الجمعة, 14 مارس 2025
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
طيوب البراح

أحزان مُقّفلة

البانوسى بن عثمان

من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي
من أعمال الفنان التشكيلي رضوان الزناتي

انه يحمل فوق كتفيه . رأس مملو بالكثير من الحماقات , انه ابنى وأعرفه . يجب ادخاله القفص , كى لا يطير ثانيتا , يجب تزّويجه , واغراق هذا الرأس فى هموم الحياة اليومية الصغيرة حتى يسّتوى . لا اجد حل غير هذا . قال الاب كل هذا , دُفعة واحدة ثم سكت . اطرقت الام قليلا ثم قالت :- لكنّه يتهرب حين افاتحه فى هذا الشأن , فانت تعرفه حججه متينة ولا اجد امامها الا الصمت .

لقد سمع حديث والديه , وهو يهم بالدخول الى حيت يجلسان . شَغله ما سمع كثيرا , واستشف ثقل ما يُعانيان . اقلقه ذلك كثيرا , فأستسلم لرغبتهما . اتى على نفسه وتخلى عن قراره بالرحيل . فمند سنوات مضت , وبعد حوار دام طويلا مع نفسه , فى جوّف زنزانة إنفرادية . احّتوته ظلّمتها المُغلفة بزمهرير ليلة عاصفة , من ليالى ديسمبر الطويلة , بأحد سجون طرابلس , اتخذ قراره بالرحيل , إن حالفه الحظ بالخروج ذات يوم .

لقد حاول الرحيل ذات مرة , فخذلته حساباته . ورمت به فى قبو زمن ميت . تناوبه فيه زنازين وسجانين وزمن بطعم الموت . لا زالت مرارته تسْكن حلّقه . لقد كان غارق حتى (شوشة رأسه ) . فى استرجاع ماضي ملأ عليه حواسه . ففصله عن حاضره . لولا مُعاودة طفلهما للصراخ , فأنتشله فى طرّفة عين الى آنيه الكئيب .

كان طفلهما يصرخ بوهن هدّه التعب , لا يكاد يُسمع من هدير السيارة المسّرعة بهم صوّب الشمال , لكن للأبوين اذن تحس قبل ان تسّمع . كانت الآلام التى يُعانيها طفلهما , تعّتصر قلبهما , فينزفان دموعهما بصمت , كل بطريقته , وليس الذكر كالأنثى . كان صراخ الطفل ينقل لهما توجّعات هذا الكيان الغض الملفوف فى قماط من قماش . كان الجسد الصغير يسّتعين بالصراخ لمقاومة الآلام التى تحاول افتراسه . وعندما يفلح فى صدّها احيانا وتتراجع عنه , يغّفو الصراخ فيخّمد الجسد , ولحظتما تسّتجمع الآلام قواها , وتنّهض , يسّتفيق الصراخ المُقاوم . كان كيان رُغم طراوته لا يعرف الاستسلام ابدا . وهما امام كل هذا لاحول لهم ولا قوة . كانت الام تذرف دموع سخية بصمت مطبق . وهى تحتضن الجسد الغض , بحنان بالغ , وتضمّه اليها لإلصاقه بكيانها , عل هذه الاوجاع تتخلى عنها وتتسرب اليها . كانت تسّتجمع كل قوى تركيزها فى محاولة منها , لسحب الاوجاع الصارخة , التى تتناوب طفلها , والدفع بها بعيدا عنه . فقد قال لها ذات مرة , فى مقّدور البعض الدفع بالآلام بعيدا عن الكائن البشرى , باستجماع تركيز شديد لصورة ذهنية بالغة الوضوح لما هو مرّغوب . لكن رغم محاولاتها المتكررة , لم تُفلح فى ترويض تركيزها والسيطرة عليه , فما ان تبدأ حتى يتفلّت ويتبعّثر , فلا تستطيع لمّلمته ثانيتا , من فرط الارهاق , فتنهار وتسّتسلم لأحزانها .

