الطيوب | حاوره: رامز النويصري
يعكس تنوع الأصوات الشعرية في ليبيا، والحديثة على وجه الخصوص، نضج التجربة الشعرية الليبية، من خلال ما نطالعه من أصوات شعرية تحمل من سمات الفرادة الكثير.
وإن كان ضيفي يخالفني، فيما يخص تصنيف قصيدة النثر، إلا أن هذا الجنس الإبداعي، أضاف للمشهد الشعري الكثير من التنوع، وأبرز مجموعة من الشعراء المهمين محلياً وعربياً، واستطاع أن يحول ذات الشاعر إلى ذات تجد حضورها في كل الموجودات.
الشاعر حمزة الفلاح، شاعر ينحاز بقوة للنثر، ويرى أنه نص يملك الكثير من القدرات والإمكانيات. تمتاز كتابات الفلاح بالسلاسة، فهو شاعر كريم، يمكنك من أول جملة الجلوس على كرسيه مراقبة المشهد من ذات الزاوية.
في الحوار الذي جمعنا، قبلاً في بنغازي، واستكملناه على طيوب، حاولت استجلاء رؤيته للنص الشعري، وقدرة النثر على التميز!
بداية؛ ما القوة الكامنة في النثر: قصيدةً ونصًا؟
وهل للنثر علاقة بالذات أكثـر منها بالموضـوع، بعكس القصيـدة العربية التقليدية؟
القوة الكامنة في النص النثري. هذهِ المفردة (القوة)، مفردة لا أفهمها في وجود نقيضها. نحنا بمثل هكذا تخصيص نعيد طرح إشكال التعصب لشكل دون آخر، والاعتماد عليهِ كليًا – إذ لا يجب الاتكال على النثر لقول كل شيء. النثر نصًا وقصيدةً؛ أداة تستفردُ بخدمةِ وقتها وحاجاتهِ لإفراغ زمنها كما غيرها. ففي مُقابل القوة نجد الضعف وهذا بحد ذاتهِ يطرح سؤالاً طارئًا عن الوقت الذي سيستهلك فيهِ هذا النص قوتهُ. حول قصيدة النثر يلفت انتباهنا المترجم تحسين الخطيب في حوار عام 2016، أجراهُ مع الشاعر الراحل تشارلز سيميك، بسؤالهِ عن الشيء الذي قد يجعل من قصيدة النثر قطعة كتابية جيدة مُعيدًا من خلال طرح الشاعر السجال القديم حول طبيعة النثر في مقابل الشعر، والحدود التي تفصل ما بين النوعين إذ يقول : “بأن النثر ذو نزعتين مُتناقضتين الأولى ترغب في قص الحكاية، فيما ترغب الأخرى بتجميد اللغة- إذ أن الأولى (النثر)، تُفرغ ما في جبعتها بصورة ترابطية ومتواصلة إلى أن تنتهي بنا بما يتوجب قولهُ أو معرفتهُ ، في مقابل الثانية (الشعر) القابلة إلى إعادة القراءة مرات ومرات مخافةً من أن نكون قد أضعنا شيئًا مهمًا – إذ يلازمنا الشعور حيالهُ على الدوام بوجود شيء أكثر مما تراهُ أعيننا – فقصيدة النثر تُقرأ بالطريقة التي يُقرأ فيها الشعر وتحال إلى الذاكرة – بشرط أن تمارس هذا العمل لتكون قطعةً كتابية جيدة.[*]“
