من أعمال التشكيلي بشير حمودة
قصة

المدنية

رأفت الخراز

من أعمال التشكيلي بشير حمودة
من أعمال التشكيلي بشير حمودة

(أ)

من أمام منزله الشاطئي في الصابري أدار محرك سيارة أبيه. أشعره نسيم البحر المالح  بالتفاؤل. اتجه إلى الكيش. أحس أن زمن الاشارة الضوئية عند المفترق أطول مما اعتاد. بحث عن مكان في المرآب المزدحم. ترجل وحاول أن يجعل خطواته ثابتة وهو يدخل. أحاطت به الفخامة من كل جانب برائحتها الثرية. سمع فتاة الاستقبال تتكلم في الهاتف. كان صوتها خافتاً ورقيقاً. تجاوزها وواصل سيره الوئيد نحو المصعد. ضغط الزروانتظر. أطرق وحار أين يضع يديه فدسهما في جيبيه. فُتح باب المصعد عن لأجنبية حاسرة شقراء. خرجت مارةً بجواره فأهدته عطراً فرنسياً. كبس زر الطابق الثالث وظل يتمتع برفقة بقايا العطر. نظر في المرآة فلم يعجبه ما رأى. زفر وتمتم:

– كل ما وهبتني المدنية: ركض دائم. وبضعة تصرفات مصطنعة.

خرج من المصعد فاذا به أمام مكتب خلفه فتاة تطبع على حاسوب. تأمل أناملها الرقيقة وهي تتراقص ناقشةً الأحرف.

– أي خدمة؟

طلى صوته بلون رصين واثق وهو يجيبها:

– السيد “عبدالكريم” أين أجده لو سمحتِ؟
– ثالث مكتب على اليمين.

وعادت إلى حاسوبها بتلقائيةَ مَن واجهت مثل هذه السؤال عشرات المرات. حز في نفسه أنه لم يجذب انتباهها بتاتاً. سار في الممر وهو يعد الأبواب كالطفل حتى واجه الثالث فطرقه. أجابه صوتٌ بدا من خلف الباب متعجرفاً مكتوماً:

– ادخل.

فتح الباب فاكتنفه سكون زاده أزيز جهاز التكييف هدوءاً.

– أنا الذي حدثك عني الحاج “أحمد”.
– إجلس.

تشكل أديم الكرسي متناسباً مع ثنيات جسمه فوهبه راحة أمعنت في إرباكه. سأله صاحب المكتب وكان كهلاً شديد النحافة:

– ما مؤهلك؟

سر بالسؤال فأجاب بفخر:

– ليسانس آداب.
– أي قسم؟
– تخطيط.
– هل أوراقك معك؟
– كلا..فـ….
– لماذا؟
– رأيت..أظن..سآتي بها متى طلبت فهي جاهزة.
– المفترض أن يكون ملفك معك. لماذا جئت إذن؟!

أنهكته الأسئلة المتتابعة واستفزته. أرتفع صوته نبرة وهو يقول:

– جئت استفسر عن امكانية العمل كخطوة أولى. لم أجد أنه من اللائق اصطحاب الأوراق من أول مرة.

ابتسم الكهل فتفرطح أنفه. قال وقد غيّر من أسلوبه:

– قلت للحاج “أحمد” أن يخبرك بكل شيء قبل أن يبعثك إليّ..عموماً هذه الوظيفة الشاغرة يتكالب عليها العشرات. سأحاول جهدي ولكنني لا أعدك بشيء. هذه الشركة عبارة عن…

طُرق الباب ثم دخلت صاحبة الأنامل الراقصة تحمل ملفاً. وضعته على المكتب متمتمةً بشيء لم يسمعه. لاحظ أن للكهل صلعة تغطيها شعيرات قلائق. خرجت بعد أن رمت الشاب بنظرة جانبية سريعة تحتمل ألف معنى.

– عجَل باحضار الاوراق وإن شاء الله خيراً.
– غداً تكون عندك. أشكرك.

ونهض. مر بمكتب الفتاة وهو عائد فألفى مقعداً شاغراً. شعر بخيبة أمل. في مرآة المصعد لاحظ وجهه محمراً. خرج من مبنى الشركة وهو يتنهد. لعن البطالة ثم أدار محرك السيارة ودار بها خارجاً من المرآب. لمح حسناء تتجه في شبه هرولة نحو حافلة متوقفة. التقت عيونهما. كانت هي. ذات الأنامل الراقصة. ابتسمت له. ابتسم أيضاً. ثم لنفسه تمتم:

– أجل.. كل ما وهبتني المدنية: ركض دائم. وبضعة تصرفات مصطنعة.

