هذه رواية ممنوعة من الصرف، أي أن الرقابة لم تجزها لأسباب لم تفصح عنها، لذلك لم يقدر إلا لمجموعة من الأصدقاء قراءتها، ومن جهتي أقول أنه يصعب الاقتناع بأي سبب يمكن أن تسوقه الرقابة في رفضها لإجازة هذه الرواية، فهي تتحدث عن تجربة سياسية سبقت قيام الثورة، ومن هنا يغيب المبرر وراء عدم إجازتها مما يشكل سابقة قد يترتب عليها مصادرة أي تجربة مماثلة، وهذا في المطلق سيؤدي إلى إلغاء فترات من تاريخنا الوطني وهو أمر مستحيل لأن الماضي هو نطفة الحاضر رغم تباين الملامح بينهما، وهو بحسب منطق التاريخ جدلية تفرز نقيضها من نقيضها.
أتجاوز إشكالية الرقابة فقد يكون لنا معها وقفة في أمسية قادمة.
المؤلف يضعنا في امتحان له علاقة بسؤال النقد، هل مرسى ديلة رواية امتلكت كل شروط الفن الروائي؟ أم أنها مجرد تسجيل يقترب من السيرة الذاتية؟ أم أنها الاثنين معا؟.. قد يبدو أن الأمر كذلك.. ومن هنا فإنه ليس من حق قارئها أو ناقدها محاكمة التجربة التي سجلتها. هذا من حق المؤرخ عندما يتوقف عند التنظيمات السياسية برمتها خلال سنوات الستينيات من القرن العشرين.
أيضا أتجاوز هذا السؤال لأن فرصة الإجابة عن تفاصيل مشهده مؤجلة.
الرواية…
من المهم جدا أن نسجل أنها أول رواية سياسية تتناول تجربة سياسية ليبية خالصة. الراوي هو الشخصية الرئيسة فيها، وهي ليست حدثا واحدا يبدأ ويتصاعد عبر شخصياته وأحداثه ومواقفه، هي تحكي عن تجربة الراوي السياسية أيام العهد الملكي عندما حاول مع مجموعة من أصدقائه تشكيل تنظيم سياسي ينادي بتغيير النظام، لكن هذا التنظيم لم يتجاوز مرحلة القراءة لبعض الكتب ومناقشة قضايا سياسية من خلال وعيهم بفساد النظام الملكي والتساؤل عن طريق الخلاص منه، والراوي لا يخفي توجه التنظيم فهو يساري ينادي بالتغيير عبر النظرية الاشتراكية، ونفهم من الرواية أن رؤية الراوي السياسية لم تكن واضحة له ولمن معه، إذ لم تكن متسلحة إلا بوعي بالفساد في النظام القائم حينذاك والحلم بثورة تزيل ذلك النظام، لكن الراوي يكتشف أن الثورة عندما قامت اكتفت بذاتها وبمن قاموا بها، كما اكتشف أن الحلم الذي كان يسعى إليه قد تحقق مما جعله يحس بأن دوره قد انتهى، وهذا ما حدث إذ تفرقت المجموعة وتفككت، أما هو فقد سافر في بعثة دراسية وانتهى كل شيء.
الراوي في الرواية وقع في قبضة المؤلف الذي وقع هو أيضا في قبضة هوسه بتسجيل تجربته السياسية الشخصية، ومن هنا لم نتعرف على أي شخصية سواه.. الأنا كانت طاغية على مجمل مسار الرواية والشخصيات الأخرى كانت دائما ضميرا غائبا، بذلك فقدت الرواية شروطا كثيرة من شروط الفن الروائي، ولا يعفي المؤلف من هذه الشروط تأكيده على أن ما يعنيه ليس كتابة رواية، هذا التناقض بين ما يكتبه وبين ما يتبرأ منه أضر كثيرا بالعمل، فنحن من جهة لم نقرأ رواية نطمح إليها ومن جهة أخرى لم نقترب من عمق تجربته والذي كان يمكن أن يتحقق لو أنه تمهل قليلا ولو أنه مد البصر قليلا نحو الأفق السياسي الذي كان سائدا بحوادثه وشخوصه، ولو أنه شرع الفضاء قليلا لشخصيات أخرى تضيف لرؤيته بعدا نراه مهما في بناء الشخصيات الروائية .نسجل عليه هذا المأخذ باعتبار عدم انفصال التجارب الشخصية عن تجارب الآخرين وعن الظروف التي تخلقت فيها.
الرواية تستدعي في الذاكرة ثورة جمال عبد الناصر وما جرى بعدها للذين بشروا بها ثم ما جرى لهم بعد رحيله عندما وقفوا وحدهم المدافعون عن ثورته، كما أن الرواية تثير أكثر من سؤال حول الخط الفاصل بين الثقافي والسياسي وحول المثقف والمثقف العضوي، أين يبدأ دور كل منهما وأين ينتهي، هل يتوقف عند التحريض والتبشير؟ ماذا يريد المثقف عندما يُنجز ما دعا إليه.. هل يمكن أن تكون هناك دولة للمثقفين.. بأي معنى وبأية وسيلة وفي أي نظام.. ثم هل يمكن أن يكون المثقف من نسيج نظام دعا إليه وتحقق؟ هكذا.. أسئلة كثيرة تبقى بعد قراءة هذه الرواية وهي من حسناتها، لكن يبقى في النهاية سؤال.. هل يلتقي الخطان المتوازيان؟ هذا السؤال إجابته عند بطل الرواية الذي طوى شراعه بعدما أحس أن دوره انتهى.. لكن هل ينتهي دور المثقف؟
هذه ليست قراءة نقدية، إنها احتفاء بعمل هو الأول من نوعه نتمنى أن تتبعه أعمال أخرى خاصة من جيل الستينيات الذي خاض تجربته السياسية مناهضا للنظام الذي كان سائدا.. تجربة لم تفصح عن تفاصيلها بعد، فهي وبكل المعايير جزء من تاريخنا السياسي.
__________________
من الخزانة: كل ما أخرجه منها كتبته قبل فبراير.