النص النثري لا يعدو كونهُ ساعةً رملية أكثر متانةً؛ عما سبقها من ساعات صُنعت تروسها في معامل مختلفة للتعامل مع غرض واحد، وهو الغاية من وراء النظم في القصيدة العربية التقليدية، منذ عصر تحشيد الجموع في الساحات للتسابق والاستعراض في مخاطبتها لفرد أو قبيلة، وإنما النص النثري اليوم – نص متعدد الأغراض – عملي، وأكثر انفتاحًا – فعل إبداعي يُخاطب كاتبهُ قبل الوصول إلى الآخرين والتغلغل في حواسهم، ولا أظنهُ يسعى إطلاقًا لغاية عدا فتح حوار طويل مع صانعهِ، قد يكون هذا الحوار بمثابة اكتشاف غير مهم للعالم – عن سهولة غسل الصحون وصعوبة ترتيبها بعد ذلكَ، لهذا هو جمالي وليس بحاجةٍ لمنصات كي يُسمع، ويعتمد كما كتابتهِ على الصمت المكثف، والتفكير الطويل، والقراءة المتأنية. هنا تكمن جماليتهِ اللا مشروطة – لا قوتهُ أو مدى تأثيرهِ؛ فهو يُترك ويُنسى بسهولةٍ كغيرهِ كما مصادفتهِ على الرصيف في منتصف الليل، ومتعدد لأنهُ يُبدل جلّدهُ حسب الغاية والموضوع، وهذا ما يعرف بمساحة الناثر الجيّد – القادر على التحكم بوعي النص للمحافظة على انزياحهِ الشعري لا وعيهُ الخاص. يمكن القول بأن النص النثري مصاص دماء – تمامًا هو كذلكَ، وصديق مستهتر يدفع صاحبهُ من فوق جسر ليواجه المحيّط، في هذه المواجهة يتلاشى كاتب قصيدة النثر؛ أثناء ارتطامهِ بسطح الماء الصلب؛ ليتشظى كل جزء صغير إلى أجزاء وحيدة ومتناثرة – أمام نزعة إجبارية فكرية تُحال إلى ما يسمى في الفكر الدولوزي “بالاستفزاز المباشر للحواس والمخيلة والذاكرة”، ولأننا نتفلسف هنا في محاولة تعريفهِ سنجدهُ بعيد عن تقديم الأفكار قبل فلترتها من الصرامة، والتوغل الطويل قي قول الأشياء بلا معنى ، وهذا ما يبدع مفهومًا جديدًا لفكرتنا كليةً عن النثر في ليبيا إذا ما أردنا؛ إعادة التفكير فيما نكتب – قبل البدء في أي مشروع نثري للكتابة.
أما عن علاقة النثر بذات أكثر منها بموضوع؛ يصّر (عزرا باوند، وويليام كارلوس ويليامز)، على ما يعرف بتقنية التعامل المباشر مع الشيء سواءً أكان ذاتيًا أو موضوعيًا، وفي الوقت الذي نتحدث فيهِ عن ترابطية لا فكاك منها عند ذكر مُفردة (علاقة). الذات والموضوع – يمكننا التعامل مع هذهِ التقنية دون الحاجة إلى الفصل، فالنص النثري يعتمد على ما يعرف بأداة الملاحظة اليومية – إنها أداة حساسة ولتنشطيها تحتاج إلى تدريب متواصل على رؤية شاملة؛ شأنها في ذلكَ شأن الممارسات التأملية، إذ أنها لا تستجيب وتتفاعل إلا مع ذات مُلاحظة بالضرورة لاستخراج الكامن في الداخل المعرض لعوامل الخارج باستمرار – هذا الاستخراج قد يوصلنا إلى تراكيب متنوعة ، ومتفردة إن جاز التعبير، وهذا الوصول بحاجة ماسة على الدوام للملاحظة الدقيقة، لكي يمنحنا مساحةً للتأمل والتوسع داخل النص كذوات أُخرى مُشاركة، أي بمعنى يُمَكننا النص النثري المُلاحظ من فتح أبواب أُخرى، والتفكير فيما ورائها. هناك كُتاب من هذا النوع يسحبونكَ من قفاك لتتعلم، ولا ينغلقون تمامًا على نصهم وكأنهُ القطعة الذهبية الوحيدة خارج الرقعة، إذ يمنحوننا في هذا النص فرصةً كاملة لللعب جميعًا – مبتعدين عن أنانيتهم في محاولة قول كل شيء، وهناكَ من ينغلقون في نصهم، حتى أنهم قد لا يسمحون لأنفسهم بالدخول من بابهم الرئيسي – إلا بصعوبة بالغة، وحالما يخرجون يحرقون ما ورائهم.
