يعود وجود اليهود في مصر إلى القرن السابع ق.م. ولكن هجرتهم الكبرى إليها تمت عندما تمكن بطليموس الأول في صراعه مع السلوقيين من الاستيلاء على يهوذا سنة 301 ق.م. فشهدت مصر هجرات مستمرة وترحالاً دائماً إليها، طوال عصر سيطرة البطالمة أي حتى 200 ق.م. ونشأت جاليات يهودية كثيرة في مصر، ومنها امتدت إلى برقة التي كانت أيضاً تحت حكم البطالمة، وكان بطليموس الأول – ومن تبعه من خلفائه – يشجع هجرة اليهود إلى ليبيا بسبب ازدياد عددهم في المدن المصرية، ولضمان المزيد من السيطرة على قورينا وما جاورها. وكان البهود يحلّون عادة بالإسكندرية أو بريفها، وقد نشروا معابدهم في عهد بطليموس الثالث أينما تركّزت جالياتهم، ومنها قورينا.
وفي عهد انطيخوس الرابع السلوقي (175 – 164 ق.م) هاجر المزيد من اليهود الذين توجهوا رأساً إلى برقة هرباً من هيلنة معابدهم وأساليبهم وعاداتهم، حيث عاشوا في قدر من الحرية ضمن لهم ممارسة طقوسهم، كما استطاعوا عبر جالياتهم هناك أن يعيشوا كطبقة متميزة تسكن أحياء لا يشاركهم فيها غيرهم، ويحتكرون تقريباً صياغة وتشكيل الذهب والفضة وأعمال الصيرفة والربا، وقد استمر وجود اليهود منعزلين ضمن أحيائهم ومقتصرين على أداء الأعمال التي اختاروها إلى أن منحهم الامبراطور كركلاّ حق المواطنة الرومانية سنة 212 م.
كان اليهود متوطنين في مدن وأقاليم ليبيا الشرقية، وكانوا ينالون التشجيع على الهجرة إلى هذه الأقاليم منذ عهد بطليموس الأول الذي وجّههم إلى برقة، بعد أن تزايدت أعدادهم وجالياتهم في مصر، كما توطّنوا في توكرة وقورينا وطلميثة، وكوّنوا جاليات قوية شبه مستقلة في بدايات العصر الروماني في شرق ليبيا، فانضموا إلى الجيش وقاموا بوظائف إدارية ومالية، وقد أصدر أغسطس قراراً طمأنهم فيه على ممتلكاتهم. اشترك يهود قورينا في الدفاع عن أورشليم ضد الرومان سنة 70، ثم فرّ زعماء الثوار اليهود من الشرق ليستقروا في قورينا فقبض عليهم الرومان ونصبوا لهم المشانق تنفيذاً للأحكام الصادرة ضدهم في أورشليم، فأثار ذلك نفوس المستوطنين اليهود وأعلنوا تذمرهم وتعاضد معهم يهود برقة فعمّت الفوضى وأعمال الشغب البلاد واعتصم اليهود بالصحراء فجرّد لهم الرومان حملة عسكرية يقودها كاتولوس Catullus وقضى عليهم، بينما كان الرومان ينتقمون من أثرياء اليهود الذين ظلوا في برقة ولم يغادروها. وقد ذكر يوسيفوس أن حاكم قورينا ذبح حوالي 3000 من أثرياء اليهود في فتنتهم هذه.
وفي 115 ق.م. نشب ما يسمى بثورة اليهود الكبرى بقيادة لوكاس أندرياس في عهد تراجان الملقب بالمستبد (115 – 116 ق.م) وكان آنذاك يحاصر بارثيا، فأعلن اليهود تمرّدهم في خمسة بلدان في وقت واحد هي: قورينا، مصر، قبرص، أنطاكية، وبلاد الرافيدن، فاستولوا على قورينا واستباحوا المدينة نهباً وقتلاً، ثم أحرقوها، وقد ذكر المؤرخ ديون كاسيوس Dion Cassius أن عدد القتلى كان مائتين وعشرين ألفاً، وكتب شارحه كزيفيلينوس Xiphilinus عن وحشية الثوار اليهود قائلاً أنهم “كانوا يأكلون لحوم ضحاياهم من الناس، ويتحزمون بأمعائهم، ويدَّهنون بدمائهم، ويتدثرون بجلودهم”.
كان قائد ثورة اليهود في قورينا قد سيطر على المدينة وخرّب المنشآت المدنية، ومن قورينا انتقلت الثورة إلى توكرة التي تعرضت للتخريب ونزوح المستوطنين من غير اليهود. وفي شتاء 116م زحف اليهود نحو الاسكندرية ولم ينجحوا في الاستيلاء عليها فاتجهوا إلى القرى والمدن المجاورة يؤلبون اليهود ويعيثون في الأرض فساداً، وعمل الرومان على احتواء هذه الثورة بأسرع مما اعتقد اليهود، فأرسل تراجان حملة بقيادة ماركيوس توربو Turbo على مصر وبرقة استطاعت إخماد الثورة فيهما، وهرب من تبقى من اليهود نحو القبائل الليبية المناهضة للرومان، دون أن تُعرف نهاية لوكاس اندرياس قائد الثورة على وجه التحديد.
___________________