طيوب عربية

نحن نكتب لأننا نحب الحياة ولا نكتفي بنسخة واحدة

مريم الساعدي | الإمارات

من أعمال التشكيلي الليبي_ عبدالرزاق حريز

“أنا أحب الناس في جازان، إنهم كرماء جدًا وطيبون، وأحسست معهم أنهم عائلتي..” كانت الطبيبة السعودية العائدة من أمريكا بعد سنين طويلة تتحدث عن تجربة عملها في أحد المراكز الصحية في جازان، “يمكن أن أعود للرياض، أحب العمل فيها أيضًا لكن بدأت أشعر أن أهل جازان أهلي ويعزّ علىّ فراقهم”.. “تؤيدها سيدة أخرى تعمل مسؤولة تسويق في شركة ناشئة في الإحساء وتتحدث عن لطف الناس في مناطق أخرى من المملكة والفرص المتاحة للنساء. كانت الأصوات تصلني مبهمة بين الصحو واليقظة، وكنت ألحظ اختلافات طفيفة في لهجة كل منهن، كن نساء يسافرن وحدهن وينتظرن موعد رحلاتهن القادمة، يتحدثن عن تجاربهن المختلفة في العمل والحياة والسفر وعن السعودية قبل وبعد. وكنت أحاول النوم في مصلى النساء في مطار الرياض بعد أن فاتتنا الطائرة الداخلية إلى القصيم. كان يمكن أن أذهب إلى فندق قريب لقضاء الساعات الخمس الفاصلة بين الرحلتين لكن خفت ألا أستيقظ وأفوت الرحلة مجددًا خاصة أني لم أكن قد نمت قبلها في أبوظبي، يومين من عدم النوم، ليست المرة الأولى، لكنها لا تصبح أسهل مع التكرار. كذلك لم أرد أن أتخلى عن كوثر وبلقيس وشذى؛ الكاتبات المشاركات في المعتزل واللاتي فاتتهن الطائرة بسببي حين دعوتهن لشرب القهوة في المقهى القريب من بوابة الإقلاع، فأخذنا الحديث وتركتنا الطائرة نرتشف فناجين القهوة ونمضغ الكلام.

حين وصلتني الدعوة للمشاركة في معتزل للكتابة في القصيم عبر الكاتب السعودي رائد العيد في تويتر، احتجت أن أبحث عن اسمه، فلستُ نشطة تويتريًا والمشهد واسع واطلاعي قاصر، ثم أسأل بعض الأصدقاء عن الأمر. سألت الصديق حسين الجفال والصديق حسن عبد الموجود، كلاهما شجعاني، ستعجبك التجربة يا مريم، اذهبي. كنت قد جلست للكتابة أخيرًا بعد انقطاع طويل وخفت لو سافرت الآن أن أحتاج لفترة طويلة للعودة مجددًا، مزاج الكتابة عندي متملص بسهولة لذا حين ألتقطه أحاول الانغلاق عليه. ذهبت مسبقًا إلى السعودية مثل كل المسلمين لزيارة الأماكن المقدسة، لكن هذا كل ما في الأمر، دعوة أدبية؟ فكرة جديدة، لنرى.

تخضع دول الخليج العربي عمومًا لوطأة مفاهيم عامة وأحكام نمطية مسبقة، فهي المنطقة الغنية بالنفط التي برزت في السنين الأخيرة وتقدمت بشكل مذهل، وأهلها مترفين غير مبالين بغير حياتهم الاستهلاكية؛ هكذا أفكار نمطية واجهناها كثيرًا في الشرق والغرب وحاولنا في كل مرة تغييرها قدر الإمكان حتى ينظر لنا الآخر بشكل إنساني بحت، كما نراه. والسعودية على وجه الخصوص خضعت لصور نمطية أكبر كونها الوجهة الدينية ولخصوصية وضع المرأة فيها. ولطالما حدد وضع المرأة في أي دولة موقع تلك الدولة في الخريطة العالمية وشكلها في الذهن العالمي.

حرصنا أن نزرع أنفسنا هذه المرة أمام البوابة قبل المغادرة بفترة كافية. حين لمحت شعر الكاتب الفلسطيني مازن معروف المميز بين المقاعد. كنت قد رأيته في الصور بعد أن فاز كتابه “نكات للمسلحين” بجائزة الملتقى للقصة في الكويت. حدثنا مازن بعد أن انضم إلينا عن رحلته الطويلة من آيسلندا مرورًا بعدة دول أوربية، فبدت قصة طيارتنا الفائتة مجرد حدث مضحك. بينما الأستاذ فهد العتيق، مشرف الندوة، يرسل صور المنتجع الذي سنقيم فيه إلى مجموعة الواتساب الذي أنشأته الجهة المنظمة للتواصل مع جميع أعضاء الرحلة. كان من المفترض أن نكون معه والكاتب علي المجنوني في نفس الطائرة، لكنهما ألقيا التحية علينا في الليلة الفائتة والتحقا بالطائرة رافضين دعوة القهوة، وهذا ما يحصل حين ترفض دعوة قهوتي: تصل في الموعد وتنام ليلتك هانئًا.