هذا الانغلاق ؛ هو انفصال الذات عن موضوعها – أنا أكتب ما تفرضهُ الذات على الموضوع المتعدد الأوجه بوعي جزئي، لا ما يفرضهُ الموضوع على الذات وهذا هو الاقتراب، وتفعيل الملاحظة الذاتية لكتابة الموضوع بصوت الموضوع ذاتهُ لا بانكماش الكاتب، وانزوائهِ نهائيًا للقبض على الفكرة بصرامة – أُكتب ودعني أُفكر ، فأنا كقارئ؛ في غنى عن اكتشافكَ ككاتب بقدر اكتشافي الخاص في نصكَ للعثور على الدهشة التي تخصني أيضًا في الموضوع الذي يُطرح أمامي كي أنظر للأشياء بطريقة مختلفة لم أعتد عليها – يقول جاك كيرواك صاحب أطول قصيدة نثرية في عصرهِ حول هذهِ النقطة أن ” التفاصيل سبرة حياة النثر”، في حالات الامتزاج بالموضوع عند الحديث عن الحزن مثلاً وعلاقتهِ بجورب ممزق، أو عن الحرب وعلاقتها بالاستمناء، أو عن الخذلان وعلاقتهِ بجنين في بطن أُمهِ ؛ يستعد لأن يدلق كماء متسخ في الشارع ، وإنهُ لخيط رفيع هذا الارتباط، وبحاجة إلى قدر من الخبرة والحسية لدى كاتب ما، ليتمكن من شدهِ دون قطعهِ ما بين ذاتية النص من عدمها ، ليكون الناثر المُلاحظ أشبه في ذلكَ؛ بصياد عاطل مُصاب بالإنتظار لترويض سمكةٍ، ستزداد عنفًا وتموجًا في البحر كلما اقترب من اصطيادها بعود من القصب.
وبالحديث عن القصيدة العربية التقليدية فكما أسلفت ساعة استوفت حاجاتها ووقتها، فالقصيدة العربية التقليدية كتبت لغرض واحد، وانحازت من البداية لغرض واحد (المال، والغلبة) فهي تملك موضوعًا؛ الهجاء، الرثاء، المدح – إلخ كلها موضوعات لا تملك ذاتًا، بقدر ما تملك وعي صانعها على تأكيد جدارتهِ با عتراف السلطة والسيف. إنها قصيدة الاستنساخ ففي هذا الصدد يشير الكاتب عبدالفتاح كيليطو إلى “مفهوم الغرض كموضوع رئيسي للنظم في القصيدة التقليدية، بإحالتها إلى الثوب الذي تُعاد خياطتهُ كلما دعت الحاجة، إلى إلباسهِ على مقاس المتلقي أميرًا كان أو وزيرًا أو قاضيًا كلٌ بحسب رفعة مكانتهِ مع مراعاة الألفاظ، التي ستيوجب على الشاعر تضمينها والسير في خطها فاللمدح ثمن وللهجاء ثمن وأقلّها وجودًا في الموروث العربي تلك القصائد التي لا طائل من ورائها في حق الأموات”*، وإنما عن ذاتية النص النثري ؛ هي ما يمكن وصفهُ با ستعارة دولوز عن العمق والسطح في كتابهِ (الاختلاف والتكرار) ، بقولهِ :” يبدو أن القعر يصعد إلى السطح من غير التوقف عن أن يكون قُعرًا”*، فالنص النثري قعر وفخ لا يبدأ قبل خلخلة الداخل والخروج بهِ إلى الأعلى مع المحافظة على هذا الداخل كمستودع لا مرئي ولكنهُ موجود.
