ضمن أنشطة الجمعية الليبية للآداب والفنون أقيمت مساء الثلاثاء الماضي فعالية ثقافية تمثلت في إلقاء محاضرة بعنوان” ملامح من تجربة خيال الظل – القراقوز في ليبيا ” للأستاذ الباحث عبدالرزاق العبارة , النشاط الذي انطلق حوالى الساعة الحادية عشر وحضرهُ جمهور متنوع جُلهُ من المسرحيين والمهتمين بالفنون والمثقفين أُقيم بدار انويجي بالمدينة القديمة كما درجت العادة بالنسبة للجمعية حيثُ تقام انشطة شهر رمضان المبارك في هذه الدار , وتقام بقية الأنشطة في أماكن مختلفة.
كلمة ترحيبية وتعريفية مقتضبة تكفل بإلقاءها الفنان التشكيلي احمد غماري عضو الجمعية وفيها تلى جانبا من سيرة الأستاذ المُحاضر المهنية والعلمية والتي تنوعت ما بين تقلده لبعض المناصب الإدارية والأستشارية في عدة مؤسسات فنية وثقافية وتعليمية ونشاطات مسرحية , وقد حالَ عدم وجود مكبر جيد للصوت , حيث تم الأستغناء عنه في نهاية الأمر والإلقاء بدونه , حال ذلك دون الأستماع إلى العديد من فقرات المحاضرة , سيما وأن بعض اللغط والأصوات الجانبية غطت على صوت المحاضر وضيوفه , كما نوّهَ غماري إلى أنه بانتهاء هذه المحاضرة تكون الجمعية قد اختتمت موسمها الثقافي للنصف الأول من سنة 2018 , وفي لفتة وفاء وتقدير وقف الحاضرين بناء على طلب من مدير النشاط دقيقة لقراءة سورة الفاتحة والترحم على من غادرنا من المبدعين مؤخرا وهم الراحلين داوود الحلاق ومحمد عبدو الفوراوي والصادق حسنين.
أفتتح العبارة محاضرته ببث مشهد كوميدي من مسرح العرائس عن طريق آلة العرض المرئي الحائطية التي واكبت الحدث بالصور , أستطاع به – أي المشهد – أن يبعث شيء من المرح والانبساط والحبور في نفوس الحاضرين ويهيئهم نفسيا للمحاضرة , وفي بداية حديثه حاول الباحث أن يوضح بان هذا المنشط هو عبارة عن دردشة وحلقة نقاش مفتوح حول موضوع القراقوز وليس محاضرة بالشكل الأكاديمي المتعارف عليه , وهذا ما تأكد لاحقا من خلال مشاركة الآخرين في تقديمها , وبنبذة مختصرة عن مسرح العرائس بدأ العبارة كلامه حيثُ بيّنً أن القراقوز شكل من أشكال مسرح العرائس يلتقي معه في بعض التفاصيل والأوجه ويختلف في أخرى , وأحال من ثم الكلمة إلى الفنان الصادق قصيعة الذي أجرى تجربة ميدانية تتعلق بمدى فاعلية مسرح العرائس في معالجة مرضى التوحد من الاطفال , تحدث الصادق قصيعة عن تفاصيل وآليات هذه التجربة الرائدة وتوقف طويلا عند نتائجها الإيجابية المتمثلة في التحسن الملحوظ الذي طرأ على الأطفال الذين خضعوا للتجربة أو شاركوا فيها وتطور القدرة لديهم على الاندماج وسرعة التعلم واختصار الوقت في حفظ الدروس وغيرها من النتائج التي أشار لها الباحث الصادق قصيعة , وفي نهاية الفقرة المخصصة له اعتذر عن تقديم مشهد كنموذج مبسط لهذه التجربة عندما طُلِبَ من ذلك لعدم توفر الإمكانات اللازمة وعدم الإستعداد لتجسيد التجربة.
ذهب المُحاضر عبدالرزاق العبارة بعد ذلك إلى توضيح أهم أشكال العرائس فتحدث عن أنواع ثلاثة منها وهي العروسة الخشبية ذات المفاصل التي تتيح لها الحركة والليونة والمربوطة بخيوط والمتصلة بدورها بصليب وتعتمد على من يحركها من الأعلى , ثم تحدث عن القفاز وهو عبارة عن شخصية تُلبس في اليد ويتم تحريكها من قبل اللاعب بتحريك الأصابع واليد وأشار في عجالة إلى العرائس المتصلة بعِصي للحركة.
