بقلم: فضة الشارف
3-الزمن الوجودي:
تنبثق ثنائية بناء الزمن متخذة بذلك التأملات المفعمة بالحدس الذي تحركه غايات الدّاخل المتطلع لبناء الزمن الوجودي، محاولة الإفصاح عن وجودها، محملة رغبة الحياة، وباعثة إحساساً بالسكون والموت فيتجلى بذلك شعور الذات الكاتبة بزمنها وزمن القصيدة معاً وتعرب الذات عن وجودها في زمن له حركة أفقية مجسدة في النهار والليل حيث نطالع:
الليلُ يرتدي النهارَ
وهذا يتسلّلُ من دورةِ العناصرِ
هذه يتمثّلها الرجلُ سائراً
إلى فراغه والمرأةُ على مائه
ظلّهُ يبدأُ تحت عريشةِ ظلّها
ثمّ ظلّها
الموتُ والحياةُ بقدْرٍ دائرٍ
من يتشكّل بالآخرِ
الطفلُ أمْ اسمُهُ؟
خداعُ بصرٍ
أمْ
من الغبار كلّ هذه الضجّة.([1])
يجسد هذا النص فاعلية الزمن الوجودي مشكلاً ثنائية ضدية (الليل / النهار) تتخذ حركة خيال الشاعر لتضيء عتمة الباطن (النهار) الذي يسمو معانقاً السماء مجسداً الطهر، إذ يوحي النص بحركات زمنية متسعة فالليل يرتدي النهار في تواصل غير مفيد بآن ولا زال الزمن يتسع، ففي عبارة (سائراً إلى فراغه) يبدو مدى لا حدودية الزمن فالسير إلى الفراغ ديمومة كالأسطورة وعبارة (يبدأ تحت عريشة ظلها / ثم ظلها) أنها لا تناهي الحلم الشفاف المقترب من الأسطورة.
فالزمن هنا غير محدود إذن فهو وجودي وأكثر ما تتجلى وجودية خيوط الزمن في هذا النص في عبارة (الموت والحياة بقدر دائر) فلا ثبات عند نقطة، بل دوام واستمرار يشير في وضوح إلى وجودية الزمن المطلق الذي يحمل الإثارة والإغواء، وتظهر الذات قدرتها على امتلاك ناصية الزمن من خلال الرموز، ذاك ما نلمسه في قوله:
آخذاً ليونةَ الماءِ
براعةَ النار يأتلفُ الدمُ
صحراء ترافقني
تارةً حوليَ
تارةً حولها
ندخل مدينة المرايا
مَن هو انعكاسُ مَن
يذهبُ ذاهلاً
سوف يُهملُ وجهه مقبلاً على النهر.([2])
في النص كلمات رمزية (الماء / النار / الدم) مرتبطة بأساطير تحمل معها المقطع إلى فضاءات الزمن الوجودي، مستعيرة من الميثيولوجيا الغربية مادتها ونماذجها كما فعلت بأسطورة النار، فالنار في هذا المقام مصدر حياة. فقد جمع الشاعر يبن النار والماء وهذا التصور يحقق للنفس امتلاءها وللنص كماله([3]). أما المقطع الثاني فالصحراء هي الأسطورة التي يلج عبرها الشاعر متاهات الزمن الوجودي فهي ترافقه تارة من حوله وتارة من حولها وهنا يبدأ الحلم فيستخدم الشاعر عبارات تهرب به من حدود الواقع (تدخل مدينة المرايا) (يذهب ذاهلاً) يدخل في مسارات الزمن الوجودي، وهذا ما يؤكده قوله:
الكلماتُ
نارُها التي بلا لون
في شكلِ ألسنةٍ
استتار الخاطرِ
بكلّ عتمته التي تنبضُ
الاسم يضمرُ جسداً
قوْسُ القدْحِ الكبير
السرابُ بعضُ سقْطِهِ
بين جبلينِ
يحضنان الماءَ المهجور
جسدٌ من كلماتٍ من نارٍ من ألسنةٍ
ترقصُ يعمّدهُ الماءُ المهجور.([4])
توحي العتمة هنا بأشياء مختزلة في الذاكرة فهي فضاء لا متناه، وكذلك سقوط السراب بين جبلين يصنع فضاء وجودياً وحين ينضم إليهما (الماء المهجور) يبدو الزمن أكثر انفلاتاً من حدود الزمانية، ويدخل مساحات الأسطورة والحلم فيبدو فضاء الزمن الوجودي مسيطراً على أجواء النص:
الصمتُ دمٌ
الصحراءُ مَجَازٌ
تحينُ لحظةُ حُرْقةٍ
تمرّ الجبالُ
تألفُ الطرائدُ
أسلحةَ الناس يلوحون بأيديهم
وينسونَ تضافرَ لغاتهم.([5])
يبدو من لغة النص أنها تتمتع بشفافية الحلم، فمن الظاهر أن بعض الكلمات زمانية، مثل (صحراء لحظة) وبعض الأفعال (تحين) ولكن سباكتها الدلالية وسياقها النصي ضمن زمن وجودي غير متسم بالثبات أو الدوام، فستحيل أسطورة أو نبوءة خارجة عن الآلية التي تتطلبها أحياناً، لأنها توفر المدة واعتبارها زمن خلق، وهذا الزمن ينقلب هو الآخر إلى مدّة تحشده حشداً في ثنايا الذات([6])، وقد تجلى هذا في قوله:
بصلاةِ أي جبالٍ
في كفّيَّ
أُخبرُ عن سفر النجم الضّال.
في فجرِ الأعمدةِ
سوف يعود، متنهّداً
موغلاً في الحلُم.([7])
يتردد في النص عبارات خارجة من عقال الآنية كما في (سفر النجم الضال / فجر الأعمدة موغلاً في الحلم). وهذه العبارات تلغي الشرطية وتدخل النفس في زمن غير ميقاتي هو زمن أسطوري اصطنعه الشاعر فضاء لحلمه فجاءت القصيدة سابحة في فلك ذلك الزمن الوجودي الآتي من عوالم أسطورية بها كُتبت القصيدة.
__________________________________________________
[1]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص. ص: 41. 43.
[2]– عبدالمنعم المحجوب، عزيف، ص: 45.
[3]– عبدالصمد زايد. مفهوم الزمن ودلالته، ص: 128.
[4]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص. ص: 19. 20.
[5]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 35.
[6]– انظر: عبدالصمد زايد. مفهوم الزمن ودلالته، ص. ص: 126. 127.
[7]– عبدالمنعم المحجوب، عزيف، ص: 12. 13.