إذن، هل هناك تأثير للقالب على النص (نثر، بحر شعري)؟
علينا الحديث هنا قبل تناول القولبة إلى زمن ظهور الشكل فالبيت الطويل، وقصيدة النثر، والتسطير العفوي الداخلي، والمتصل الموسيقي هي أشكال فرنسية من القرن العشرين، وكذلكَ في الشكلانية الفرنسية في القرن التاسع عشر*، والآن نحن أمام سؤال مهم اليوم كشعراء شباب في ليبيا ماذا نكتب، وأي شكل نعتمد فالشكل يمنح التسمية بعيدًا عن التقنية التي سينتهجها الشاعر فيما بعد عند كتابة نصهِ، والإجابة هي أن الكثير لا يعي أين هو من قصيدة النثر فالظاهر هو عبارة عن مُحاكاة شكلية يمارسها الكثير لإكثارهم من قراءة الشعر المترجم – والمحصلة تشابه شكلي دون تجديد أو استعارة تقنية أخرى لكتابة القصيدة النثرية، فالقولبة في نص اليوم لا تفرضها العبارة المكتوبة أفقيًا كانت أم عموديًا ، وإنما تفرضها هذه المحاكاة الشكلية دون وعي، أوحاجة الكاتب لكتابة النص على نحو ما – إذ لا بد للكاتب من الشعور بالحاجة إلى كتابة نصهِ بتقنية يرى بأنها تفيد البيت الموضوع على الصفحة التي أمامهُ، ففي مجال التجريب أُقحم الشعر الحر سابقًا وفق البحر والوزن بذات الآلية في النص العمودي التي تعتمد على التفعيلة، فالفكاك من هذا القيد ليس بالأمر الهين، وبالعودة إلى حاجة الكاتب لقالب محدد في رأي ؛ بأنها قدرة يمتلكها كاتب ويفقدها الآخر، ففي نص اليوم نحن لسنا بصدد الحديث عن قالب لتعريفنا ؛ بأن هذا النص شعرًا كان أم نثرًا – بقدر حاجتنا للحديث عن أسلوب فني. وعلى كل حال فإن جدلية الشكل تفكير قد تقادم عليهِ الزمن ببساطة. اليوم يمكننا كتابة سيناريو شعري، مقال، أو رواية بحثية تعتمد على الاستطلاع أو تقريرية، وهذا امتياز يحسب لنص اليوم على ماسبق، ولكن السؤال الملح إلى جانب التقنية هو ما مقدار الأدبية التي تدفعنا في أي شكلٍ كان تجاه الترحال فنيًا؟ فمقدار الأدبية في النص هو عامل الحسم ما بين الاعتيادي، والمتفرد لا القالب – فهذا المقدار الأدبي هو الانزياح الحر دون الشعور بالقلق من فقدان الخيط في كرة الصوف عندما تتبعثر، لنعيد تهيأتها كما كانت، ففي حديثنا عن قالب نعود للوراء للحديث عن شكل يؤثر في النص – لا المضمون والأفكار التي تحركهُ في إهمال صريح لقدرات الكاتب، ولكن بمعرفة الشكل وهو أمر أساسي ابتداءً يأتي التجديد دون الالتزام، فالشاعر على وجه الخصوص المعرض لخطر التقادم، هو الوحيد الذي بيدهِ أن يهدر طاقتهُ الابداعية في شكل لا يستساغ اليوم عند الشريحة الأكبر من القراء، لهذا كان الانتقال والتغيير قدرة يمتلكها كاتب دون آخر – للخروج ومواكبة حاجتنا اليوم للنص وحدهُ بعيدًا عن القولبة.
