المقالة

مرايا لصورة المسماري

رضا بن موسى

الكاتب الراحل إدريس المسماري.
عن الشبكة

عرفته، في سبعينيات القرن الماضي، رفيقا ـ لعقد من الزمن ـ من قبل أن نلتقي.  كنا سجناء في قبضة سلطة تؤمم أحلام مجتمع ينهض من بحر الرمل والنفط… لم يجمعنا العنبر ولا الزنزانة ولكنها محنة العسف والإرادة المتفائلة غرستنا ـ طالبا وصحفيا ـ طلائع نخبة سياسية مثقفة تحاول أن تفك أبجدية العيش، بالمحاولة الدائمة لتخطي الحواجز تكابد من أجل تحرير مواقع تتسع للرأي والفكر متكئين على دور الثقافة كفاعل رئيس في بناء الوطن وكمتراس نضالي مقاوم نشهره في وجه الطغيان المنظم الذي تمارسه السلطة القائمة في كل مجالات الحياة العامة.

وما ان اتسع أفق الحرية، واجتزنا حواجز السجن حتى توطدت العلاقة مع إدريس المسماري عبر المناشط الثقافية واللقاءات الأخوية الحرة أو حيثما كنا أو كان ذلك المسافر أبدا، شعلة الحلم والفعل، لا تهزمه الأماكن ولا الأسوار، طائرا بعكازه الساحر، يوقد نار حرائق لا تنطفئ. ومن مبتدأ النهار حتى آخر الليل، نتشارك والرفاق الأحبة، أوهامنا وأحلامنا، ونرتب تكتيكا لأفعالنا.

لا تمر الايام بدون تواصل. كنا في رابطة الأدباء هو عضو الأمانة العامة ومسؤول التحرير لمجلة “لا” بمكتب بنغازي، وكنت مديرا لتحرير مجلة “الفصول الاربعة”، وكانت مساهمته ـ مع آخرين ـ متميزة في إعداد ملف الايدز الذي نشر في العدد 78 عام 1998، وطرح مشكلة الاطفال المصابين بالجملة، ولأول مرة، الأمر الذي سبب جدلا كبيرا، وأدى إلى نحر المجلة بقرار ضرورة عرضها على الرقابة للحصول على موافقتها على النشر. ثم جرى ما جرى على “الفصول”.

وكان المسماري بفعالية ـ مع جهود جماعية ـ يعمل أن تصبح رابطة الكتاب والأدباء الليبيين مؤسسة مجتمع مدني تقوم بدورها الطبيعي المستقل في اثراء الحياة الثقافية، ولكن وبعد مجموعة من الافعال المريبة والاجراءات التعسفية، وضعت السلطة اليد عليها في يوليو 2004 وقفلت مقرها بسلسلة حديدية مختومة بالشمع الأحمر، وأقصت عددا من أعضائها من بينهم المسماري وكل سجناء الرأي.

ولكن المسماري، بمبادرته الجريئة الواثقة، إلى جانب مجموعة من الكتاب، كان قد أصدر مجلة “عراجين-أوراق في الثقافة الليبية” في يناير 2004، والتي برزت كمنبر ثقافي خارج دائرة السلطة الشمولية، تطمح للمساهمة في تأسيس قضاء للتنوع والتعدد يشيع قيم الحداثة والإبداع. ورغم العراقيل التي لم تسمح بتوزيعها داخل البلاد رسميا، انتشرت بين الاوساط السياسة والثقافية.

ثم كان لنا موعد في العام 2008 مع برنامج “الملف” بالفضائية الليبية الذي حاولنا، مع المسماري، عبر حلقاته التي قاربت الأربعين، طرح نقاش حر حول قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية، وعلى نحو جديد وجريء، مما اضطر بالسلطة الى ايقافنا عن إدارته.

وشاركت مع المسماري في اعداد ورقة بالملف الثقافي ضمن “رؤية استشرافية ليبيا 2025″، تناولت موضوع المجتمع المدني الذي يقابل سؤال تشكل الدولة الحديثة، وتؤكد على أن إرادة الناس ومشاركتهم الحرة ضرورية لفتح افاق المستقبل الأفضل.

وفي 15 فبراير 2011 كان صوت إدريس يصل العالم، يعلن بدء خطوات الثورة… وكان من أوائل من اعتقلوا وفي كتابه سيرة فبراير نقرأ التفاصيل. ومع تحرير طرابلس كنا معا في هيئة دعم وتشجيع الصحافة، ورغم التعثر والارتباك والأخطاء الذاتية، في تقييم الشروط الموضوعية للواقع الراهن صحفيا وسياسيا، أصدرنا صحفا ومجلات وقدمنا دعما لأخرى مستقلة، وحين تفجرت المعارك بين الأخوة الأعداء في طرابلس في 2014 لم يعد العمل ممكنا في سلام وطمأنينة بسبب انتشار العنف المسلح، وما قد يتعرض له العاملون بالهيئة من اخطار، فأعلنا بيان التوقف احتجاجا.

واستمر اللقاء والبحث عن مسارات جديدة، وفتحت لنا بنغازي ومدن العالم فضاءاتها للتواصل. وفي القاهرة يناير 2017 كان لنا موعد للتلاقي، لوداع عام يمضي واستقبال أمل قادم. تبادلنا أنخاب الفرح مع الأصدقاء، واشتعلنا بالبهجة، أنشدنا أغانينا وتجولنا في الشوارع مترعين بالصداقة والمحبة والروح الرفاقية… نتبادل الاتكاء كل على أخيه، يساند ادريس جسده المتعب بعكازه وذراعي، وتتكئ روحي على تفاؤله وعزيمته وإرادة لا تخون. كنا قد التقينا في “برج العرب” بعد انتظار قلق أن يأتي أو لا يأتي. وانتشينا بفرح طفولي بهذا اللقاء، وبالقدرة على التواصل، وكأننا كنا قد قضينا الليل معا.

ومن الاسكندرية حتى القاهرة، ومن القاهرة حتى الإسكندرية، كنا نبحر في حديث لا ينقطع عما قرأنا وعن المشاريع التي نعمل على إنجازها، عن نشاطات جمعية اصدقاء الفقيه حسن في طرابلس وعن اصدار ملفات الاعداد القادمة من “عراجين” عن الحرب والنفط والسجن وعن جمعية اصدقاء الكتاب التي يعمل لإحيائها وعن مهرجان المدينة – بنغازي وبندوة عن الكتابات الروائية بأقلام نسائية ليبية، وعن الكتب التي شرع في كتابتها.. ولم ينقطع الحديث… ولا يزال ادريس المسماري يحاورني كتابة هذه الورقة؟!

________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

ما جدوى الشعر؟ ما جدوى الحَرب؟

فرج العربي

السياسة فن الممكن

تهاني دربي

شجون وزفرات :: سقوط الحائط الرابع بين مسرح الفرجة ومسرح الحياة

المشرف العام

اترك تعليق