أستطيع أن أقول إنني وقعت في الحب ساعة خروجي من المطار. في حب المكان وأهله. الوجوه المبتسمة المرحبة في استقبالنا، كل تلك الحفاوة في الاستقبال. ثم الهواء المنعش، ورمال الصحراء والنخيل الممتد على جانبي الشوارع، تشعر بالطبيعة تتنفس حرية الصحراء الفطرية. والطبيعة حين تمارس فطرتها تزدهر. اعتقدنا أن حال وصولنا سنسقط في النوم، لكننا انضممنا لبقية الفريق على الغداء في منتجع الملفى الجميل وسط النخيل الذي انعقدت فيه الأيام السبعة للمعتزل. كان الكاتبان السعوديان وليد قادري، وعبد الله رستم، قد سبقانا جميعًا، فبدا عليهما الارتياح والاتساق مع المكان. سأتعرف على نصوصهما لاحقاً، فيظهر وليد كاتبًا للأفكار المجازية في حين يخلص عبدالله لتقنية الحوار والحكاية عبر التقاط مفارقات الحياة اليومية. تبعهما علي المجنوني و فهد العتيق الذي بدا لي شبيهًا بنجيب محفوظ، وأحيانا طه حسين، واقترح علي أنه يمكن أن يشبه عباس العقاد أيضًا ووافقته الرأي بعد برهة تأمل لزاوية أخرى لوجه فهد، لكنه تمنى لو كان شبيها لإبراهيم أصلان الذي يعشقه. وهكذا ضحكنا كثيرًا، وعرفنا أننا يمكن أن نلتقي.

كانت فناجين القهوة الكثيرة في المطارات قد أتت أُكلها فالتقينا على ندوة التعارف مساءً دون نوم… بدا منظر الغروب في ساحة المنتجع سحريا يوحي بقصة شاعرية خارج كل إطار.

وكنت شخصيًا على موعد غرام مع غروب شمس القصيم الذهبية في كل يوم مع فنجان قهوة يُعدّه النُدُل اللطفاء مراد الأفغاني، ومحمد المصري، وغيرهما.. يعدان طاولة صغيرة تحت شجرة ظليلة، تأتي الشمس وتجلس معي على المقعد المجاور تدفئ لسعة برد ديسمبر الخفيفة وتخبرني عن قصتها مع كثبان الرمال وأعناق النخيل والانسان الذي يترك أثره في كل شيء. ثم تكبر الطاولة الصغيرة مع ازدياد الكراسي وانضمام الرفاق. يقضي مازن أغلب وقته مع لابتوبه في الحديقة تحت الشمس، يحاول انجاز كتاب جديد يشتغل عليه من فترة، بينما يريد أن يتخلل شعاع الشمس وحرارتها جسده المسكون بثلوج آيسلندا، نتحدث مطولًا عن الهجرة وفلسطين ولبنان والبرد والكتابة، عاد مازن رغم ساعات الشمس الطويلة بجلد أبيض كما جاء في حين ازددنا نحن اسمرارًا بكل محبة، وكلنا عمومًا أبناء الشمس، ولوننا ليس المسألة.

تبدو كوثر يوسف وبلقيس آل رقبة، وهما كاتبتنا صغيرتان لكن بموهبة عظيمة ملفتة، مثل وردتين تتفتحان بالمعرفة والاستمتاع بأحاديث الخبرات العتيقة التي جرحها الزمن لكنها تداويه بالكتابة. يحاول علي المجنوني انتزاع نفسه من مشاريعه العملية والأدبية الكثيرة لقضاء بعض الوقت معنا، وفي إحدى الأمسيات حدثنا عن حياته في الصحراء طفلاً ومراهقًا، وكيف عاش التجربة البدوية بحذافيرها وبتفاصيلها التي قرأنا عنها في الكتب أو شاهدناها في المسلسلات. وبدت القصة ساحرة، ساحرة للغاية. وكأنه آخر البدو الحقيقيين رغم السنين التي قضاها لاحقًا في أمريكا. يكتب علي نصًا حداثيًا متجاوزًا ينبع من أعماق وعي حر وحيّ بتوهج، وأفكر أن الانسان حين يعيش تكوينه الأول في الصحراء ينمو نفسيًا وفكريًا بشكل وهاج حقيقي كما على الانسان أن يكون. وربما يفسر ذلك سيرة كل الرجال العظام في تاريخ الصحراء. الانسان أبن بيئته، يزدهر بكل حواسه حين يتماهى فيها ويخرج بها إلى العالم الإنساني الواسع فيبدو أكثر شبهًا به وقربًا منه. وهكذا يكون عالميًا كلما كان منتميًا لبيئته أكثر.