كانت هذه شبه مقدمة ومدخل للموضوع الرئيسي وهو القراقوز حيث تطرق الباحث تاليا لأصل التسمية ولكن أشار قبل ذلك إلى أن القراقوز الليبي ذو أشكال مسطحة يسلط عليها الضوء من الخلف بحيث تتشكل ظلالها على القماشة البيضاء أو الشاشة ويُسمى لدى أشقائنا في تونس بالكاراكوز ويتشابه تقريبا مع القراقوز الليبي في كل شيء من النصوص إلى القصص والألفاظ والمفردات وهذ ما أكدته دراسة الباحث الأستاذ عبدالله البوصيري الذي قام بتجميع هات المفردات في دراسته بحسب الباحث عبدالرزاق العبارة , أما القراقوز المصري الذي يسمى الأراقوز في اللهجة المصرية فهو عبارة عن عرائس ثلاثية الأبعاد وليست مسطحة كما هي في طرابلس , ولم ينتشر القراقوز في بلاد المغرب العربي لأسباب أرجعها البعض إلى عدم خضوعها لحكم العثمانيين.
وعن أصول هذا الفن الفرجوي ألمح الباحث إلى أن جذوره تعود إلى تركيا وبلاد الأناضول وانتشر في شمال افريقيا باعتباره نشاطا ترفيهيا في الأساس بعد أن أحضره الأتراك إلى مستعمراتهم وكان يُستعمل ويُمارس بصفة عامة , ومن قبل الجند بصفة خاصة , كما ألمح الباحث إلى جهود محمد الأسطى الذي قام بترجمة وتعريب بعض نصوص وحكايات القراقوز عن اللغة التركية.
الباحث والمسرحي والناقد نوري عبدالدائم الذي كان حاضرا أشار العبارة إليه وإلى كتابه الذي صدر منذ سنوات في الفقرات المتعلقة بموضوع المحاضرة , كما أشار الباحث إلى شخصية الوسطي التي لها علاقة وثيقة بهذا الفن في مدينة طرابلس القديمة.
وعن أصل الكلمة قال الباحث أنها تعني باللغة التركية ” أبو العيون السود ” وهنالك من ترجمها إلى العين السوداء أو قره قوز وهي عبارة عن كلمتين تم دمجهما ببعض ليشكلا في نهاية الأمر كلمة ذات دلالة واحدة , وهنالك أيضا من أعطاها تأويلاً آخراً كون الكلمة ” قره كول ” تعني السجن أو السجان.
وكانت هذه التقنية او الفن يُتخذ عند البعض كوسيلة للتلفظ بالكلام البذيء , تطرق الباحث بعد هذا العرض المستفيض إلى شخصية قراقوش حاكم طرابلس بفترة زمنية وأعطى عنها بسطة تاريخية واسعة وحاول الأقتراب من ناحية ارتباطها بهذه الظاهرة الفرجوية سيما وأن حكايات عديدة تم تأليفها عن هذه الشخصية التاريخية بهدف نقدها وهجائها والحط من قدرها , وذكَّرَ في الختام بأن لفظة القراقوز اتخذت منحىً آخراً وتحولت إلى ما يشبه الشتيمة أو إلى مصطلح يُطلق على الشخص بغرض الأستهزاء به والتقليل من شانه , وكل هذا يأتي في سياق تتبعه لأصل الكلمة وأبعادها الفنية والأجتماعية.
الأستاذ مختار دريرة الذي تدخّلَ ببعض الشروحات والتوضيحات بعد جلوسه إلى طاولة الإلقاء وتأكيداً لكلام الأستاذ عبدالرزاق العبارة من ان هذه الجلسة الرمضانية الجميلة هي أقرب إلى الدردشة الأخوية وحوار مشترك من المحاضرة.
وكمدخل أشار الأستاذ مختار إلى بعض المراجع التي تحدثت عن ظاهرة القراقوز وكان لا بد وهو الباحث والمنقب من أن يشير إلى ما نُشِرَ بمجلة فكر وفن الألمانية التي تهتم بالثقافة والتراث العربي التي تحدثت عن نشأة القراقوز وقصة انتشاره في الأقطار العربية , كما أحال إلى جهود الدكتور الصيد أبو ديب في هذا الجانب بدراساته القيمة التي تناولت الظاهرة.
وهنا توجّب الإشارة كذلك إلى ما وضعه من تأريخ وتحليل من قبل الراحل فؤاد الكعبازي , أيضا وبحسب الباحث مختار دريرة للكاتبة والقاصة عزة المقهور إسهاما فاعلا فيما يخص القراقوز في التأريخ والتعريف بهذا الفن ,وللكاتبة فاطمة غندور كذلك إسهام فيما يتصل بالقراقوز واعتبر لاحقا أن القراقوز هو بحث عن الحكمة وترسيخ للتراث كونه يراوح وينوس ما بين الإفصاح والكتمان والحركة والسكون والخفة والخيال والمجاز والتورية وهو التعريف القريب من تعريف مجلة فكر وفن الألمانية , وكل هذه الصفات التي أوردها الباحث في تقديري تمثل في نهاية الأمر بعضا من التقنيات التي يقوم عليها فن القراقوز باعتبار أن لكل فن تقنيات وحيل وقواعد لا يقوم ولا يستوي إلا بها وبوجود من يجيد تطبيقها , وكان من الضروري أيضا أن يحيل إلى كتاب ” تذكرة إلى عالم الطفولة ” للأستاذ سالم سالم شلابي الذي اهتم بهذا الموضوع مبكرا وأفرد له مساحة في اجتهاداته التراثية والتاريخية.
