا الواقع الليبي الذي اتخذ له كياناً سياسياً في إعلان الدولة المستقلة.)
اشتمل الكتاب على تسعة حقول، تطرق خلالها (القويري) إلى جُملةٍ من المواضيع التي نستعرضها من خلال إعادة قراءة الكتاب في ظل وجود متغيرات كثيرة تهددُ هذا الكيان الواحد بالكثير من المشاكل.
في الحقل الأول استدعى الكاتب من خلال مجموعة من الأفكار في سياقها التاريخي والجغرافي التي يمزجها بنتائج مباشرة، حيث يقول: (إذن فالوحدة الجنسية كانت منذ القدم، لم تتأثر بحضارات المدن التجارية إلا في قليل كما لم تتأثر بالتسلط الروماني الذي امتد على الساحل، وذلك لاتخاذه صفة القهر والاستعباد)
واضعاً اللمسة الأولى في تحسس الكيان الليبي من خلال طرحه: (وهناك تساؤل يقول بأن هذا الترابط لم يتكون بشكله الحالي إلا أثناء الاحتلال الإيطالي البغيض)، في إشارة إلى الإحساس الأول بالكيان الليبي ككيان واحد تولد قُبيل وبُعيد الاحتلال الإيطالي لليبيا، مُتلمساً دور المدن الليبية خلال فترة الحكم العثماني والاحتلال الإيطالي والتي يرى أن المدينة مثلت دور القهر المستمر، وإن كانت قبل هذه الفترات ظهرت (كمستقر حضاري) يقوم على الأساس التجاري وتبادل السلعي.
مُتطرقاً خلال حديثه عن (الوحدة الاقتصادية) لما اسماه (المستقر الحضاري): (فإن ليبيا مثلما كانت معبراً حضارياً، فقد كانت ف الوقت نفسه مستقراً حضارياً، فهي لم تكن حاجزاً حضارياً بل كانت معبراً تلتقي فيه الحضارات وتتفاعل من خلال الصراع، إذا لم تكن البلاد معبراً خالياً من الشخصية بل معبر له شخصيته تمثلت في التفاعل مع الحضارات الوافدة)
مستشهداً بالهجرات (الهلالية) التي انتجت نوعاً من (التفاعل الاقتصادي المتداخل)، مازجاً الظروف التاريخية والجغرافية والاقتصادية في بوتقة واحدة، مشيراً إلى دور التراث الاسلامي والطرق الصوفية ودعوات المرابطين.
في الحقل الثاني يناقش مصطلح (ليبيا هي دولة الواحات) في إشارة الصحفية الانجليزية
(نينا ابتن) مشيراً إلى أن (القول بظاهرة الواحة حتى وإن مثلتها المدينة الساحلية هي ظاهرة ارتباط وليست ظاهرة عزلة)
مفرداً لنقاش العامل الجغرافي الذي تناقشه بعض الدراسات في كونه يلغي العامل البشري، مؤكداً: (أن الإنسان لم يخضع لهذه العوامل بل قاومها بما اعطته البيئة من إمكانيات محدودة، ومارس رغم قسوة الظروف الطبيعية في أكثر الأحيان فعالياته الاقتصادية والاجتماعية، وأقام تظمه وقوانينه، كانعكاس لنشاطه ومحاولته الدائمة للسيطرة على واقعه بإمكانياته البسيطة)
في الحقل الثالث يناقش ما اسماه (التداخل الحضاري لمراحل التاريخ المختلفة) مؤكداً أن الواقع الليبي احتفظ بشكله الحضاري القديم نتيجة ظروف تاريخية مختلفة، محاولاً تحليل جزء غاية في الأهمية في تكوين الشخصية الليبية مرجعاً نزوع الليبيين إلى الاحتفاظ (بالشكل المختلف كرد فعل على الهجومات التي أرادت إذابته)