لنتوقف مع تجربتك الشعرية: يغلب على نصوصك الذاتية؛ كيف تفسر ذلكَ؟
في ذات السياق؛ كيف تفسر شعور الاغتراب في نصك؟
لا شك في ذلكَ؛ أنني أكثرُّ ميلاً إلى الذاتية في نصي. هناكَ أشعرُّ بقدرتي على الحركة، وعلى فهم ما يحاصرني من أجل الوصول بالفكرة المستعدة بأن تكتب، وأن تعبر بحريةٍ عن نفسها – فحريتها من حريتي، وعلي أن ألاحظ قبل أن أفسح المجال للذاكرة والمتخيل؛ فما يهمني هو خلاصي الشخصي من الأيام الكئيبة التي نعيشها عند التعبير عن ذاتيتي المرتبطة بالموضوعات التي أتحرك في نطاقها – البازل الخاص بي، ولكنني رغم ذلكَ لا أحبذ الاستفراد المطلق، وهناك أحاول منح حالتي سلوكًا بعينهِ للتحكم أثناء الكتابة مع الالتزام بالموضوع وهو محور تركيزي، فلا تساورني الرغبة إطلاقًا في الحديث عن أشياء لا تخصني ، ولعل هذا السلوك بمثابة هوية لنصي أحاول تثبيتها – عندما أواصل التفكير والتساؤل؛ عما يمكن قولهُ في الفضاء المحدد سلفًا وهو المدينة وعلاقتها بغرفتي – إنها علاقة الخارج المسيطر على الداخل، وعلى إثر ذلكَ أجدني دائم الفرار من الشوارع إلى البيت والعكس – حالة من الكر والفر المستمر مع المراقبة المتواصلة لما يحدث طوال الطريق، وأظن بأن هذا ما يفسر الاغتراب في نصوصي؛ فأنا بالكاد أستيقظ وبصعوبة بالغة كل يوم متسائلاً ماذا أفعل هنا ؟ ولماذا أكتب من الأساس – فهو حالة شعورية تمثلنا أصدق تمثيل فكلنا في صراع مع أنفسنا، ولا شيء يشبهنا في هكذا مأساة.
ثمة من يقول؛ إن الشاعر في هذا العصر يقوم بدور المراقب؟
ما هي حدود حركة الشاعر في المجتمع؟ وهل ثمة دور للشاعر في المجتمع من وجهة نظرك؟
كل شاعر مراقب بطبيعتهِ، وعليه أن يكون كذلكَ وإلا ماذا سيخبرنا، فهو مُلاحظ ولابد أن يكون ملتزمًا في مراقبة كل شاردة لقول شيء، وإلا لن يتحقق شرط الاستفزاز الذي يحرك الحواس، ويدفعها إلى تحويل كل ما هو تافه إلى قصيدة. وهذا لن يتأتى بسهولةٍ، مالم يمتلك القدرة على مراقبة تحولاتهِ أولاً، وإحساسهِ المتبدل في كل متكرر يراه يوميًا، فهو أشبه بالتدرب اليومي، والروتيني على التأمل بالنظر ما وراء عينيه. أما عن حدودهِ فهي مفردة لها بعد أخلاقي – أي حدود تلك التي تمنع شاعرًا من أن يتبول في قصائدهِ مثل كلب في الشارع – عليهِ أن يرفض ما يسنهُ المجتمع ، ويخبرنا عن معايشاتهِ الشخصية من خلالهِ – المجتمع يقول أننا لا نعيش في غابة وعليك الالتزام بالحدود والشاعر يقول : سأخلق لكم غابة تمثلكم جميعًا ، وبالحديث عن دورهِ؛ سيظل الشاعر كائن غير مرئي؛ وهو من يقرر ذلكَ بأن لا يكون مرئيًا – الدور صفة مرئية تأخذ شكل الالتزام، وفي هذا الصدد هو أبعد ما يكون عن تقييده، وليس عليهِ أن يلعب دورًا ما – ما عليهِ فقط هو أن يكتب وهو بهذا يلعب دورهُ الخاص. كثير من الشعراء والكتاب لعبوا أدوارًا مرئية ارتبطت معظمها بالعمل الثقافي والسياسي، وآخر الأمر عادوا إلى تحفيز فردانيتهم وتقديمها على كل شيء.
