الأحداث: بدأت في يوليو 1794م
الشخصيات الرئيسية
الباشا: علي القره مانللي ـ باشا طرابلس ولكن له سناجق تتبعه مثل سنجق بنغازي ـ احدى بناته زوجة بي بنغازي..
للاّ حلّومة: زوجة على القره مانللي ويسمونها أيضا (اللاّ الكبيرة) البعض يكتبونها (لله) غيرت التهجي عن قصد لأن الكلمة تشبه “الله” جل جلاله عزيز اسمه.
الأبناء: البي حسن الإبن الأكبر (وله عساكره وعبيده “الهومبا” وأصدقاؤه المقربون)
للاّ عائشة: زوجة البي حسن
سيدي يوسف ـ الإبن الأصغر (وله عساكره وعبيده “الهومبا” وأصدقاؤه المقربون)
سيدي حمد ـ الإبن الوسط (مُهمّش بعض الشيء، الاّ أنه له عساكره وعبيده “الهومبا” وأصدقاؤه المقربون)
“الهومبا” عبيد الباشا وأبنائه ـ دائماً مدججين بالسلاح الأبيض وبالسلاسل
القرصان: على برغل ـ عمل في بلاط باشا الجزائر سابقاً وتم طرده منها وكوّن اسطولاً صغيرا في البحر المتوسط.
الباشا حمّودة: والي تونس
الصورة الملونة: البي حسن
الصورة الأخرى: الباشا حمّودة والي تونس
مقدمة:
التطاحن على السلطة يؤثر على مسيرة الدول.. واحياناً حدث واحد مآربه من أجل الحاكم واشباع نزواته على حساب الوطن، نجده يغير مسيرة التنمية ووتيرة تقدمها ويؤثر على حياة المواطن سلبيا، مما يؤثر على الأجيال القادمة. في نفس الوقت دول العالم في سباق مع الزمن من أجل التطور والتقدم وتغيير مستقبلها الى الأفضل، فمن استقرت كانت حياة شعوبها أفضل ومن تعثرت مسيرتها بسبب التطاحن على السلطة وجد مواطنوها حياتهم في الحضيض. التطاحن على السلطة لم يتوقف على مر تاريخ ليبيا .. ولهذا السبب نحن من نحن وواقعنا هو ما تعيشونه الآن. والعجيب الغريب في الأمر أن هذا الوطن الجميل يتميز بالثروات الكثيرة على مر التاريخ، من السلفيوم خلال العهد الإغريقي والروماني، والذي أغنى سكانها في ذلك الوقت، ولكنهم اضرموا فيه النيران واحرقوه أينما كان بسبب الضرائب الباهضة التي كانت تجنيها روما، (فاتخذ السكان قراراً مفاده “عليَّ وعلى أعدائي”) وانقرضت تلك الثروة التي كانت بمثابة صيدلية العالم في ذلك الوقت لأنها تُشفي جميع الأمراض، ووجدوا بعضاً من بذورها في جارورة نيرون امبراطور روما.. الى الثروات الأخرى مثل الاسفنج والحلفاء والمحاصيل الزراعية والحيوانات التي كانت تُصدَّر الى الولايات المتحدة وبريطانيا واليونان ومصر الكنانة وغيرها من الدول حتى وقت قريب.. والشعب محروم من كل هذه الثروات لأن القراصنة كانوا دائماً متربصين به.. وهذا بيت القصيد فاقرأ أيها الليبي..
وبالمناسبة عندما اكتب في التاريخ دائماً اتطرق الى المراجع الأصلية التي أقرأها من مصدرها الأصلي، وفي كثير من الأحيان أقارن الأحداث بمصادر أخرى حتى اتأكد وأثق في مصداقيتها..
علي برغل (لُقِّب بـ “برغل” لإنه كان يُطعم جنوده بالبرغل (الدشيشة ـ أو البركوكش) ـ إمّا اسمه الحقيقي فهو “علي الجزايرلي”، من جورجياً.. قوقازي الأصل، وكان أحد أفراد حاشية باشا الجزائر ولكنه طُرد منها لقساوته وجنونه. غادر الجزائر وانضم اليه بعض المجرمين المغامرين وكوّنوا اسطولاً بحرياً صغيراً.