في الحقل الرابع يتكلمُ عن الشكل القبلي الذي ينظم العلاقات الاجتماعية في الواقع الليبي، مناقشاً علاقة هذا الشكل القبلي بالمدينة التي هي شكل من أشكال التطور الإنساني، مؤكداً أن مرحلة القبلية قد انتهى دورها من العالم المتحضر جميعه تقريباً، مستدركاً عن دور المدينة (أن تاريخ المدينة في ليبيا…. قد أعطاها في بادئ الأمر شكلاً حوصرت بداخله، وعندما أنفك عنها الحصار بدأت تمثل امتداد التقاليد حولها، إذا لم يكن فيها الظروف التي تتمكن بواسطتها من فرض نفسية وتقاليد جديدة، ومن ثم خضعت للتقاليد التي جاءت مع الأفراد الذين استقروا فيها، ووجد الفرد أن من صالحه أن يتمسك بالتقاليد القديمة إذ تلبي احتياجاته الاجتماعية والنفسية)
في الحقل الخامس يستغرق في مطاردة العلاقة بين (المدينة) و (النظام القبلي) مستغرقاً في تلمس فصول هذه العلاقة محدداً جزئيات هذه العلاقة من خلال سياق يستعرض تاريخية هذه العلاقة: (فإذا أراد الفرد في المدينة أن يتخلى عن اخلاقيات القبيلة وجد نفسه في مواجهة فردية اجتماعية لم ترتبط بأسس سابقة ولم تستبق من اجتماعية سابقة بعض أسسها ولم ترتكز على اطمئنان سابق لمراحل طويلة من التجمعات البشرية)
في الحقل السادس يستعرض الحالة المدينة في ليبيا من خلال سياق تاريخي من خلال استعراض حالة المدينة قبل الاحتلال الايطالي وخلاله وخلال مرحلة الاستقلال، ويعود ليناقش جزئية المدينة قبل الاستقلال والمدينة بعده ليضعنا أمام نتيجة جديدة (إن المدينة بغير مقومات المدينة وبغير ارتباطات هي شكل فقط)
ليعود ليطرح رأيه بتفصيل أكثر (فالفرد الذي مازال بعدما وصل إلى الحياة العصرية يعتز بروابط قبلية، إنما يعتز بها كشكل يعتقد فيه الحماية، وهو لا يدرك أن هذا الشكل قد فقد فعالياته بعدما أفرغ من محتواه الاقتصادي والاجتماعي)
في الحقل السابع يناقش الحزب السياسي، ويرى أنه (الشكل الفوقي جداً.. لنشاط اجتماعي اقتصادي لفئة من الناس.. فهو بالتالي التنظيم النهائي لمصلحتها.. حتى لا تتضارب وتتناقض مع بعضها البعض.. وحتى تحفظ في النهاية مصلحتها الكل)
متطرقاً للحديث عن النشاط الحزبي الذي بدأ بعد استقلال البلاد (فالنشاطات الحزبية التي تكونت قبل الاستقلال ماهي والأمر كذلك بتعبير عن واقع أو شكل منعكس عن الواقع، ولكنها كانت قمة شعور عاطفي لم يجد أمامه إلا الشكل السريع كتعبير عنه، فأسرع يفرغ فيه شحناته وأمانيه الاجتماعية والسياسية، و وبما أن الشعور كان شعوراً عفوياً تلقائياً سريعاً فقد انعكست كنتيجة له في عفوية وتلقائية الأحزاب التي حاولت تمثيله).
فالأحزاب كانت كشكل بالمعنى العام شيئاً ناضجاً، وبالمعنى الخاص أي معنى وجودها في ليبيا شيء غير ناضج لتعبيره عن واقع غير ناضج)
ويستطرد في تفسير رؤيته للأحزاب في هذه الكلمات (ما اتسمت به الأحزاب من ارتباطات سريعة بالتيارات العالمية الغائمة والمصالح المؤقتة، هذا بالإضافة إلى عجزها الواضح عن التكتيك على مستوى محلي وعالمي…. وهو أمر راجع في أغلبه إلى قلةِ العناصر المثقفة وإلى عدم الفهم المتأني المرسوم، وإلى عدم وجود الخط السياسي والقدرة على التحرك على مستوى المجتمع وعلى مستوى الكفاح السياسي في ضوء الظروف الدولية)
معلقاً على أن ما بقى تجربة الأحزاب في ليبيا هو مجموعة من النوادر التي يستعيدها المواطن بكثير من السخرية والضحك.
