الإهداء: الى أمي حليمة ابنة عمر معتوق الحسناوي، وابنة فاطمة مصباح عامر-
بدا مشهدُ الحراكِ التنموي المدني للمرأة الليبية فاعلا ومُؤثرا بمحاولاته المتحمسة في بواكيره للعقد العشريني من القرن المنصرم، قياسا بالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي ونتاجاته: فقرا وعوزا ،وحاجة، وحُكما وإدارة استعمارية، ومجتمع بطريركي في أعلى درجات تطرفه، فما تبرزه الدوريات الصحفية بالخصوص بمرجعياتها المستندة على الوثائق والصور، والسير، والشهادات والتي لم تحظ بالقدر المطلوب بحثا ودراسة ومُراجعة وتوثيقا ما سيرشد الى المشاريع التي تأسست مع ثلاثينيات القرن رغم تلك الظروف، فليبيا على اتساع رقعتها قدمت رائدات من نسائها جهودهن من أجل نشر الوعي المجتمعي للنهوض بوضع المرأة الليبية وتشجيعها على الانخراط في المشروع النهضوي، فمن قدن مشعل محو أمية، وتعليم الفتيات تخرجن من المدرسة الرشيدية العثمانية أواخر القرن التاسع عشر، أو من عُدن من مهجرهن إبان سنوات الاحتلال الإيطالي للبلاد، وأحداث الحربين العالميتين، ونماذج ذلك السيدات: زكية شعنان، وحميدة العنيزي،وجميلة الازمرلي، وفتحية عاشور، وصالحة ظافر، وزعيمة الباروني… وغيرهن، وإن كانت السيدة الرائدة حميدة العنيزي (1892-1981م) من أبرز من أكتمل مشروعها واتسع وقد حملت سؤالها وهمها ما خطته في مقالها بمجلة ليبيا المصورة: (كان كل همي أن أرى التعليم ينتشر بين الليبيات، ولقد عملت كل ما في وسعي لتشجيع هذه الحركة) والتي رغم ما عانته من ظلم وقهر وضيم اجتماعي كانت أيقونة مسيرتها ما كُتب على لوحة تتقدم طاولتها (ليس في الدنيا مستحيل) وقد تميز اشتغالها المؤسسي وحراكها النسوي التطوعي بتعدده ،وتنوعه، مُنشدة التنمية الوطنية، وإحداث التغير الاجتماعي فمن افتتاح مدرسة لتعليم البنات 1917م، الى رعايتها لشريحة مُهمشة (البنات الأيتام)، ثم تأسيس جمعية النهضة النسائية، وإصدار مجلة (رسالة الجمعية)، وهي من ساندت في تأسيس النواة الأولى لحركة المرشدات في ليبيا سنة 1960، ثم إحياء أول اتحاد نسائي ليبي 1965م، وتأسيس جمعية النهضة النسائية ببنغازي (1954م)، ما شكل واجهة ليبيا للمجتمع العربي والدولي بنشاطات نساءه وتفاعلهن مع الناشطات الأخريات على مستوى البلاد ، وكانت حَوارياتُها اللاتي عملت على دفعهن وحثهن على تبؤ مكانهن بقوة ولتظل الشعلة مُضاءة لجيلهن القادم، فإحدى تلميذاتها السيدة المُعلمة (خديجة الجهمي) من ستركز في نشاطها على الجانب الصحفي الإعلامي، ففيما يُشابه عمل المُؤسسة: كاتبة، صحفية وشاعرة، وإذاعية، رعت إعداد وتأهيل كادر أنثوي كصحفيات ومُخرجات فنيات ومصورات فوتوغراف لمجلتها المرأة – 1965م (البيت)، ولاحقا مجلة الطفل (الأمل 1974)، وقد ساهمت بدور كبير في توعية المرأة بدورها، وهي العضوة في جمعية النهضة النسائية بطرابلس (1957م) برئاسة السيدة صالحة ظافر المدني (1923-2008م) مع عضوات متطوعات قاربن