سَمِعَ علي برغل بالتناحر والمعارك الطاحنة التي تحدث في السرايا الحمراء والمنشية بين سيدي يوسف وشقيقه البي حسن ووالدهما الباشا علي القره مانللي1* ، فوجدها بمثابة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فانطلق الى القسطنطينية حيث يُقال أن شقيقه كان يعمل هناك في بلاط الباب العالي، فحصل بقدرة قادر على “فرمان2*” من السلطان سليم الثالث يُنصِّبه واليا على طرابلس الغرب.
كان سيدي يوسف في مقتبل العمر، مُدلّل إلى أبعد الحدود من والده الباشا علي القره مانللي، فهو أقرب الأبناء إليه (والمحبّة ابخوت كما نقول بلهجتنا الليبية)، وكان يوسف متهوراً أيضاً إلى أبعد الحدود، طائش.. لا يرحم، يخاف منه كل من في السرايا والمنشية.. (ابن الباشا وليش لا)! وعلى الرغم من صغر سنه كان مهووساً بكرسي الحكم ليخلف أباه، وكان يعرف أن شقيقه البي حسن ولي العهد هو الوحيد الذي يقف بينه وبين ذلك المقعد الوثير في السرايا الحمراء، فكان يقوم بدس المكيدة تلو المكيدة للنيل من شقيقه والقضاء عليه، إلاّ أن الظروف والصدف كانت دائماً تلعب دورها في انقاذ البي حسن، حتى إن سيدي يوسف في إحدى المرات دخل بين النساء متخفياً بملابس إمرأة ليغتال شقيقه البي حسن عندما يأتي لاستلام زوجته.. ولكن زوجة البي حسن فطنت له، ربما عن طريق وصيفاتها النبيهات المخلصات، وعندما حان وقت حضوره هَرَعَتْ إلى الباب تُنبُّه زوجها البي حسن، ولاذا بالفرار في الوقت المناسب. وعلى الرغم من كل ذلك كان البي حسن طيب القلب مُتسامح يجد المعاذير لشقيقه ويدافع عنه بأنه لا زال صغيراً في السن وستعلمه التجارب وسيعقل يوما ما!.
لم يتوقف سيدي يوسف عن التفكير في شتى الوسائل والحيل لتنفيذ مآربه.. فوصل أخيرا إلى تدبير “أم المكائد” استخدم فيها والدتهما للقضاء على شقيقه.. (أنظروا إلى أين وصل به حب الكرسي) لا مكان لصلة الرحم في الصراع على السلطة.
في إحدى الأيام استأذن أمّه (للاّ حلّومة) ويسمونها (اللاّ الكبيرة)، للسلام عليها، قام بتقبيل رأسها ويدها كما يفعل الإبن البار بأبويه، وأخبرها أنه حضر إليها خصيصاً لتُصالح بينه وبين شقيقه البي حسن، فقد ندم عن كل ما بدر منه تجاه شقيقه. لم تُصدق الأم أذنيها، فقد كانت تعيش في جحيم الخوف من المحضور وما يمكن أن يحدث بين فلذتي كبدها.
للاّ حلومة ـ تنحدر من أصل جورجي، زرقاء العينين، جميلة المحيا، ولكن كما ذكرت أعلاه كانت هناك مِسحة من الحزن تُغطي وجهها الجميل بسبب المكائد التي كان يُحيكها سيدي يوسف لشقيقه البي حسن، وبسبب فقدانها بعض أبنائها الذين وافتهم المنية وهم صغار السن، فلم يبق لها إلاّ ثلاثة أولاد وثلاثة بنات: سيدي يوسف وسيدي حمد والبي حسن، وأكبر البنات الثلاثة متزوجة من قائد الجمارك، والوسطى للاّ فاطمة متزوجة من بي بنغازي 3*، والصغرى مخطوبة من رايس البحرية.
جلس سيدي يوسف الى جانب أمه وطلب منها أن تُرسل أحد عبيدها “الهومبا” لجلب شقيقه حسن ليتصالح معه، وأقسم لها بأنه جاء بقصد التصالح، وها هو قد جاء بدون سلاح لإثبات نواياه السلمية، شاهدت الأم أنه فعلاً لا يحمل سلاح على غير عادته، ناهيك عن أنه جاء للتصالح عن طريقها وهي الأم لا تُفرّق بينهما، فصدّقته وأرسلت عبدها الهومبا ليُحضر إبنها المطيع البي حسن الذي لا يرفض لها طلباً.