استسلمت الآلام وتراجعت امام مقاومة الجسد الصغير . فسكت الطفل وغفى . اتخذت السيارة المسرعة بهم صوّب الغروب . عمّ صمت اطبق على كل شيئي حوّله , تسلل عبر ممراته الى داخل ذاته , التقى صوّتها القادم من اعماقه قائلا :- اعرف بأنك لن تتكلم , فقد حفظّة درس سجانيك جيد , فى زنازين زمنك الميت . للصدق اقول :- لم تكن نجيب فى سنينك الاولى , فصعب عليك ابتلاع دروسه وهضّمها . ففشلت . وفشل سجانك معك , فمدد سنين سجّنك الخمسة , بعدما انهيتها يوما يوما ساعتا ساعه بل دقيقة دقيقة . فهو لن يطلق سراحك , حتى ولو افنيّت بقية عمرك داخل زنازينه , اذا لم تتعلم بان السكوت من ذهب فى كل الظروف زمان ومكان , وفى ما بعّدهما , داخل دروب وممرات العوالم المجازية اللغوية الواسعة . ثم اضاف القادم من اعماقه قائلا :- اعرف بانك تتقدم بموكبك الحزين هذا نحو مدن الجوار , نحو مدن (بحّرية العينين) . هكذا يحّلو لك تسّميتها فى لحظات صفّوك النادرة , لتدق ابوابها بكلّتا يديّك , مُسّتنجد . بدواء . علاج . عافية . تدفع بها الآلام عن طفلك والاوجاع التى تتناوب على جسده مند عشرة ايام , وتفكك بها احزان زوجتك المسّكينة .

فصحرائك حيت منابت طفولتك ومراتع صباك , تخْتزن فى جوّفها , الكثير من الحوّل والطوّل . لكنها لا تُخّرجه الا نكدا . ففى واحدة من تجلياته الفاقعة . تمكّنت به من دفع البحر بأمواجه بعيدا عن اقدام اكبر حواضر الشمال . وجعلته يباس , وبلّطته , وضربت فيه طريق , ربما تشبّها (بموسى) , ولكن (لموسى) عصاه , ولصحرائك ما ان مفاتيحه لتنؤ به العصّبة اولو القوة , ولك انت احزانك تحّملها وتدرع بها الارض , باحتا ومُفتش عن طريق تُصلك الى . دواء . علاج . عافية . تدفع به الموت المحاصر لطفلك فى حضن امه . انتشله من اعماق ذاته وحواراتها الموجعة , معاودة الطفل للصراخ .

نظر الى ساعة يده , كانت تشير الى الرابعة وبضع دقائق صباحا . امامه القليل من الوقت , يفّصله عن الوصول الى المنّفذ الغربي لمدن الجوار . قفز الى ذهنّه (التسّريح الأمني ) , حاصرته هواجس سوداء . حاول جاهدا الحصول على ذلك التسريح اللعين , نصحه ذويه ومعارفه , بالذهاب الى فرع (المكتب الثاني) بالإقليم الجنوبى , قَبِل بعد تردد , فقد كان جديد العهد بما هو فيه . فلم يتمكن بعد من نفض غبار زنازين زمنه الميت عن كاهله . فبرغم محاولاته المتكررة , فقد كان الفشل حليفه دائما . فلازالت مفردات سجانيه الخشنة , تُعشعش فى تنايا ذاكرته , مُختلطة بحشّرجة مزالج وافقال صدئة , وصفعات لأبواب فولادية لزنازين كالقبور . ولكن توجّعات طفله واحزان زوجته , جرّت قدميّه الى ذلك المكتب . لم يُسمح له بالدخول , اُوقف امام باب حديدى عملاق , يتربّع بنصّفه العلوى , شباك صغير تتخلله قضبان شاقولية صدئة . حدّث العسكرى المناوب من خلال القضبان الصدئة قائلا :- اريد تسريح امنى يمكنني العبور الى بلد الجوار للعلاج . طلب العسكرى هويته الشخصية . وغاب بها خلف الباب زمن طويل . وعاد . بعدما ناوله هويّته . قال :- لا تسّريح امنى فى الوقت الحاضر , راجعنا بعد اسبوعيّن . حاول فتح باب للنقاش لإفهامه . قفل العسكرى الشباك ذى القضبان الصدئة , فانّسدت فى وجهه المنافد جميعها غربية وشرقية وشمالية دفعة واحدة .

