قراءات

وجع الفرح للقاص طاهر بن طاهر

كتاب وجع الفرح

(هو كتاب تأملي بين السرد يجمع بين خصائص السرد العادي وذلك السرد التأملي، وقد ظهر على نحو شبه جلي تأثر الكاتب بأسلوب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور دون تقليد، ولكن مع ذلك هو كتاب صعب التجنيس ويضم بين دفتيه أفكارا مختلفة رائعة).

هذه الكلمات عالية القيمة وصلتني عبر مماسجة من صديقي الحميم والناقد الفذ الأستاذ عبدالحكيم المالكي حين سألته ذات فجر عن كتاب صديقنا طاهر بن طاهر.

وكنت قد قرأت ما نشره الدكتور طاهر نفسه على صفحته وهي سطور كتبتها الدكتورة ثريا الشفطي أستاذة اللسانيات في آداب مصراتة  في يوم الاحتفالية بكتاب وجع الفرح. حين كتبت تقول:

(إطلالة رامت الجدة في الماثل من السير الذاتي الليبي، حيث النص متجاوزا النمط التقليدي المتوارث الذي كان حريصا بل وفيا جاهدا نفسه في مطابقة الحكي المعيش بطريقة حرفية مبالغ في الدقة والاستنساخ.

نصوص تقدم مدخلا جديدا للقراءة السير ذاتية عبر شكلها الالتباسي الأجناسي الجامع بين السيرة والتخييل الذاتي.

عول الكاتب على اللغة باعتبارها الكون الفعلي الذي يعبر عن كينونتنا وعن أشيائنا.

وأضافت:

(في اللغة تكمن إزدواجية المعنى كما يقول بول ريكور، فالمعنى هو موضوع التأويل. اللغة في وجع الفرح حاولت انتشالنا من الكون الواقعي لتقذف بنا داخل ثقافة فردية تمنحه  أبعاد  موضوعية وتلوينات  متنوعة لفهم التجربة الإنسانية  تجربة  الثورة والبحث  عن  هرمونطيقتها من خلال أشكال  ثقافية منحتها تجسيدا  وتحقيقا داخل المدونة).

ولكن سواء اعتقدنا بصحة هذا أم لم نعتقد، فالأمر عندي هو جحيم خالص ووجع خالص قد يتعدى بكثير ما أرادت الناقدة القديرة ثريا الشفطي تأكيده. وإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يكفي التعويل على اللغة، وتحسس ازدواجيات المعاني في البنية النصية؛ وهل يكفي العثور على ملامح  تجربة فردية، والعثور على آثار تلوينات مختلفة لفهم هذه التجربة داخل نسيج النص لنقول أن اللغة هي الكون الوحيد الفعلي الذي يعبر عن كينوناتنا وأشيائنا؟

في رأيي، ثمة هاجس أعظم يتنفس بطول الكتاب، وهو ذلك الهاجس الفطري الذي يؤجج جذوة تلك الحرقة الوجدانية في رحلة البحث الطويلة عن الحقيقة، حيث تتقاصر الحروف عن المعاني المرتجاة، وحيث يظل تسخير طاقة هائلة من الأشواق، وإرهاف السمع الباطني لكل ما هو مخبوء وراء مظاهر الأشياء (وحتى وراء ظاهر التجربة)، وإفساح المجال أمام عين القلب والبصيرة، والعيش في عالم ملئ بالإشراقات والتجليات هو الدافع الأكبر لا اللغة.

لغة الكاتب في وجع الفرح مقاربة، وهي تسير موازية للصوت الداخلي عندما يقترب هذا الصوت من حدود لا تناهي الروح وإشراقاتها. ومن خلال هذا السجل الداخلي الذي يسجله الكاتب يمكن حتى لمن ليس له لغة أن يتصل بأنفاس الكتاب وروح الكاتب معا، حيث المسألة هنا ليست مسألة مجاميع صيغ لغوية مليئة بالمعاني، وإنما هي لحظات تلامس لتطور روحي كان لصيرورة الواقع قبل وبعد الثورة دور هام ومؤثر فيه، وكان لا مناص من البوح بها عبر كلمات مكتوبة كأداة وحيدة متوفرة للتعبير. وقد يتصل من يقرأ الكتاب إلى منظومة الرموز التي تملأ الكتاب هذه عبر الدم والألم، لا عبر اللغة.