المئة، السيدة صالحة من أطلقت بيانها (مانفيستو العلم والمعرفة) لسيدات طرابلس 1947م عبر الراديو المحلي العربي، وبين الشرق والغرب الليبي كان أن تشاركن كقُطبين مُتجاذبين، وجمعتهُن اتصالات ولقاءات داخل وخارج البلد في إطار توحيد الجهود، استهدفتْ توطين وعي النساء بدواتهن الفعالة، وكانت أقلامُهن تنفي صفة الصمت التي ظلت قرينة للمرأة المرغُوبة اجتماعيا، إذ انتهجن سبيل الإعلان الواضح للدعوة للتغير، والتحفيز على المبادرة والعمل تجاه الهدف الواحد: إثبات الوجود والكيان، وبعيدا عن ضجيج مُعاركة الرجل الذي يمر بذات الظرف التاريخي إبان سياسات القهر والظلم في أعقاب سنوات الاستعمار أو هيمنة القواعد والادرات العسكرية الأجنبية، ولعل شواهد ذلك ما عمرت به زوايا الصحف كقناة مُؤثرة بصداها المبكر والنشط في مجتمع أعترف مواطنوه بدور ما يُقدم فيها من رأي ورأي آخر، حيث فعلُ الصحافة في ليبيا (منذ 1866م) وكان لها حضورها وتفاعلها فقد أوجدت مناخها وحالة تعاطيها كمساحة للديمقراطية والكتابة الحرة حيث الأحزاب والتكتلات الليبية كانت منبرها، وتتالي طرحها لكثير من السجالات والمعارك التي تجاذبتها الآراء المُؤيدة والمُعارضة لتعليم وعمل المرأة بدأً من صحافة الأربعينات وما بعدها، إلا أن بعض رجالات ليبيا المُستنيرين فتحوا لأرائهم ووجهات نظرهم لأن تجد صداها في محيطها الاجتماعي المُتردد بين حجبها وسفورها، وبين الحجر عليها أو منحها حريتها، ومن رموزها آنذاك: أحمد الحصايري، ومحمد فريد سيالة ،وعلي مصطفى المصراتي، وسعيد السراج، وغيرهم من تفتح وعيهم بضرورة تحقيق التنمية والنهضة بوجود نصف المجتمع سليما وليس مشلولا ومعطوبا، وقد تحولت نداءاتهم الى أفعال مُشجعة وداعمة لوجودها بمحاذاتهم ليصير العمل النهضوي ذو شراكة إنسانية دون تحيز أو عنصرية.
ورغم ذلك لم يكن مشوارهن سهلا انتزعن تلك الحقوق انتزاعا، وواجهن بضراوة خياراتهن، وشاهد ذلك مسيرة في الخمسينيات قادتها طالبات ثانوية وهن يجبن شوارع بطرابلس منددات بأعمال المُحتل الفرنسي في الجزائر، ثم يصحن في وجه بوليس القمع (يا بوليس شن تبي فيا مانبيش الفراشية)، ثم مسيرتهن للمطالبة بحق الانتخاب، ولتستجيب حكومة المملكة وتصدر قرارها بحقها الذي يؤهلها للمشاركة السياسية واتخاذ القرار عام 1964م، كل ذلك الحراك تلمسن عن طريقه خطوات لأجيال من النساء المُتابعات للمسيرة إذا شهدت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين نشاطا صحفيا وأدبيا ببروز من تعدين مرحلة التأسيس التعليمي المعرفي، فمن زاويا (صوتها) و(ركن المرأة)، و(النصف الآخر)، و(شؤون المرأة) التي بدت ضرورية في مرحلتها كمشروع تجذيري لغرس الوعي،ومُحرك مُؤثر ومُفعل للتشريعات القانونية التي تخصها كمواطنة لها مكانة ودور اجتماعيين يتطلب حصولها على حقوقها، إلى ماهو محرك للمجتمع ككل، فمن كتابة المقالة النقدية الى الخاطرة والقصة ثم الرواية، وتوثق الكاتبة شريفة