كان البي حسن محبوباً من الجميع، لرجاحة عقله واتزانه وتواضعه مع الجميع، كان إبناً بارّاً بوالديه، زوجاً مثالياً وأباً لطفلته الصغيرة التي لا يستطيع فراقها ولا تستطيع هي فراقه.. فتجده يستغل أية فرصة لمداعبتها واللعب معها على سطح السرايا ومشاهدة السفن والمراكب التي تمخر عباب البحر جيئة وذهاباً من وإلى ميناء عروس البحر التي يعشقها الأوروبيون زواراً كانوا أو سكاناً.. (كوزموبوليتان).. انجليز وامريكان ويونانيين وسويسريين وهولنديين ومالطيين وغيرهم.. مدينة وُصفت حينها بأنها أجمل عواصم شمال أفريقيا.. تطل عليك وأنت قادم اليها من البحر بمبانيها ناصعة البيضاء4* ومآذن مساجدها ترتفع في أفق السماء، ونخيلها الباسق تتدلى منه عراجين البلح الأصفر تتدلى تحت سعف النخيل، فتظهر طرابلس الغرب كعروس بحر بفستانها الأبيض وشعرها الأسود الجميل تبزغ من خلاله أقراطها الذهبية في شكل عراجين البلح، وتزينه زهور بساتين المنشية.. طرابلس المدينة الرائعة التي تكتض بالرايح والجاي.. سُكَّاناً وزواراً وتجاراً يجلبون بضائعهم على الإبل والخيول والحمير يجوبون المدينة القديمة أو يُخيِّمون خارج أسوار السرايا الحمراء..
دخل الهومبا الى سقيفة البي حسن يُخبره بأن أمه تطلبه للحضور والتصالح مع شقيقه سيدي يوسف الذي ينتظره في غرفة أمه: “سيدي.. مولاتي الللا الكبيرة تطلب حضورك وتنتظرك مع سيدي يوسف”. زوجة البي حسن التي تعرف أكثر من غيرها مآرب سيدي يوسف، ما ان سمعت باسم سيدي يوسف حتى أصيبت بالهلع وبدأت في البكاء والعويل، وطلبت منه أخذ المسدس معه. فأخذه وهم بالخروج. ولكنها غيرت رأيها فتعلقت بساقه وهي مجثية على الأرض تبكي وتطلب منه عدم أخذ المسدس بل يكفي أخذ سكين (مُدية) فقط، لأنه لا يمكنه الدخول على أمه بمسدس. استجاب لطلبها وأخذ المدية عوضاً عن المسدس وخرج.
دخل البي حسن غرفة أمه واستل مديته ووضعها على رف النافذة احتراماً لها، فقام سيدي يوسف للتو من مكانه يُعانق البي حسن شقيقه ويطلب منه أن يُسامحه عن كل ما بدر منه. جلست الأم بينهما وأمسكت بيد كل منهما ووضعتها في يد الآخر وهي فرحة سعيدة لا ينقصها إلاّ جناحين لتطير بهما من الفرح. الاّ أنَّ البي حسن كان قلقاً متوجساً بأن في الأمر مكيدة لكثرة ما واجهه من مكائد دسّها له شقيقه سيدي يوسف. ولكن كيف له أن يُفكِّر في ذلك وهذه أمُّه التي ولدته تُبارك هذا التصالح، فلا يعقل أن تتآمر ضد فلذة كبدها.. فشعر بقليل من الطمأنينة، ناهيك عن أن سيدي يوسف لا يحمل سلاحاً في هذه المرة.. إلاّ أن هذه الطمأنينة لم تدم طويلا حيث شاهد شقيقه البي يوسف يقفز من مكانه وكأن به مس من الجن والذي انحنى أمامهما في حركة مسرحية “تحبيبية” مشيراً بأصبعه الى كل منهما، وهو يُقسم بأنه يريد التصالح مع شقيقه.
