طيوب النص

إلى بنغازي…

مدينة بنغازي كما رسمتها الفنانة الإيطالية تيزيانا فانيتي
مدينة بنغازي كما رسمتها الفنانة الإيطالية تيزيانا فانيتي عن بوابة الوسط

عنفوان الريح وشواهد المقابر..  مدينة البراكين البشرية.. مرحباً يا مسقط روحي. مرتبكة.. أشعر بخجل يلفني إذ ما توغلت في وصفي مشاعري.. صحيح يا مدينتي لم تفرحيني لكنني حاولتُ بشتي الطرق افراحك.

تقول فاطمة أن جراحي ستندمل.. سوف يتفتح وجهي كوردة.. وتهديني الأيام سلاماً يليق بروحي الرطبة.. ربما سنفترق في الأيام القليلة.. لذلك يغشاني الحنين كموجة تمتد على شاطئ وجداني بلا هوادة.

سنفترق..  وهذا أكبر كوابيسي..  وحسبي ألا أجبن وأنا ملتصقة بك كالتصاق فاه طفل بثدي أمه.. وأنا البارة التي تحفظ تاريخك كما لا يحفظه أحد.

تعلمين.. كلما حاولت سرد ذكرياتي هنا تعالى الصراخ في وجهي.. في السابعة عشر رأيتُ القبعات الصفر في شوارع الماجوري.. وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها القتل.. لم أنسى الرصاصة التي غرست في قلب ذاك الشاب.. ويد أمي وهي تسحبني للدخول من أعلى سطح المنزل. حيث ثمة سيارة تيوتا تسير أمامه.. ورجال يهتفون وجثة تتدلي على مقدمتها…

ثم لم تكتمل الأيام حتي توالت النيران وسقطت الكتيبة.. فتعاظم في داخلي الخوف.. وكان وجه أبي مرتبكاً.. عم القلق المنزل والشارع والمدينة والوطن وقال بصوت جهور: “من يوم وغادي الدم للركب”. كان قلقاً.. يخفي قلقه بابتساماته..  وكنت طفلة لم أدرك بعد كيف صرخ القدر في وجهي.

أنا من ذاك النوع الذي يفخر بأحزانه.. ولعله يا بنغازي قدري لا يجعلني أتعامل مع الحياة كما يجب.. حتى أنني لا أعرف صورتي في وجوه الناس كيف هي.. ولا بأي زاوية ينظرون لي.. لكنني في نهاية الأمر ابنتك.. شئت أم أبيت.. وشئت أنا أم أبيت.. سقطت روحي هنا وهذا كفيل بأن أتصبغ بالمرسكاوي وأتمايل كما تتمايل بنات المدينة.. أنا البدوية التي جرجر الطليان إخوة جدتي.. ونفيت وجوههم في سُفن المحتل ولجدي بندقية تبيت في رف المكتبة. يا الله أي قدر أعطيتني ولماذا كل هذه الفصاحة، لماذا، أنجبتني زهرة في حقل بنادق!

مجدداً يا مدينة البراكين البشرية.. تعالي أحضنك حضناً طويلاً حتى يأتي موعد رحيلي.. حضناً يغسلني ويغسلك من أثر الخوف ورفرفة أعلام التكفيريين والعنصريين ومسارب الحرب وتكلس وجعها في عظمي…

تعالي يا بنغازي أبكيني وابكيك.. أبكي بيوت المهجرين والنازحين والتائهين.. وكل هذا الإرهاب النفسي الذي أكل دواخلنا الاجتماعية.. وخوفي وأنا أرتعد كل صباحاتي الماضية حينما أتحسس سيارتنا خوفاً من لغم زرع تحتها…

تعالي أبكيك وأبكي يوم انفجرت سيارة صديق والدي أمام جزيرة “الجعب” في وجهي.. آه وجهي الشاهد على الفواجع…

تعالي نندب حظنا معاً كندبي وجهي يوم مات العم عبد الفتاح وترجل بوخماده لمثواه الأخير…

تعالي ووجوه الذين أحب كلهم شواهد في جسدي نجسد سياسة الواقع.. وثمالة الشتات.. وهمجية مشاعرنا وأشياء كثيرة…

تعالي أبكي معك ولك وعليك وعليّ. وأنا قد أتعبني الظلم واتعبك، تعالي أنوح وتنوح دواخلي فوق هذا الركام.. وعلى الشابي نغتسل.. أنا مضطربة وخائفة وحزينة وغاضبة.. رغم كل هذه الصلابة الجذابة والقوة الحقيقية في دواخلي…

تعالي خوذيني كما لم يفعل أحد.. هدهدي قلب الطفل وفجيعة موت الرفاق وشتات فتيات المدرسة وأصوات الصواريخ المتساقطة وأنا طالبة أمتحن كل سنواتي الجامعية وذلك الاكتئاب الذي ابتلعني في نهايتها حينما فقدت البيت والناس وهذا الإنسان الواقف في داخلي وينوح كما ينوح الحمام وهذا الفنان الرقيق الذي يكتب لك الآن…

تعالي فأنا من نام وبيني وبين القناص خطوات حينما صدح صوت “رنا” يقول النوم أمام النافذة جريمة كُنتُ أراقب لون الرصاص الأحمر يغازل السماء.. وتكدس التراب وسواتره تشبه تكدس مشاعري بينما أردد: دعينا يا “رنا” نعد أظرف الإطلاقات الفارغة في عتبة النافذة والباحة والفائزة ستعد للأخرى كوب كاكاو…

تعالي نبكي حدائق التفاح، تُفاحةً تُفاحة وحديقة حديقة ونتتبع أثر نهر النسيان، وصوت خولة المختنق من هدم بيتها ووسط البلاد فأنا ذاكرتي أبحث لها عن زهايمر مؤقت…

تعالي احتضنك.. فلا يواسيني سواك ولا يشعر بك سواي.. تعالي احتضنك فأنا مرتابة كشجرة لم يكتفي الفأس من تجريدها اللحاء بل هبات الريح تود حقاً اجتثاثها…

تعالي فإن رحيلي عنك اقترب وأنا مضطرةٌ ومرتابةٌ! وعندي صرةٌ من ذكريات تتسرب من بين ملامحي عنوة ولا يمكن سدها بالصمت.! أنا لا أجيد الصمت يا حسناء عمري يا ملاذ قلبي يا ضحكتِ ودمي وأشياء أخرى، أني لا أجيد الصمت حتى أنظري شعري أبيض وبه عاث فساد الدهر كلما حاولت الصمت أنفجر شيباً ولم أدخل الثلاثينات بعد!

هذه لم تكن الرسالة الأولى يا مدينة البراكين البشرية ولن تكون الأخيرة سأكتب لك هناك حيث الغربة لن تعود مجرد وجع روحي بل جسدي أيضاً. احبك وأرجوا يا قلعتنا العجوز أن نزهر معاً كما تقول فاطمة وكما يحلم دائماً النيهوم.

2023م

مقالات ذات علاقة

طرائد الفينيق تغتالها السهام

عبدالسلام سنان

طفلة

المشرف العام

إلى رشا – 4

علي الخليفي

اترك تعليق