من أعمال التشكيلي محمد حجي.
النقد

حياةُ النَّصِّ بموتِ الكاتِبِ

جمعة الفاخري

الكاتب المدعو ( جمعة الفاخري ) ماتَ بعدَ آخرِ نقطةٍ من ارتكابِهِ للنَّصِ الموبِقِ ( فراغ ) ، بحسب مصادر السيِّد رولان بارت، حانوتي السَّردِ الحديث .. 
وسأزعم أنا القارئ البسيط المتواضع الفقير ( جمعة الفاخري ) ، واسمي للمصادفة – فقط – يتشابه مع ( جمعة الفاخري ) الكاتب المعقَّد ، حروفنا فقط تتشابه ؛ أما أسماؤنا فتتنافر كقطبي مغناطيس .. ليس هذا هو المهم ، لكن ؛ هل يحقُّ لنا أن نقرأ نصوصَنَا .. كقرَّاء محايدينَ .. ؟ أن نعجبَ بنصوصِنَا فنبارُكَها ، أو نمقتَهَا فنرجَمها ، أعني هل يمكن أن ( نقرَأَنَا ) دونَ حرجٍ ، دون الوقوعِ في كبيرةِ ( مدحِ الذَّاتِ ) وربما في جريرةِ ( جلد الذاتِ ) سأجرِّبُ تسلَّقَ قامَةَ هذا النَّصِّ للمغفورِ له سرديًّا ( جمعة الفاخري ) لوحدي .. أجل لوحدي ، دون مساعدة من أحدٍ مستعينًا بشهادةِ دفنٍ للميِّتِ موقَّعةٍ منَ السيِّدِ لوران بارت ..

من أعمال التشكيلي محمد حجي.
مثقف من أعمال التشكيلي محمد حجي.

أوَّلاً: إليكم النَّصَّ: فَرَاغٌ
– جَلَسَا مُتَقَابلينِ كقوسي كتابَةٍ .. حَوْلَهُمَا تَحُومُ أَسْئِلةٌ مُلِحَّةٌ ، وعلاماتُ تَعَجُّبٍ كثيرةٌ ؛ لكنَّ ما بينهما كانَ فراغًا فَاحِشًا..!؟
اجدابيا/ 22/2/2007

ثانيًا – النَّصُّ يشتغلُ على إشاراتٍ موحيةٍ ، اتَّكَأَ فيها السَّارِدُ على ( علامات الترقيم ) : ( قوسا الكتابة ، علامات الاستفهام .. التَّعجب ، الفراغ ….. ) وهذه اقتناصةٌ مختلفةٌ من حيث الأدواتِ الفنيَّة بتوظيف هذه العلاماتِ لخدمةِ النَّصِّ ذِكرًا بأسمائِها لا بهيآتها .. 

ثالثًا – القراءةُ الأولى للنَّصِّ قرءاةٌ مراهقَةٌ ، مُرْهِقَةٌ ، معاذَ اللهِ أن تكونوا مراهقينَ ، لكنَّ النَّصَّ البكرَ مُرْهِقٌ أبدًا ؛ مراهقٌ أبدًا ، سنتوهَّم أنهما عاشقانِ سَافلانِ منحلاَّنِ ، يتعاطيانِ العهرَ الرَّجيمَ .. ياللبشاعةِ ..! اللعنةُ على الكاتبِ المنحلِّ .. وعلى أبطالِهِ الأبالسةِ .. !! 
لا تؤمِّنُوا على ذلك ، لا تنسوا أن هذه الالتقاطةَ الدنيا بعينِ المراهقِ .. عينُ الغريرِ هي من التقطَتْ هذا الاحتمالَ السَّاذِجَ .. العفويَّ .. البسيطَ .. ( كلٌّ يكتبُ عن الذي ينقُصُهُ ) شكرًا لبرنارد شو ..

رابعًا – قراءةٌ بالِغَةٌ : احتمالاتٌ ممكنةٌ يُبيحُهَا تعدُّدُ زوايا النَّظرِ ، القراءاتُ ، وفساحَةُ مساحةِ التأويلِ في الـ ق ق ج : المتقابلانِ هما أحدُ هذهِ الأصنافِ: عاشقانِ ، زوجانِ ، صديقانِ .. مفكَّرانِ ، تلميذانِ ، معلِمٌ وتلميذُهُ ، خصمانِ ، متآمرانِ ، لِصَّانِ ، ملكٌ وإبليسِ ….. ثمَّةَ أصنافٌ أخرى ستجتهد فيها أذهانُ قرَّاءٍ آخرينَ.. 
معَ ملاحظَةِ أنَّ النَّصَّ تركَ لنا حرِّيَّةَ تحديدِ جنسِ الشَّخصينِ .. البطلينِ .. كلٌّ حسبَ ما ينقصُهُ. .