وفي حركات متسارعة وكلام متواصل دون منحهما فرصة للتفكير استرسل يقول: لأثبت لكما ذلك سوف أقسم على القرآن الكريم.. فأدار ظهره لأمه وشقيقه وقام بمناداة الهومبا الذي كان ينتظر خارج الغرفة.. بأن يجلب القرآن فوراً ليقسم به أمام أمّه وشقيقه.. وهنا دخل الهومبا الغرفة والذي ربّما كان قد مثّل هذا الدور مرارا أمام سيدي يوسف حتى تنجح الخِطة بالتمام والكمال وإلا فحياة الهومبا ستكون في خبر كان. ولأن سيدي يوسف أدار ظهره لأمه وشقيقه وكان مواجهاً للهومبا ليأخذ منه كتاب القرآن الكريم لم تتمكن أمه أو شقيقه البي حسن من رؤية الهومبا بالكامل وما كان يحمله، وبسرعة البرق خطف من الهومبا كتاب القرآن الذي كان تحته المسدس واستدار يطلق النار على شقيقه.. وقفت الأم (للاّ حلّومة) مذهولة تصرخ وتولول. ولأن البي حسن ربما كان يتوجس ما كان يخشاه، أقول ذلك لأنه ربما كان واقفاً على قدميه حينما أطلق عليه شقيقه النار، حيث تمكن من الوصول إلى النافذة والإمساك بمديته التي تركها هناك على الرف عند دخوله غرفة أمه. تمكن من الإمساك بمديته واتجه ليطعن شقيقه سيدي يوسف دفاعاً عن نفسه.. وربما كان قادراً على انقاذ حياته لولا أن أمّه الّلا حلومة كانت تقف بينهما تحاول ايقاف سيدي يوسف عن اطلاق النار مجددا على أخيه، ولكنها ربما منعت بشكل عفوي البي حسن من طعن سيدي يوسف وانقاذ نفسه، لأن البي حسن سيتفادى طعن أمه بالخطأ حتى ولو كان ذلك على حساب حياته.
ولكن سيدي يوسف استغل ذلك واطلق النار من جديد فأصابت الرصاصة أمه في أصبعها وهي في طريقها للقضاء على حياة البي حسن، ولولا الخاتم الذي كانت تلبسه لكان إصبعها انقطع بالكامل. ربما اخترقت الرصاصة صدرالبي حسن الذي نظر الى عيني أمه بهلع وهو في آخر سكرات الموت وكأنه يقول: كيف يا أماه تتآمرين ضدي مع يوسف؟! كيف لي أن أُدافع عن نفسي وقد أتيتي بي إلى هنا ثم وقفتي بيني وبين يوسف لألقى حتفي؟ لماذا يا أمي تتآمرين مع يوسف ضدي؟!! هكذا سردت للاّ حلومة الحدث لشقيقة القنصل البريطاني فيما بعد، وهي التي تكاد أن تكون المصدر الوحيد لأحداث البلاط القره مانللي في طرابلس في ذلك الوقت.
دخل بقية عبيد سيدي يوسف “الهومبا” الى الغرفة وقاموا بجر جثة البي حسن الى خارجها وقطّعوه إرباً بجنون وهمجية ليتأكدوا من قتله كما أمرهم سيدي يوسف، وفرّوا مع سيدهم عبر دهاليز السرايا الحمراء المظلمة، ينطلق من ورائهم عويل وصراخ أمه للاّ حلومة وصراخ زوجة البي حسن للاّ عائشة التي لم تكن بعيدة عن المكان تتوجس حدثاً ما سيحدث، وكانت على حق. نزعجت اللاّ عائشة كافة مجوهراتها ونزعت برقانها وغطت به جسد زوجها البي حسن وارتمت فوقه تحميه من تقطيع اوصاله من قبل عبيد سيدي يوسف ولكنهم انطلقوا بسرعة البرق مع سيدهم.
عند البوابة الرئيسية للسرايا نهض الكيخيا العجوز بصعوبة من مكانه مستفسراً عن الدماء التي تغطي قميص البي يوسف، فاتجه اليه يوسف وطعنه عدة طعنات أودت بحياة العجوز الكيخيا في الحال وخرَّ صريعاً في مكانه جثة هامدة لا تتحرك.. وخارج السرايا شاهد يوسف قائد الحرس قادماً على حصانه في اتجاه السرايا فطعنه هو أيضاً وأرداه قتيلاً.. واتجه الى المنشية بصحبة عبيده الهومبا المدججين باسلحتهم وسلاسلهم التي تلمع تحت ضوء شمسنا الساطعة، تلك السلاسل التي يخنقون بها كل من تُسوِّل له نفسه المساس بحياة سيدهم سيدي يوسف.
لم يعد يوسف الى السرايا منذ ذلك الوقت، وحتى أباه الباشا علي القره مانللي الذي كان يُدلل سيدي يوسف بلا حدود أمر بالقبض عليه وجلبه فوراً إلى السرايا ليدفع ثمن جريمته.
كانت المشاهد مُروّعة يوم دفن المرحوم البي حسن فخرجت النساء يولولن ويصرخن وسكان طرابلس يحتشدون في جنازة كبيرة لم تُشاهد لها المدينة مثيل منذ سنين.