لأننا في الواقع  نحن اليوم نتكلم بلغة ميتة، كل بلغة مختلفة عن الآخر، لقد انتهى الاتصال بأداته القديمة،  ولم يعد بمقدورنا فعل شيء سوى أن ننقل الجثة.

هو عالم مفهومي باختصار..!

لكنه في ذات الوقت عالم مليء بالرموز.

إن ما يرجع إلى مملكة الروح يتحاشى كل شرح، لأن محاولة الشرح في هذه الحالة لا تلقي إلا بصيغ أخرى لأحجيات جديدة.

تلك الرموز هي نوافد مفتوحة على عالم علاقات أشد تعقيدا مما تلقيه ظلال اللغة السردية المعروفة التي كتبت بها انتقالات النص، وفي رأيي أن ثمة اختلافا كبيرا وجوهريا بين ما هو مكتوب وبين ما تتبطن به الكلمات في وجع الفرح.

هي أشواق، وهذه الأشواق قد تصادف أشواق الكثيرين. ثمة تشابهات بين الانتقالات النصية،عديدة وصارخة، والرابطة العظمى بينها هي طهارة التجرد الخفي، ومقياس هذه الطهارة يجري تقديمه عبر صور شتى للمعاناة.

هي علاقة حيوية إذن،

علاقة بين روح أكثر عنادا مما قد يصل إلى ذهني القاريء عبر اللغة المكتوبة الظاهرة. لغة أخرى خفية تنسكب مباشرة من من الروح والمخيلة معا في ذات الوقت بقدر ما هي نبوءات عاجلة بأحلام ذبيحة. وربما يكون هذا هو أحد الأسباب التي لا تترك المرء ينجو من كآبة تمس شغاف الذات أثناء رحلته بين دفتي الكتاب.

بالطبع قد لا يكون هذا الطرح مقنعا لأولئك الذين لا يستطيعون التخلص من السيطرة شبه الكاملة للنموذج الواقعي على الخطاب السردي بأنواعه وأجناسه، أو أولئك الذين تقوم تجربتهم الإبداعية على تدعيم رؤاهم السردية مهما كان نوعها بثنائية الواقعي والمتخيل.

ولكن إذا تم النظر إلى هذه الثنائية في ضوء المطلق الذي يحاول مثل هذا النوع من الخطاب الاقتراب منه والسبح فيه؛ فإن الأمر سيصطدم بحاجز الممارسة العقلانية، حيث يستحيل راي العلم أكذوبة كالدين عند الكثيرين، والوطنية مهزلة، والقومية خداعا، والتعليم مرضا فتاكا، والأخلاق أخلاق آكلي لحوم البشر، وكل يحمل رمحا نافذا، والكل يحاول طعن عين الثور. كل شيء يستحيل غشا وسرابا.

مهما يكن الأمر، لعل الدرس الأكثر حضورا (بالنسبة لي على الأقل) الذي يمكن سماعه من هذه الانتقالات النصية الفريدة الرائعة هو:

في هذه الحياة علينا أن نعاني دون إظهار الشكوى، وعلينا في الوقت نفسه ألا نتخلى عن أحلامنا.

مع هذا فإن هذا النموذج هو الأعلى تطورا من باقي كل ما قرأته في الأدب الليبي وتمت نسبته وتجنسيه إلى السيرة الذاتية أو أنواع السرد المعروفة التي تتعالق بهذا النوع من الكتابة.

ومن كل ما  خطته يد الكاتب المبدع قبله بالرغم من روعتها وعمقها وطغيان الحس التأملي العميق عليها.

مقالات ذات علاقة

«السنوسي»: سيرة الدم من داخل معسكر في بنغازي

محمد الأصفر

علي الفزاني… ظمأ الشاعر إلى الحياة

يونس شعبان الفنادي

يوسف الشريف

منصور أبوشناف

اترك تعليق