طيوب عربية

إشكالية تَأويل القَصيدة بِالاستناد إلى شَخصِ الشاعِر

مريم جنجلو (المغرب)

من أعمال التشكيلي "اسكندر السوكني"
من أعمال التشكيلي “اسكندر السوكني”

لَم يَدَع الشِّعر عنصرًا في الكَوْنِ ما تناوَلَهُ، مِن ذرّات الترابِ إلى ذُرى الغَمام، مِن نَشيجِ الألَمِ إلى هُتاف الضحكات، مِن متاهة الشعورِ إلى سُكون المَوْت. كلّها محاكَياتٌ نَسجَتها قرائحُ الشعراء وَفي أحيانٍ كثيرة تعدّى الشِّعرُ كَونَهُ مُجرَّدُ نسيجٍ لُغَويٍّ تخييليٍّ لِيتخِذَ صبغةً حكائيّة أبعدَ بَوحًا وَإفضاءً في توَجُّهٍ تمَّ منحُهُ صفة “الذاتوية أو الشخصانية” في ذِهنِ مستقبليه من القرّاء. أو هكذا قُيِّضَ للفضولِ العقليّ لهُم أن يُسَمّوه عن طريق الجُنوحِ نحوَ ربطِ تأثير النص الشعريّ تلقائيًّا بِالظروف الحياتيّة لِكاتِبِهِ بِشكلٍ عاطفيّ أساسُهُ الإسقاط الشعوريّ المُرافِق لِتفاعل المارّ على النّص وَالمُتوَقّف عندَهُ.

لقد نُصِبَ بَينَ هذا التَدَرُّج في سَيرورَة التّصدير وَالتَّلَقّي القائمة بينَ القصيدةِ وَقُرّائها قَوسُ مُحاكَمَةٍ صارَ لِزامًا في عَمَلِيَّة أوتوماتيكية التنقيبُ وراءَ حَياةِ كاتِبِها استكشافًا لِمواطِنِ وَقعِها الصارخِ دونَ غَيرِه. ما أفقدَ النصَّ الشعريَّ – نَوعًا ما- سِحرَهُ. وَالسِّحرُ لا يستلزِمُ أسبابًا لِوقوعِهِ وَإنّما يَكتفي بِحُضورِ الدهشةِ وَالإبهار لِيتحقّق. وَهُنا بَيتُ القصيد: إذ باتَ الشاعرُ هوَ المَوضوع لا نَصُّه.

وَلَعلَّ أوّلَ ما نتجَ عن هذا النَّوع مِن التأويلِ إيقاعُ الشاعر قبلَ نصِّهِ – وَإن بِشكلٍ غيرِ مقصود- في لُجّة الالتباس بينَ كَونِهِ إنسانًا مِن حقِّهِ البَوْحُ بِمكنوناتٍ فردية حميمة دونَ أن يتمَّ البحثُ فيها، شأنُهُ في ذلك شأنَ المتلقّين أنفسِهِم، وَبينَ كَونِهِ شاعرًا موهبتُهُ هي تسييلُ الواقع الصّلب وَتمويهُهُ أو حتى التغنّي بهِ، بما تنضحُ به مَلَكَتُه وَصوتُهُ الخاصّ. وَفي هذا اتخذت صورةُ الشاعرِ إطارًا قد يكونُ أُرغِمَ على التموضُعِ فيه مِن بعد ما كان نصُّهُ الشّعريّ هو الصورة وَالإطارُ الوحيدان اللذان اختارَهُما لِنفسِهِ كَيْ يبرُزَ إلى العالَم وَيستَوقِفَهُ هامِسًا لَهُ بتَخَفٍّ مُتعمَّدٍ وَربّما خجولٍ بِالقَول: “أيها العالَم، أنا هُنا”.

على المقلَب الآخر، أعتقدُ أنّ الغاية الأساسيةَ مِن كتابة الشّعر غيرُ نابعةٍ بِالمَرّة مِن نيّةٍ لدى الشاعر في تزويق اعترافاتِه أو مراعاةِ توقعاتِ القراء بِقَدرِ ما هي عملية فنية هدفُها استقلابُ غَورِهِ الإنسانيّ بكُلِّ ما يحملُ من مشاهداتٍ وَعواطِفَ وربّما صدمات، وَمواجهة نفسِهِ بها. لَكَأنّ لا أحدَ سِوى الشاعرِ على الأرض، وَهُوَ الكاتبُ وَالمتلَقّي والسامِع. متلافِيًا أو مُتجاهِلًا قدرَ المُستطاع السقوطَ في ثنائية تأويلِ خطابِهِ بين الشخصانيةِ مِن عَدَمِها، طالَما أنّ الذائقةَ العامة بهذا الاتّساع الذي تتنازَعُهُ مستوياتٌ متفاوتة من الإدراك لقيمة النصّ الحقيقية والتي تُحدِّدُها أسُسٌ نقدية بحتة قوامُها اللغة وَالتخييل وَالحُضورُ الكثيف لِلصَّوت الشعريّ وَحدَهُ دونَ الذهاب إلى ما وَراء سِتارِ هذا الصّوت.