في الحقل الثامن يلخص النقاط العامة للأجزاء السابقة متوقفاً عن خواطره تجاه هذا الكيان، ملخصاً النقاط السابقة التي تم استعراضها في عشر نقاط:
- أننا نواجه مساحة لابد أن يملأها نشاطنا.. متجاوزين قلتنا بل ندرتنا.
- ونواجه تخلفاً في نواحٍ كثيرة
- ونواجه علاقات اجتماعية هي في جملتها متخلفة
- ونواجه جيوباً متقوقعة وإن كانت نادرة إلا أنها مازالت تؤثر في الشكل العام للمجتمع.
- ونواجه قلة في الخبرات الاجتماعية، و الاستقرار الحضاري الي يولدها
- ونواجه نزوعاً فردياً في المدينة، يحاول نهائياً أن يبتعد عن المجتمع، وما يترتب على ذلك من لا انتهازية.. ولا أخلاقية.
- ونواجه اضطراباً في الشكل العام الاقتصادي وعدم اعتماده على مورد مستقر، مرتبط بسوقنا الوطني
- ونواجه تشوشاً في المفاهيم السياسية والعمل من خلالها.
- ونواجه ظروفاً دولية وارتباطات دولية.
- ونواجه قارة ينبثق ويتحدد فيها واقع جديد.
في الحقل التاسع يُركزُ على دور المثقف والعمل الثقافي في النهوض بكيان الدولة، ويعطي هذا الدور أهمية خاصة في كونه يرسم الشكل المدني للدولة بعيداً عن المعوقات السابقة، يتحدث عن دور المثقف بشكل خاص (يبرز دور المثقف كإطار وعمل وحركة وتوجيه و وعي، وترتسم الدلالات من خلال أعماله وأقواله، فليس سهلاً أن يوجد مثقف، وليس بالأمر الهين أن تتكون هذه الخلية الاجتماعية ثم تبدو وكأنها قشرة ميتة، فالخاسر في آخر الأمر هو المجتمع، وليس الفرد المثقف.)
وبعد:
ماذا تبقى من الكيان الذي تحدث عنه (القويري) منذ خمسين عام؟!
وهل تغير الإحساس بهذا الكيان ككيان واحد أم مازلنا نحتفظ بنفس الإحساس تجاهه؟
الأفكارُ التي يستعرضها الكتاب مازالت تحتفظُ بقدرتها على المُشاكسةِ وإثارة الأسئلة، فحديث
(القويري) عن الموقع الجغرافي المرتبط بالعمق التاريخي، العائق القبلي، ارتباك العامل الاقتصادي، قصور دور المدينة، دور الأحزاب المرتبكة، السياق العام لدور المثقف.
هي معوقات مازال الوجدان الليبي لم يتجاوزها برغم مرور هذه الفترة الطويلة من الزمان، وكأننا نواجه نفس الوجع، ونفس الظروف التي واجهها الأجداد في تأسيس الكيان الليبي منتصف القرن الماضي.
لنعود لنسأل أنفسنا وبحرقة هذه المرة: ماذا تغير في هذه النقاط السابقة؟!
الإجابة للأسف ستكون: لم يتغير شيء.
نحتاج أن نقرأ هذا الكتاب اليوم، ربما لنستشعر كيف تمكن الأجداد من رسم شكل أساسي لهذا الكيان المترامي الأطراف في دولة وحدة، على الرغم من كل هذا العوائق.