(ب)

أعادت تعليق حقيبتها على مسند الكرسي  ثم شرعت تطبع على مفاتيح الحاسوب. (الأخ/ مدير إدارة شؤون الموظفين….) سرق تركيزها حفيف ثوب يمر بجوارها. نظرت فإذا بأجنبية متكبرة تتجه نحو المصعد. اشتمت عطرها الباهظ فقدرت سعره بما يوازي نصف مرتبها. لاحظت أن للشقراء أظافر طويلة مخضبة. تحسرت فالطباعة تحتم عليها قص اظافرها دوماً كالولدان. تنهدت..وتابعت الطباعة بسرعة مذهلة (بعد التحية. بالاشارة إلى مذكرتكم المؤرخة في 18/05/1998افرنجي بشأن علاوة الترقية…) دائماً ذات الصيغة ونفس العبارات. جاءت إلى هذه الوظيفة لتغطية وقت فراغها كما تعلن ولمصادفة زوج المستقبل كما تبطن. السنوات تتوالى وهي لا تنال الا الوعود الكاذبة. لم تزل صغيرة نسبياً ولكن العوانس يملأن الأرجاء كالجراثيم المعدية. وفي الأفق يتقلص الأمر رويداً. يوماً بعد يوم.

(عليه.. نحيطكم علماً أن الاجراءات اللازمة قد اتخذت بالخصوص…) ما من تسلية لها الا باب المصعد الكائن قبالتها. له جرس يرن قبل أن يُفتح بابه بثوان. رنين عذب ينبئها بأن شخصاً ما سيُطل. وجوه مختلفة  تبتسم لها وشخصيات متباينة تمر عليها. وهي يومياً تطبع. حتى ليخيل اليها أن أناملها تقرأ وتتحرك تلقائياً دون إرادة حقيقية منها. تمتمت:

– هذا كل ما وهبتني المدنية: أظافر مقصوصة. وبضعة وجوه تبتسم.

(حيث تمت تسوية علاوة ترقية المعني وفقاً للوائح السارية وكذلك استناداً إلى…) رن جرس المصعد. شاب حسن الطلعة أقبل نحوها بمشية وئيدة ولكنَّ عينيه وشت بارتباكه. سألته:

– أي خدمة؟

السيد “عبدالكريم” أين أجده لو سمحتِ؟

– ثالث مكتب على اليمين.

(هذا للتفضل بالاطلاع وأخذ العلم. والسلام عليكم) بدا دمثاً فعجبت لماذا لم يشكرها. تأملته من خلف وهو يمشي في الممر مبتعداً. شعره وكتفاه. تسائلت: ( فيما مجيئه يا ترى؟) ندمت انها لم تسأله: (صورة لرئيس قسم البيانات.. للعلم..صورة للملف الدوري..للحفظ) دفعها فضولها الى تناول ملف واتجهت به الى ذلك المكتب. سوت خصيلات تنسدل على جبينها. أصاخت السمع خلسة للحظة ثم طرقت الباب. دخلت وقد التقطت طرف الحوار:

– … هذه الوظيفة الشاغرة يتكالب عليها العشرات. سأحاول جهدي أن تكون لك ولكنني لا أعدك بشيء. هذه الشركة عبارة عن…

وضعت الملف برفق على المكتب وقالت بخفوت:

– ملف الوارد أستاذ..

ثم أستدارت برشاقة. رمت الشاب بنظرة خاطفة. لاحظت ارتباك طفيف في جلسته وتورد واضح على خديه فتأكدت أنه جاء يطلب عملاً. لمثل وضعه تملأ الجراثيم المعدية الأرجاء. عادت إلى مكتبها فلم تجد رغبة في معاودة الجلوس. تناولت حقيبتها وقررت المغادرة. ثمة حافلة تنقل زميلات لها في هذه الساعة. لم ينته دوامها بعد ولكن المواظبة هنا فكاهة سخيفة. خرجت من المصعد وأوسعت خطاها إلى الحافلة المستكنة في طرف المرآب. حشرجة محرك سيارة جذبت انتباهها فالتفتت. التقت عيناهما. كان هو طالب العمل. وجدت شفتيها تفتران عن ابتسامة. ابتسم ايضاً. ثم لنفسها تمتمت:

– أجل..كل ما وهبتني المدنية. أظافر مقصوصة وبضعة وجوه تبتسم.

rr.alkaraz@gmail.com
طرابلس -10/1998

___________________________

* إحدى قصص المجموعة القصصية التي لم تنشر بعد: (المرأة لا تخدع مرتين).

مقالات ذات علاقة

امرأة في ثوب العار

سعد الأريل

رسائل واتساب

هدى القرقني

عثرة قلب

مريم الأحرش

اترك تعليق