دعنا نوسع الدائرة قليلاً: كيف ترى التجربة الشعرية في ليبيا؟
ما هي أهم ملامحها، واتجاهاتها من وجهة نظركَ؟ وأين تضعها على خارطة الشعر العربي؟
تحيلني كلمة تجربة إلى التفكير في كلمة مشروع، وفي سياق الحديث عن النثر، لا أرى في ليبيا للنثر أي مشروع. إننا وعند الحديث آنيًا نتكلم عن حالات فردية تكتب القصيدة وربما تستمع بها. إن خضوع بلد ما للنقد والفضيحة ثقافيًا وسياسيًا؛ يحتاج إلى جماعة ما تواصلية – فشرط المشروع هو التواصل أدبيًا وفكريًا لتحقيق الغاية برؤية موحدة – تخرج هذا المجموعة وتعلن من خلال منشور على حائط الفيس بوك؛ بأنهم من الغد سيمثلون المشروع الجديد لقصيدة النثر في ليبيا – بصوت مختلف كليًا. في عام 1957، كان لمثل هكذا ظاهرة اجتماعية وجود على الساحة الأدبية في أمريكا بفضل جاك كيرواك، آلن غينسبيرغ، وبوروز. ماذا فعلوا وكيف قُدر لهم بأن يكونوا كذلكَ؟ الأمر بسيط تحولوا عبر قصائدهم ورواياتهم إلى مدافع لتحطيم كل ثابت وكل قيمة يمثلها المجتمع الأمريكي وقتذاك، وهذا ما قالهُ بوروز عن رواية كيرواك “باعت تريليون زوجًا مـــــــن جينز ليفي، ومليــون آلة لصنـــع الإسبـــريسو، كما قذفت بعــــدد لا يحصى من الشبــــــان إلـــى الطــــــريق.” * إذًا نحن نتحدث هنا عن قلب ظاهرة اجتماعية غيرت تفكير العامة، وقُبلت مع مرور الوقت للدخول في التيار المجتمعي، ولكن كان عليها في البدء دفع ثمن الإقصاء، والاغتراب، والسجون، والحال في ليبيا كغيره في الوطن العربي؛ فعند الحديث عن كلمة مثل تجربة شعرية علينا أن لا ننساق إلى إطلاق المسميات بلا معنى، ففي ليبيا ينزوي الكثير ولا يمتلكون ذات الرؤى، أو الأهداف وهذا بحد ذاتهِ يصنع فردانية شخصية لصوت يعبر عن تجربتهِ وتراكمه المعرفي – ربما نحن اليوم نتدرب على كتابة نصوص أكبر وأعمق ستشكل للباحث والمهتم بالشعر تجربة في المستقبل، وسيسقط ويتوقف عن الكتابة الكثير أعدكَ بذلكَ ، فلا تجربة خاصة للشعر في ليبيا فنحن كغيرنا نتشارك مع الشعراء الشباب في الوطن العربي ذات المعاناة فلكل يعاني من الحرب والبطالة والصراع المرضي مع الغد، وهذا الأمر يعطي خصوصية الانفراد للتعبير كلٌ بحسب معاناتهِ، وبالفعل كان للحرب هذا الاتجاه المباشر والصاعد من التغيير على مستوى البنية الثقافية والاجتماعية الذي دفع بالكثير من الشباب الكتاب إلى اللحاق بركبهم الخاص ونصيبهم من المعاناة للكتابة – لكن دون مشروع موحد يعتمد على المجاهرة والاتصال المباشر.