ظهور الاضواء الساطعة للمنفذ المفّضي الى بلد الجوار , اعاده الى حاضره , بكل تفاصيله المرّتبكة . ها هو امام المنفذ الغربي , ركن سيارته على الجانب المقابل لمكتب الجوازات , لمّلم اوراقه ونزل , عبر فى اتجاه مكتب الجوازات , وجد نفسه امام الشباك , اُصيب بذهول تام . نفس الشباك ذى القضبان الشاقولية . نفس الملامح التى خطة وجه العسكري المناوب . نفس المفّردات , التى كان يلوكها اتناء حديثه . نهضت بالمكان نفس الروائح , التى كانت تفوح من ذلك المكتب بالإقليم الجنوبي . كظم اندهاشه , ناول اوراقه الى العسكري , القابع خلف الشباك . تفحّصها جيدا , ثم قال :- انتظر , اختفى مع الاوراق وراء ابواب كثيرة , وعاد بعد زمن طال , ارجع له الاوراق واردف قائلا :- ينقص اوراقك مستند (التسريح الأمني) , يجب احضاره من مكتب الاقليم الجنوبي , فلا عبور الى الجوار بدونه . حاول فتح باب للنقاش لإفّهامه , قفل العسكري الشباك ذو القضبان الصدئة . فأنسد فى وجهه المنّفد الذى لا يبعد عنه سوى خطوات . نهض فى صدره غضب طفق يكبر شيئا فشيئا , مع صوت قادم من أعماقه يقول :- ان رجعت الى الجنوب , فلن تصل , وان وصلت , فلن تعود , انهم يصّنعون لطفلك , تابوت لا يزيد (انش) واحد عن طول جسده الصغير .

امتلأ صدره غضب حتى الضيق , ضاق به المكان , فضاق به الكون , فقدفه الى عوالم ما بين الصحّوة والغيّبوبة , فتراءت له قريته . وهى مطوّقة باسلاك شائكة , عيناها وفمها قد قفلت بقضبان شاقولية , مع ابواب فولادية , لها مزالج واقفال صدئة كزنازين . ظهرت اعقاب بنادق تحملها احدية ضخمة تجوب الانحاء . امتلأت مسامعه بلغط لرطين , تعلّم فك ابجدياته فى ابتدائيات الجنوب زمن صباه . اُناس لهم سحنات رُسمت بملامح اهل الشمال البارد , حيت منابت الصقيع المغلّف بالضباب , يلعقون قار اسود بنهمْ نار جهنم . اعلام ورايات انجلوسكسونية واخرى رُسمت بخطوط بيضاء وزرقاء , تُغطى المكان . اهل قريته عجاف لا هامات لهم , يتعالى من عيونهم , صراخ ينّضح خزنا . تتوسط قريته شاشة عملاقة , يتعالى منها ضجيج , يغطى اشياء مذهلتا , لها استفهامات بحجم الانسان وحياته . ضجيج فى ضجيج فى ضجيج يملأ ادنيه . استفاق من غيبوبته مرّتبكا , على صوت فرامل شاحنة ضخمة , كادت تدهسه , دفعته قليلا , اخّتل توازنه , كاد يسّقط ارضا . قائد شاحنة النفط , صرخ بغضب , ينِم عن سوء منابته . قائلا :- ان لم تنتبه لنفسك سوف تموت . رد محدّث نفسه . من لم يموت بالسيف مات بغيره .

انتبه الى انقباض يحتوى صدره , جر قدميه بصعوبة , نحو السيارة . حيت الطفل وامه , عبر الطريق , وعلى بُعّد خطوة واحدة من السيارة , سمع نحيب لبكاء خافت . فتح باب السيارة , رفعت فيه عينين باكيتين , تتوسط وجه , يعّتصره الم اصفر , وبصوت يغالبه البكاء , قالت :- لقد اختفى الدفء عن جسده الصعير . وتحول الى قطعة باردة . انحنى على مسند السيارة الأمامي , مولى بوجهه نحوها , ازاح القماش عن الوجه الصغير , وضع سبابته اليمنى على الجبين المُتغضن . كان باردا , وعيناه قد قفلتا فى نوم سرّمدي . رفع عيّنيه فيها , فقرأته . ارتعشت وانخرطت فى بكاء تخالطه شهقات هستيرية . استوى فى مقعده , خلف مقّود السيارة , ادارها , ارتفع هديرها مُغالب بكاء الام . استدار بالسيارة مولى بوجهها صوب الجنوب . تعالى بكاء الام تحوّل عويل . اندفعت يده الى مذياع السيارة , فتش على غير هدى , اتاه لحن بصوت سماوي (والبلد الطيب يُخرج نباته بادن ربه والذى خبث لا يُخرج الا نكد) انخفض عويل الام رويدا رويدا حتى تلاشى الى سُكون , اطبق على عالمه . فقفل احزانه .

الجنوب الليبيى فى عام :- 2007 م .

مقالات ذات علاقة

زفرات أنثى!!

سعاد الجروشي

وعرباه ….!!!!

خالد الجربوعي

لن أقوم بالعتاب

المشرف العام

اترك تعليق