القيادي في دراستها (رحلة القلم النسائي الليبي) مؤكدة أن هناك ظاهرة تستحق التسجيل عام 1968م بالنسبة لتاريخ نضالها بمشاركتها الفعلية في المؤتمر الأول للأدباء والكتاب الليبيين (إذ تصير السيدة رباب أدهم أحد المُقررين في هذا المؤتمر، والسيدة خديجة الجهمي عضوا في لجنة دراسة موضوع نضال المرأة وأثره في الأدب الليبي، أما الأخوات خديجة عبد القادر ،وسالمة العجيلي، وزكية أبو زعيك فهن أعضاء لجنة دراسة مشاكل الأديب الليبي، كن يصنعن تاريخ نضالهن من اجل حقوقهن التي رأينها ضرورية ومشروعة، كن ينحتن سيرتهن خارج فضاء العزلة من حيث هي ظلام الجهل، ومرارة الصمت، والارتهان للسائد، والإذعان للأمر الواقع. فتارة كان التدوين الآن مُشافهة الأمس، ففي سيرتهن كراويات للسرد الشعبي ، حاملات السر، من واجهن العُزلة بالعناء والعمل وكن في دائرة الفعل، وبالحكي والشعر والغناء، فالشفاهي بوحهن المُشرع والمُعارك،ليكون رسالتهن للأجيال لتشكيل مفاهيمهم للحياة الحرة الكريمة، وللتأسيس للوعي القيمي المطلوب في مجتمعهم، كن مُعلمات في مسرحهن وبما توافر لهن نَسجنَ وشَكلنَ لوحة الأمل في المستقبل، حين كانت فُرص العلم ضنينة على الرجال فما بالكم بالنساء لكن ذلك لم يمنعهن من النقش على الحجر، وليكن لهن دورهن الخاص كما المدرسة تُؤسس بما توفر لها لكيان وهوية تلاميذها القادمين.
ومن خلال الحوارات التي أجريتها مع سيدات جليلات فاعلات في مشوارهن الذي امتد عند بعضهن لعقود من الاشتغال والانشغال بقضيتهن (قضايا المرأة والتحرر)، سنتلمس في سيرة خطوهن سواء المُشافهات أو المُدونات – إذا جاز لنا التعبير – مُشتركهن: الحماس والإرادة وجُرأة المبادرة، واضعات نصب أعينهن أهدافا ومشاريع، فخطوة تتلوها خطوات توسع من دائرة المُتحقق لهن، ولعل ما يُلفت الأنظار أيضا من خلال القراءة المتأنية للسير الواردة لهن تبنيهن لأهمية فعل الكتابة التوعوية، فقلمهن شكل في دعوته المُحرضة على النهوض وسيلة أساسية لفعل التنوير والاستنارة للأخريات اللاتي تهيبن المسير، وتشكيل رؤيتهن لذواتهن وبلورة علاقتهن بالمحيط آنذاك بما يدفع إلى إلغاء الإقصاء والتهميش، وتأكيد حضورهن في خارطة الوطن.
___________________
(*) مقدمة كتابي (نساء خارج العزلة) صدر 2012، وهو سيرة نماذج من رائدات النهضة النسائية الليبية ويحوي مايقارب 80 أسماً لمن شاركن في الحراك التنموي الأجتماعي، التعليمي، الكشفي، المدني، على مستوى البلاد، وقد تم منع الكتاب من التداول من قبل رقابة المطبوعات بطرابلس، وتُركت صناديقه مغلقة بالشمع الأحمر! في مخازن مركز الدراسات والبحوث التاريخية (مركز الجهاد سابقا) رفقة أكثر من (12) إصدارا آخرين لأساتذة وباحثين في أكثر من مجال، وحُجة المُصادرة إرفاق المركز لاماكن وظائفنا مُدرجة تحت أسمائنا كمُؤلفين (كمثال جامعة الفاتح!) علما بأن المخطوط تم تسليمه للمركز قبل الثورة 2011 بأشهرٍ قليلة.
نشر بموقع ليبيا المستقبل