خلال مراسم الدفن كانت صغيرته تبكي بحرارة.. ودموعها تطفر فوق خديها.. وعند انتهاء مراسم الدفن رفضت العودة مع أمها حتى يقوموا بإخراج أبيها من قبره فوراً ليعودوا معاً الى السرايا الحمراء.
السرايا الحمراء هي مقر الباشاوات القره مانلليين وعائلاتهم. كانت مثل أي قصر ملكي في العالم في ذلك الوقت، تضم وثائق ومراسلات رسمية وتحف ومجوهرات وهدايا قدمتها الدول للباشا عندما كان يعقد معها الصلح لكي لا يتعرض القراصنة الليبييون بسفنهم السريعة لسفن تلك الدول.. مثلاً كانت هولندا تُرسل المدافع والبارود والساعات الذهبية.. اضافة الى مبلغ مالي كبير وما يكفي من البراندي للباشا.. فكان يحتفظ بكل هذه الهدايا في خزائن السرايا اللهم الاّ من زجاجات البراندي التي كان “يقرطعها” وكأن الدنيا ستنتهي غداً.. وكانت الخِزانات كما ذكرت تضم الوثائق الرسمية للدولة والتي باختفائها اختفت مشاهد وحقائق قيّمة لها أهمية تاريخية كبيرة لجيلنا نحن وكل الأجيال القادمة في ليبيا.. وهناك أحداث متشابهة في التخلص من وثائق التاريخ الليبي لا تسمح المساحة ولا الوقت هنا بذكرها.. (لوعة وحسرة لمن يعشقون بلادهم)..
وفي خضم هذه المهزلة وفي يوم صيف حار أغبر، وبالتحديد يوم السبت 26 يوليو 1794م لاحت في الأفق رايات الإمبراطورية العثمانية ترفرف فوق صواري أسطول علي برغل. ومن ذا الذي يستطيع الوقوف في طريق الراية العثمانية الحمراء بهلالها الأبيض ونجمتها البيضاء. أنزلت من السفن قوارب لنقل 400 جندي وضابط ورست على الرصيف المحاذي للسرايا الحمراء، وكان على رأس الواصلين “قابوجي باشا” رسول علي برغل. وكما هي العادة يسمع الناس أو يشاهدون السفن أو القوارب من بعيد فيحتشدون على رصيف السرايا الحمراء لاشباع فضولهم. وقف قابوجي باشا على الرصيف يتلو عليهم “فرمان” يُقال إنه “مُزوّر” باسم السلطان يولي علي برغل على حكم طرابلس الغرب وطرد القره مانلليين منها.
وصل الخبر بسرعة البرق الى علي باشا الذي لم يكن مستعداً لمواجهة مثل هذا الأسطول، ففر على عجل هو وحاشيته وابنائه ومن بينهم يوسف الى تونس في ضيافة حمودة باشا والي تونس. (عادت العلاقات سمن على عسل في وقت الضعف والمحن) نسي الباشا الخصام مع يوسف واتجهوا يجرجرون خيبتهم و”اهبالهم” الى تونس.. “وما اشبه اهبال اليوم باهبال الأمس” سبحانك الله.
استقرت الأمور لعلي برغل، وكان معتداً بنفسه، فبدلاً من أن يحكم طرابلس ويستقر هناك، بدأ خلال فترة العامين من حكمه في طرابلس بمناوشات ومعاداة لوالي تونس حمودة باشا، ففي البداية قام بالقبض على سفينة قرصنة تونسية على ظهرها 200 قرصان تونسي، تبعها باحتلال جزيرة جربة يوم الإربعاء 24 سبتمبر 1794م، وبدأ يهدد باحتلال الحمامات والمنستير وصفاقس وسوسة.
لم يكن هناك بُد لوالي تونس الباشا حمودة إلاّ أن يستعجل أمره هو الآخر دفاعاً عن كرسيه قبل أن يفقده مثلما فقد علي باشا القره مانللي كرسيه، فبدأ بحشد قواته وقام بارسال اسطوله يوم الأحد 2 نوفمبر 1794 لتحرير مدينة جربة أولاً ثم للقيام بمساعدة علي باشا لتحرير مدينة طرابلس من قبضة علي برغل، مع تزامن تحرك حوالي 20 ألف من (عسكر مدينة سوسة التونسية) بقيادة الضابط مصطفى الخوجة يرافقه الباشا علي القره مانللي وإبنيه يوسف وحمد.
قام علي باشا بتجنيد الكثير من أبناء مدن وبلدات وبوادي منطقة طرابلس الغرب حتى وصل عدد الجنود الى أكثر من 30,000 جندي.
