د. أريج محمد طيب خطاب

تنطلق القصيدة من العنوان (يقولون) باعتباره عتبة نصية لها دلالاتها المتعددة، وتكرر هذا اللفظ كثيراً في القصيدة الواحدة، وهو في الواقع قول مكرر معتاد، نصبح ونمسي على نغمه وترديده، فيضلل البسطاء، ويخدع العامة، لكنه لا ينطلي على من عرفوا هذا السياق، وأكلتهم نيران خداعه ومنطقه، ممن يدركون خداع هذا المنطق لكنهم يجارون صاحبه خوفاً أو طمعاً، وهو ما يظهر جلياً في قول الشاعر:
يقولون هذي البلادُ.. بلادُك
سِر حيث شئتَ
فأنت الأسدْ
ونحن القطيعُ
المطيعُ
البديعْ
نُساق إلى البيع يوم الخميس
ونُقتادُ للذبحِ يوم الأحدْ
وفي كل يومٍ
وفي كل وقتٍ
فما نحن إلا عدد
أو ربما جاءت هذه الكلمات من قبيل السخرية؛ فهذا الشعب قد سئم الكلام المنمق، ورسم الأحلام والأوهام، فقد مر بتجارب كثيرة لفقاعات أحلام صنعتها ألسنة أهل الحكم، ثم سرعان ما تكشفت لهم، وظهر أنها مجرد ذر للرماد في العيون:
يقولون هذي البلادُ.. بلادُك
فاصنع بنا ما تشاء
فنحن العبيدُ
ونحن الإماء
وويلٌ لرأسٍ تحسَّسَ بين القرونِ
وخلفَ الغشاوةِ
ثم أماط اللثامَ
وأدرك سِر الغباء
يحفز التكرار القارئ إلى الانتباه إلى دلالات القصيدة ويسلط الضوء تكراراً ومراراً ومباشرة على مقاصد الشاعر.
درج الشاعر في قصيدته على افتتاح فقرات القصيدة بكلمة: “يقولون هذه البلاد بلادك”؛ لتأتي بعدها العبارات مسترسلة في شكل كوميديا سوداء، إلا أنه في هذه الفقرة استخدم حرف الاستدراك (لكن)؛ ليكشف بصورة مباشرة عن اضطراره للمجاهرة والمكاشفة بعد أن سرقوا (أمانه) المتمثل في (مفاتيح بيته)، و(قوت يومه)، المتمثل في (خبزي وزيتي)؛ ليتدرج من المطالب الأدنى إلى المطالب العليا، بادئاً إياه بالحديث عن فقدان قوت يومه وأمانه، وصولاً إلى حرية التعبير، وهو مطلب رفاهي لمن فقد أمانه وقوت يومه.
يقولون هذي البلادُ.. بلادي
ولكنهم
أخذوا مفاتيحَ بيتي
ونهبوا من فمي خبزي وزيتي
وحرفين.. كنت أغنيهما كالنشيد
وحين صرخت استلوا لساني
وألقوه عربونَ حبٍّ لكلبٍ جديد
سلسلة من الإحباطات والشعور بالهوان، وهو ما يجسد إيمان الشاعر، ومن ثم إيمان المواطن بحجم الخداع الذي يعيشه واقعاً ويعانيه، بدءاً من ذاته وحياته الخاصة، حتى عموم الوطن برمته.
يتطرق الشاعر إلى استخدام السلطة، التاريخ، وأمجاد الأجداد والآباء، وكرامات الصالحين؛ لتنويم الناس، وصرف أنظارهم عن واقعهم الذي يفيض بؤسا.
فحين يخاطبون المواطن يعددون الخالدين، ويرددون صوت التاريخ، ويحصرون مآثر الوطن والمواطن، ورغم كونها حقيقة إلا أنها جاءت مثل كلمة حق أريد بها باطلٌ، فالوطن بكل تأكيد زاخر بالأمجاد والمفاخر التي سطرها الأجداد عبر تاريخ الوطن؛ لكن هؤلاء الحكام حوّلوها تجارة وخداعاً وتضليلاً، وكرروا ذلك مرارا حتى صارت أمرا غير مقبول.
يقولون هذي البلادُ.. بلادٌ
تعجُّ بمن علَّموا الفاتحين
وبالخالدين
وبالطيبين
ومن تُشرِقُ الشمسُ كلَّ صباح
لتخبرَهم أنهم صفوة العالمين
ولم يّخلَقوا أبداً من ترابٍ
وماءٍ مَهين
يقولون هذي البلادُ..
بلادُ الكراماتِ والصالحين
ولكنني لم أرَ الله فيها
ولم تك غير طوابير بؤسٍ بدت تتناسل من كائناتٍ تدبّ
وقد أدمنَتْ صمتَها والأنين
وغير فؤوسٍ
تحز الرؤوس
وشاهدةٍ قد كَتبتُ عليها:
لكم دِينكُم في الحروبِ
ولي في السلام وفي الحبِّ.. دِين
بذا يختتم الشاعر قصيدته بحوار في قمة التناقض بين عالمين، يخطو كلا منهما في طريق معاكس؛ لأن كلا منهما ينظر إلى الوطن من زاوية حادة.