كيف علاقتكَ بإصداراتك، وما الذي تمثلهُ لكَ؟
أظن بأن ما صدر لي حتى الآن ينطوي على علاقة متنامية إن جاز التعبير، فكل واحد من الكتب الأربع قاد إلى ظهور الآخر – ففي مجموعتي الشعرية الأولى ( حارس المدينة المتعبة )، كان لأثر الشعراء الذين قرأت لهم في البدايات حضورًا لافتًا على مستوى تكوين الجملة والرنة الموسيقية، والتي إلى الآن مأخوذ بها إلى حدٍ ما – إلا أنني مع تزامن رغبتي في كسر هذا الحاجز، على صعيد المفردة والنغمة كنت بحاجة لأكتب نصًا مُختلفًا أشبه بشيء بعيد عن الإيقاع تمامًا، وهو ما جهدت كثيرًا في جعلهِ ظاهرًا في المجموعة الثانية ( ثلاث تأشيرات مرفوضة )، والملفت في الأمر بخصوص هذا الديوان أن أبي كان من ضمن الذي لم يعجبهم إصراري على هذا الانزياح للتخلص من الإيقاعية في نصي، فهول يفضل الأول على الثاني لهذا السبب تقريبًا، أما عن كتاب اليوميات ( بحث عن مفقود في غرفتهِ )، كانت فكرتهُ نابعةً من تجريب كتابة يومية – تعتمد على الملاحظة الدقيقة لليوم والشعور في شكل قصة قصيرة ربما – مدونة بالتاريخ فقط بعيدًا عن السنة لإفساح مجال لعمل الذاكرة في استجلاب أمراض قديمة ودمجها بالجديد منها – هذا الأمر خصيصًا قادني في اتجاه السرد في بعض من نصوص الكتاب حتى جاءت فكرة روايتي الأولى غاندي، وهي سيرة عن جدي الشاعر الغنائي الراحل عبدالحميد الشاعري صاحب رائعة ( سافر مازال )، وتعتمد فكرتها على دمج ما بين ماضي الشخصية الروائية، وحاضر الراوي في رحلة أشبه باكتشاف للشخصية وما يربطهما، لأدخل بهذهِ الرواية معترك السرد أخيرًا، وبالمناسبة الرواية لم تعجب أمي على الاطلاق، وإلى اليوم أسعى جاهدًا لشرح فكرة العمل، وعلى سبيل القياس فإن علاقتي بما انتجت جيّدة على الصعيد المهني كبداية لمزيد من النتاج ، وسيئة على الصعيد العملي على مستوى النشر. فهذهِ الكتب لم يحالفها الحظ كثيرًا في التوزيع، وسأبتعد عن الدخول في تفاصيل النشر التي لا طائل من ورائها، فموضوع النشر في ليبيا، أو خارجها يحتاج لكتابة سلسلة مطولة من المقالات التي تحمل عنوانًا عريضًا (كيف يُخصى الكاتب قبل أن يبدأ التفكير في أن ينشر كتابًا)، أما عما تمثلهُ لي فهي بالتأكيد معنويًا – مرآة صغيرة تخبرني شيئًا عن نفسي، ولعل هذا السؤال تحديدًا مرتبط بالسؤال السابق. كيف يمكننا نحن الشباب اليوم التعبير عن موجتنا الفنية في بلد يكره الكتب، والفن بشكل عام فلا وجود لقنوات تمكننا اليوم من إفراغ ما في جعبتنا تواصليًا سواءً بالحوارات الثقافية، أو النشر في الصحف، والكتب في وسط عدائي كهذا يمنح كل مُدعي – سلطة الظهور على حساب الكتاب الجيدين دائمًا وأبدًا برعاية سماسرة الثقافة، وفي واقع الحال نحن أمام تفشي هذهِ الظاهرة – الادعاء كما أصفها – نحن نتحدث عن أمر واقع وإشكال قديم مرتبط بجميع الفنون – تجدر