دخل “عسكر سوسة!” طرابلس يوم الأحد 18 يناير 1795م بدون مقاومة، وطردوا على برغل الذي عاد لضرب طرابلس بالمدافع ولكنه لم يفلح فهرب باسطوله الى غير رجعة.
لم يبق في الخزينة “بارة واحدة” 5* لدفع مرتبات جنود الباشا حمودة والي تونس، فبدأوا بالإنتقام وعاثوا في الأرض فساداً.. شيطنة ولصوصية وقسوة على سكان مدينة طرابلس.. (من الغولة إلى سلاّل القلوب).. حتى أصبحت التسمية شائعة تطلق على كل شخص يتشيطن (عسكر سوسة). وكثير من الليبيين يعتقدون بالخطأ أنها مدينة سوسة الليبية البريئة من هذه التسمية.
هرب علي برغل باسطوله بعد أن نهب كل ما استطاع نهبه من السرايا الحمراء ومن بيوت الطرابلسيين من مجوهرات ومقتنيات6* (يعني أصبحت الخزينة خالية) وهذا ليس بالجديد ولا بالقديم على ليبيا. اتجه الى القسطنطينية حيث ربّما قدَّم للسلطان هناك الكثير من المجوهرات والساعات الذهبية التي نهبها من السرايا الحمراء ومن الطرابلسيين، ففرح السلطان وكانت مكافئته لعلي برغل أن أرسله بفرمان حقيقي هذه المرة ليحكم مصر!!.
ولكن “يا قاتل الروح وين بتروح”. حيث قام علي برغل بإرسال رسالة الى الشيخ السادات للتآمر على المماليك في مصر. وقعت الرسالة في يد عثمان البرديسي. فما كان منه إلاّ أن دبّر هذا الأخير مؤامره مُضادّة لقتل علي برغل تكللت بالنجاح (جئت لتقتلني فسأقتلك)، والتي نتج عنها تولي عثمان البرديسي أمير المماليك حكم مصر في شهر يناير 1804م. وهكذا انتهى علي برغل واختفت كنوز السرايا الحمراء وأموال الليبيين.. كما اختفى الكثير الآن من ليبيا..
كنز الأوطان يا ابناء الوطن ليس البترول ولا الغاز ولا الذهب ولا غيره.. كنز الوطن هو الإنسان.. والإنسان في ليبيا يحتاج الى دستور وجيش يحميه لينتج ويبدع وتصبح ليبيا في مقدمة الدول. أما الآن فالإنسان مُهمش والنتيجة كما ترون. انفلتت ولن يجمع شتاتها الاّ أبنائها..
المراجع:
Narrative of a ten years residence at Tripoli in Africa –
By R. Tully
أو النسخة المترجمة الى العربية في كتاب (عشرة سنوات في بلاط طرابلس) ـ ريتشارد تاللي ـ قنصل بريطانيا في طرابلس ـ دارف للنشر.
كتاب:
A Nest of Corssairs –
By Seaton Dearden
الهوامش:
1* يُقال أنه فرمان مزوّر وأيضاً يُقال أنه فرمان صدر من رئيس الوزراء وليس من السلطان سليم الثالث.
2* ولي العهد يُلقب (بي) والأبناء الآخرون يُلقّبون بـ (سيدي)، والحاكم يُلقّب بـ (الباشا).
3* أنظر أو (قم بالبحث عن مقالة الأستاذ حسام عبد السلام باش إمام Husam Bash Imam) وعنوانها: ردا على دعاة تقسيم ليبيا… بوثائق التاريخ، ستجدها بسهولة في موقع ليبيا المستقبل في خانة البحث. لم اتمكن من نسخ الرابط بالشكل الصحيح. (للأسف موقع ليبيا المستقبل مقفل الآن، ولكن أترك هذا المرجع للمستقبل).
4* لا يعرفون الاّ الطلاء الأبيض للبيوت والمساجد في ذلك الوقت، ولأنه يعكس أشعة الشمس.
5* “البارة” عملة تركية يقابلها (الملّيم) في ليبيا. وكان الليبيون يستخدمونها وربما انتهى استخدام هذا المثل: كذا كذا لا تساوي بارة.
6* يقال أنه طلب من الأهالي اعطائه مجوهراتهم لصك عملة جديدة سيعيدها اليهم، ولكن من الأرجح أن جنوده قاموا بنهبها بالقوة.. “عسكر سوسة”.