ينظر إلينا عبد الرحمن الشاب اللطيف الموظف في الجهة المضيفة بفضول وكأنه يتساءل “من أنتم”، كنا قد خرجنا للمرة الأولى إلى مقهى مجاور في المدينة الوادعة “أنتم لا تحبون الخروج كثيرًا، تقضون أغلب وقتكم في القراءة أو الكتابة أو الحديث مع بعضكم، ألا تصابون بالملل؟” كان يسألنا بمنتهى الجدية والبراءة. المنتجع جميل، أجبنا، ثم ضحكنا، هل نبدو فعلاً كائنات غريبة؟ كانت المرة الأولى التي يتعامل فيها مع مجموعة من الكتاب فقط، في تجربة جديدة لإدراج “معتزلات الكتابة” ضمن المبادرات الثقافية لهيئة الأدب والنشر السعودية. تقام العديد من المعتزلات في مناطق مختلفة من المملكة في الفترة الأخيرة، وكان معتزل الكتابة في القصيم من حسن حظي أنا.

وأنتبه أننا ككتاب-ونحن منغمسون حد القلق والأرق والهمّ الدائم في شؤون العالم- أن العالم يرانا، نحن الكتاب، كجزء منفصل عنه؛ ككتلة مستقلة تحوم حول الكوكب في الفضاء تسجل ملاحظاتها عنه وذكرياتها فيه. وأفكر إذاً نحن كلما اقتربنا من الشيء في الواقع كلما بدونا له أبعد عنه؛ لذا يقع الكاتب بين سندان الاقتراب ليكون شبيها ثم البعد ليكون ذاته، في خضم معركة دائمة لمشاعر الحب والمسؤولية نحو الآخر ثم الذنب والتقصير نحو ذاته لما تقتضيه الكتابة من عزلة بالضرورة، وربما هذه الحالة البندولية ما تجعله يبدو بعيدًا مهما اقترب وقريبًا مهما ابتعد. نحن نكتب، لأننا نحب الحياة ولا نكتفي بنسخة واحدة منها. نكتب لنعيش أكثر ونحتمل مهمة العيش أكثر، وربما بالعكس نحن نكتب كي ننفصل عن كتلة الألم العالمية ونهيم في الفضاء بعيدًا كي نسجل قصتها، وقصتنا معها…دون أن تجرحنا بشكل شخصي.

أحاول أن أشرح له كل ذلك، ثم أتراجع، في النهاية سيكتشف بنفسه كل الحكاية. فالسعودية الآن تتجه بجدية نحو احتضان التجارب الأدبية من أنحاء الوطن العربي والعالم وبالطبع من المشهد الثقافي السعودي ذاته. التجربة مثيرة للاهتمام. هناك انطباعات عامة وأحكام مسبقة كثيرة حول المملكة، نظرا لحصرها لعقود طويلة في بوتقة معينة جعلتها منفصلة معنويًا عن واقع الانسان المعاصر. لكن من مثل الأدب قادر على تحطيم أصنام الصور النمطية، وإذابة الجليد، وتشذيب أوراق أشجار المفاهيم الكثيفة المتداخلة في الغابات العقلية.

في الليلة الأخيرة بكت شذى الجاسر كثيرًا بحساسيتها المرهفة المعهودة، كانت طوال الوقت مسكونة بروعة التحرر عبر الكتابة كما كان نصها مسكونا بقصص العالم السفلي وصراعه مع الانسان. وكنا نحاول الضحك وتحويل الوضع لكوميديا، كي لا يتحول الفراق لوقت من الحزن بعد كل تلك الأيام المبهجة. رغم أن الأحزان وقود الكتابة، لكني شخصيًا أتخلى عن هذا المخزون. أحب الفرح أكثر، ومن لا يفعل؟، لو استطعنا إليه سبيلًا. يبدو فهد العتيق شبيها بنفسه أكثر وهو يودعنا وقد ترك معنا نسخًا من “كائنه المؤجل” الذي نعرف ما يود قوله. نفترق، وتبقى القصص، قصص الناس، وتبقى التجارب الحية هي وقود الكتابة الحقيقية.

في الطريق إلى المطار، أتأمل شوارع القصيم في الليل، وأفكر أن السعودية جوهرة تتألق كلما انفتحت أكثر على عادية الإنسان المعاصر، وأن الأدب هو السيرة الذاتية الأدق للمجتمع وتوثيق مسيرته في هذه الحياة التي نجدف فيها جميعًا للوصول بسلام لبرّ تحفّه المحبة وكفى.


اليمامة | 2 فبراير 2023م.

مقالات ذات علاقة

قاسم إسطنبولي يعيد سينما أمبير في طرابلس بعد 28 عاماً من الغياب

المشرف العام

النمل صانع الجبال

آكد الجبوري (العراق)

المثقف ونهاية الخطاب اليوتوبي

المشرف العام

اترك تعليق