الإشارة إلى الحوارية التي أُقيمت مؤخرًا مع الاستاذ الشاعر مفتاح العماري حول تجربتهِ وما تضمنتهُ حول حال القصيدة والشعر في ليبيا إلى أنها حدث مهم وبارز وسط الفوضى – هذا الحدث الذي يجدر بأن يكون نقطة انطلاق وتلاقي لمزيد من الحوارات التفاعلية الثقافية، ولكن بالنظرة الفاحصة لحقيقة المشهد من خلال كاميرة DRONE، سنتذكر ما أخبرنا بهِ العماري حين قال “كل شيءٍ في غايةِ الفسادِ والأُبهة*“، ونتبين كمية الثراء الفاحش في تقديم الاسفاف على مستويات أعلى ليس في المشهد الثقافي وحسب، ولأنني قد أبدو متشائمًا في هذا االسؤال تحديدًا، وفي المقهى وفي الكتابة، وفي المطبخ عند الأكل – أكره السؤال البديهي إضافةً إلى ما سبق؛ عن دور الكاتب الجيّد المقاوم في مقابل السيء المستشري في جسدنا، فنحن حقيقةً في القاع ثقافيًا فنيًا اجتماعيًا وسياسيًا في ظل اختفاء المعيار الذي يتم على أساسهِ فلترة كل هذا الغباء والردح في مختلف المجالات فالكاتب الجيّد في هذهِ البلاد “رجلٌ بأسرهِ يمشي وحيدًا”*
ما هي مشاريعك القادمة؟
تستهويني فكرة الكتابة عن ليبيا، وكذلكَ الرواية والشعر كلاهما يشكلان الآن قنوات للكتابة والتجريب.
كلمة أخيرة؟
شكرًا للقائمين على موقع بلد الطيوب على هذه المساحة للحوار.
حمزة الفلاح / م: 1991 – بنغازي
شاعر وروائي من ليبيا. صدر لهُ عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع (القاهرة)، مجموعتهُ الشعرية الأولى بعنوان: حارس المدينة المتعبة عام 2018. وعن مؤسسة براح للثقافة والفنون (ليبيا)، مجموعتهُ الشعرية الثانية بعنوان: ثلاث تأشيرات مرفوضة عام 2020، وعن ذات المؤسسة عام 2021، صدرت روايتهِ الأولى غاندي – رواية عن سيرة الشاعر الغنائي الراحل عبد الحميد الشاعري صاحب قصيدة سافر مازال، وكتاب اليوميات بعنوان: بحثٌ عن مفقود في غرفتهِ.
[*] أجر هذا الحوار المترجم تحسين الخطيب مع الشاعر تشارلز سيميك عبر البريد الالكتروني، وقد تطرق فيه الخطيب لجملة من الموضوعات المتعلقة بالشعر، ونشر في مجلة الجديد اللندنية بتاريخ 1/12/2016. ونشر الحوار في الجزء الثاني من مجموعة شعرية للشاعر بعنوان (الصوت في الثالثة صباحًا)، عن دار خطوط وظلال.
كيليطو، الكتابة والتناسخ المؤلف في الثقافة العربية. ت : عبد السلام بنعبد العالي، ط : 3، دار المتوسط.*
دولوز، الاختلاف والتكرار. مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.*
غينسبرغ، الأعمال الكاملة. ت : محمد مظلوم، منشورات الجمل، 2021.*
دراسة نُشرت عن جيل البيت في أمريكا عن دار ألكا بعنوان : ألهة التمرد والجنون. ت : فرح شرف، 2019.*
شطر من قصيدة العماري (رجل بأسرهِ يمشي وحيدًا)*
عنوان قصيدة للشاعر الليبي مفتاح العماري، وهي عنوان لمجموعتهِ الشعرية التي صدرت عام 1993، عن دار غربة، لبنان. بيروت.*