خامسًا – القوسانِ : المكانُ المحتوي البطلينِ ، المحصورينِ بقوسينِ وفراغٍ مهيبٍ ..
الفراغُ : الزمانُ المهدورُ ، الفكرُ المجهضُ .. الوقتُ المضاعُ .. العمرُ المغتالُ ، الحوارُ الموؤودُ ، التَّوافِقُ المفقودُ ، التَّوَاصُلُ المقطُوعِ …..
علاماتُ الاستفهامِ : البحثُ عنِ الفكرةِ .. الحكمةُ .. الحريَّةُ .. الرغبةُ .. الدهشةُ .. أسئلةٌ متناسلةٌ حولَ الشَّخصينِ .. اللقاء .. الحوار .. المكان .. الزمان .. النتيجة ..
التعجَّبُ : الاستغرابُ ممَّا بينهما .. وما جعلَ هذه الحالَ بينهما .. ومما سيكونُ بينهما .. ومن هوَّة ِ( البين ) بينهما ..
الفراغَ : البينُ ، المضمرُ الذي ستملأُ بهِ حضرَتُكَ ( الفراغ ) الباهِظَ ..

سادسًا – للكلماتِ دلالاتٌ متعدِّدَةٌ ؛ فكلمةُ ( متقابلينِ ) وهي الحالُ المنصوبةُ ، تظهِرُ الحالَ التي عليها المتقابلانِ ؛ التَّقابلُ حَالَةٌ محمودَةٌ ، فيها منِ القبولِ والإِقبالِ والقِبْلَةِ والقُبَلَةِ …. وووو .. يعني إمكانيَّةَ التَّلاقي .. إمكانيَّةَ ملءِ الفراغِ الفاحشِ بما لا فحشَ فيها ..

سابعًا ـ لو حرَّكنا ( القوسينِ ) باتِّجاهينِ مختلفينِ من وضعِ التقابلِ الذي ارتضاهُ السَّارِدُ ، فسيلتقيانِ عندَ نقطتينِ : من أعلى ( الرأسينِ ) وهي إشارةٌ للقاءِ الفكرِ بالفكرِ .. العقلِ بالعقلِ .. ومن أسفلِ ( القدمينِ ) توافقُ الخطواتِ ، اتحادُ الدربِ .. وتوحَّدُ الاتجاهِ .. فلتطلقِ الرُّؤوسُ العِنانَ للتفكيرِ .. ولتفلتِ الأقدامُ الزَّمامَ للمسيرِ..
محصِّلةٌ : لقد التقيا .. التصقا .. اتِّفقا .. تعانقا .. فالتهما بعناقِهما الفراغَ الفاحشَ .. الفراغَ الموحشَ .. الفراغَ المدهشَ .. الفراغَ المجهِشَ بالدَّهْشَةِ .. 

ثامنًا – المضمراتُ المهولةُ في النَّصِّ ، المغفلةُ بقصدٍ أو بدونِهِ ، ترهقُ القارئَ بالرَّكضِ خلفَها ، لكنَّها تمنحُهُ مكافأةَ مجزيةً بتحريكِ ذهنِهِ ، والقبضِ على بعضِ بُنَيَّاتِ السَّاردِ الحِسَانِ اللواتي لم يتعثرْ بعطرِهِنُّ قلبٌ ، ولم تنظرْهُنَّ عينٌ ، ولم تسمعْهُنَّ أذنٌ ، ولم يخطرْنَ على قلبِ عاشقٍ ..! شكرًا لعمِّنا محمَّد يوبِ ؛ فقد ظَلَّ يوشوشُنَا بعظمةِ الإضمَارِ .. ويغرينا بتحجُّبِ بنيَّاتِنَا السَّرديَّاتِ ..
وهذا الشُّهُوقُ لا ينوبُ فيه أحدٌ عن أحدٍ .. فليطاردْ كلٌّ منا حسانَهُ المضمراتِ .. 
ولتبقَ هذِهِ الحواري الحسْنَاوتِ كما قصَّةِ عشقِ ابن زيدونٍ :
سِرَّانِ في خَاطِرِ الظَّلْمَاءِ يَكتُمُنا ** حَتَّى يَكادَ لِسَانُ الصُّبْحِ يُفْشِينَا 
فليسرَّهْا كلٌّ منَّا في مضمراتِهِ ..

تاسعًا – أقسمُ لكم أنَّ الـ ق ق ج ، مغامرةٌ محفوفةٌ بالرَّهَقِ المطلقِ ، مجازفةٌ محاطةٌ بالسُّقُوطِ الواعي في اللاوعي .. مبارزةٌ ذهنيَّةٌ لا تنتهي بتأويلٍ قريبٍ أبدًا .. 
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ..
________________________________________________
* قصَّة ( فراغ ) من مجموعة ( رفيف أسئلةٍ أخرى ) للكاتب.

مقالات ذات علاقة

ما الذي يميز رواية “إيشي” لعائشة الأصفر؟

المشرف العام

عزة المقهور.. كامرأة تربعت على حافة العالم

المشرف العام

الرواية الليبية: خطوة لقدام وعشرة اتاّلي

اترك تعليق