إنّ النصَّ الشعريّ ينبغي أن يُتناوَلَ بالنّظَرِ إلى مستواهِ الدلاليّ وَمحاكاتِهِ لِلتجربة الإنسانيّة على أنّها جزءٌ مِن كَونٍ هائلٍ يعجُّ بالذواتِ وَالمشاعِر المتقاطِعةِ فيما بينَها دونَ إسقاطِها على الشاعر كَشخصٍ، ظنًّا مِنّا أنّنا إذا فَهِمنا ظروفَهُ الحياتيةَ أو مواقِفَهُ سَوْفَ نضعُ اليدَ على مَوطِنِ التأثيرِ في نَصِّه. وَحَسبُ القصيدة في ذلك اكتفاؤنا بِجمالِيّتِها وَحدَها وبِقوّة حضورِها كَكَيانٍ انفصَلَ عَن جَذرِهِ وِاتّخَذَ طريقًا وَحدَهُ بينَ زحامِ العيونِ وَالعقولِ.

وَيُعيدُنا هذا بِشَكلٍ مباشِرٍ إلى نظرية مَوْت المؤلِّف، حيثُ يقولُ رولان بارت: “تعني كلمةُ (نَصّ) النّسيج، غيرَ انّهُ بينَما اعتُبِر هذا النّسيج وَإلى الآن نِتاجًا وِسِتارًا يكمُنُ خلفَهُ المعنى (الحقيقة) وَيختفي بهذا القَدر أو ذاك، فَإنّنا نُشَدِّدُ داخِلَ النّسيج على الفكرةِ التوليديّةِ التي تَعتَبِرُ النَّصّ يَضَعُ (مِن الوَضع وَتعني الولادة) ذاتَهُ وَيعتَمِلُ بِما في ذاتِهِ عَبرَ تشابُكٍ دائم.

ويقفُ بارت مُعارِضًا لِمنهَج استقراء نتاج الكاتب واستقبال معاني نصّه بالاستناد إلى جوانب من هويته. وبِهذا يؤكد ضرورة الفصل بين العمل الأدبيّ وَشخص كاتبه وذلك بغية تحرير النص مما اطلق عليه مصطلح ‘التأويل الاستبدادي’. إذ أنّ كل جزء من الكتابة يشتملُعلى روافد متعددة لِلمعاني معاني عديدة.

 هذا وَقد اعتبر بارت أنّ النص برمّته هو عبارة عن ‘عدد لا يحصى من مراكز الثقافة بدلًا من تجربةٍ فردية واحدة’. مشيرًا إلى أنّ ‘النهج النقدي التقليدي للأدب يثير مشكلة شائكة’، وَلدى سؤاله عن كيفية اكتشاف ماهية مقصد الكاتب بالضبط من وراء نصِّه؟ الإجابة كانت أننا: لا نستطيع.

فَقراءَةُ نَصٍّ ما، وَالفَصلُ بَين النصّ وَكاتِبِهِ إذَن، تَجري تِبعًا لعملية نقدية سليمة وَحياديّة تتوخى ترسيخَ بصمةِ الشّاعرِ عَن طريقِ انفتاحِها على النصّ الشعريّ بِمقوّماتِهِ وَعناصرِهِ، وَفي هذا تحديدٌ لِتُخوم الأسئلة التي مِن المُفتَرَض أن تُطرَحَ حَولَهُ وَبالتالي توجيهُ عقولِ القراءِ نَحوَ مواطِنِ التذوّق الجماليّ الذي صنَعَ دهشَتَهُم وتأثُّرَهُم بالنّص المُقدَّم.

وَإذا كانت مِن مسؤوليةٍ تقَعُ على عاتِق الشاعر هُنا، فَهِيَ أن يَلِدَ نصَّهُ وَيقصّ الحبلَ السريّ الذي يربطُهُ بهِ بعدَها، إذ أنّ هذا سَيفتحُ قناةً سَلِسَة وَمنفردة كلِّيًّا بينَ النّصّ كَقيمةٍ فنّيّة وَلغوية وَتراكيبية قائمة بِذاتِها وَبينَ القراءِ كلٌ على حِدَة. أما المسؤولية الكُبرى فَمِن نَصيب النّاقدِ لا محالة، إذ أنّهُ ينبغي علَيهِ أن يكونَ على قَدرٍ مِنَ الثقافةِ وَالعُمق لِيتمكَّنَ مِن التقاطِ مواطِنِ الجمالية في النَّصّ الشِّعريّ.

عِندَها، باستِطاعَتِنا القَول إنّ وِلادةً جديدةً تَتِمُّ لِلنَّص في ذِهنِ القارئ، حيثُ يُعادُ هُناك، تَدويرُ معانيهِ وَصُوَرِهِ وَدلالاتِهِ مِن مَنظورٍ يختلِفُ عَن منبعِهِ الأوّل، وبِهذا تتحقّق الغايةُ الفُضلى من القراءة أو مِن عملية التأثُّر الفعلية بِالنّص وَبالتالي يُحقِّقُ الشّاعِرُ غايتَهُ الفنّيّة العُليا مِنَ الكتابة وَهيَ التأثير. وَإذا ما تحقّقَ التوازُنُ بينَ العمليّتَيْن نالَ النّصُّ الشعريّ حقَّهُ دونَ أن يسقطَ في فَخِّ التأويلات الشعورية المَعنيّة بِشَخصِ الشاعِر. وَالتي مِن شَأنِها إضعافُ حُضورِ النّصِّ الذي يُشَكّلُ صَوتَ الشّاعر وَوُجودَه الفنّيّ بِرُمَّتِه.

مقالات ذات علاقة

من السّجن إلى حيفا يمضي باسم خندقجي!

آمال عواد رضوان (فلسطين)

العلاقة بين رواية انت منذ اليوم لشخصية عربي وونستون في رواية 1984

المشرف العام

هذا جسدي

اترك تعليق