هذا ما قام به الأستاذ مختار دريرة الذي استحضر شخصيات مرموقة من الفنانين والمثقفين كانت تواظب على حضور عروض القراقوز للأستفادة والمتعة , وفي كل ما سرد وعرض واستحضر من معلومات وتحليلات حاول الأستاذ دريرة أن يضعنا في قلب تلك الأجواء الجميلة التي عاصرها وعايشها وتعرف إلى شخصياتها واندمج تماما في تفاصيلها المتنوعة والجميلة.
الدكتور حسن قرفال من جهته وهو الاكاديمي وعندما انتقل إلى المنبر تأكيدا وتعزيزا لتوجه صاحب المحاضرة الذي أرادها أن تكون جلسة حوارية , تحدث بإسهاب وأضاف إلى من سبقوه عديد المعلومات , وعن أسباب تراجع هذا الفن بالإشارة إلى مقالة الدارس احمد عزيز في هذا الصدد , أرجع الدكتور حسن سبب التراجع إلى عدم قدرة القراقوز على مسايرة تطور لغة الفنون وإلى هجرة سكان المدينة القدية إلى بيوت حديث بضواحي طرابلس وتوزعهم هنا وهناك مع بزوغ عصر النفط وتوافد أُناس آخرين على المدينة القديمة لا علاقة لهم بالقراقوز أو ربما لم يسمعوا به من قبل , الأمر الذي تسبب في اندثار وتلاشي هذا الفن وتراجع الأهتمام به.
وفي إطار تحليله شّددَ الدكتور حسن على أن القراقوز هو عنصر من عناصر المنظومة الفرجوية التي كانت متاحة في تلك الفترة الزمنية إلى جانب الراوي أو الحكواتي والقوال والشوشباني وأمك طمبو , وطقس من طقوس الحياة الطرابلسية , وهاته الفنون في مجملها من وجهة نظره لعبت دورا هاماً في تشكيل الشخصية الطرابلسية تماما مثلما أسهمت في تنمية الجانب الإبداعي وشكلت الوجدان الفني والجمالي لكل من عاصرها وتفاعل معها , وفي ختام مداخلته أو محاضرته التي لم تعتمد على أية ورقة مكتوبة ومُعدة مسبقا عقد الدكتور مقارنة ما بين المارونيز – وأتمنى أن تكون كتابتي للكلمة صحيحة – وهي بحسب ما أعتقد شخصية من شخصيات مسرح العرائس وما بين شخصية القراقوز , من خلالها استعرض خصائص وأوجه الأختلاف بينهما , كما لم يفوته أن يشير إلى قراقوز بازامة الذي نشَطَ في مدينة بنغازي في ذات القترة التي نشط فيها بطرابلس , أي أن الأمر لم يقتصر على طرابلس وحدها ولعل أحد البُحاث والدارسين ينبري ويتصدى لهذه الجزئية مستقبلا ليشبعها بحثا وتمحيصا للوصول إلى نتائج قيمة كما تمت دراسة الظاهرة من قبل العديد من الباحثين بطرابلس.
ولمدة خمس دقائق أو يزيد قليلا قام الممثل القدير يوسف الكردي بتجسيد مشهد حي ونموذج واقعي لهذا الفن العريق والعتيق , حيث انتقل إلى المقصورة التي يتم تفكيكها وتركيبها كل مرة أو الصندوق الأسود ذي الثلاث جدران وذو الشاشة البيضاء في مقدمته وبعد تسليط الضوء على الشخصيات المسطحة وانعكاس ظلالها على القماشة البيضاء شرع الفنان يوسف الكردي بما يمتلك من مؤهلات وخبرة فنية في إدارة حوار بنّاء ما بين شخصيتي رجل وزوجته ناقشا فيه على مسمع ومرأى من الحاضرين شؤون البيت والعائلة المعيشة وحمل حكمة وخلاصة إلى جانب روح الفكاهة التي دار فيها كل هذا وسيطرت على مجريات الحوار , والشخصيات التي يظهر ظلها للمشاهد تتحرك هنا وهناك كما لو انها شخصيات من لحم ودم وليست مجرد شخصيات كرتونية أو مصنوعة من مواد مختلفة , وأعتبر نفسي محظوظا بمشاهدة هذا العرض صحبة جمهور الحاضرين إذ يتعذر تقريبا ان يعثر المرء على مثل هذا العرض في أي مكان أو مناسبة أخرى , ولهذا السبب كما أتصور ولأن الفنان أجاد أداء دوره ولأن المًحتوى هادف ومُسلي وخفيف أنتزع التصفيق من الأكُف ونال الإستحسان والإعجاب.
وبأسئلة كل من أسامة الكميشي وهاجر الطياري الذين قاموا بطرحها والمتعلقة ببعض التفاصيل في المحاضرة والتي من بينها إمكانية استثمار فن القراقوز كوسيلة نقد وتنوير في المجتمع , والتي أجاب عنها المُحاضر باختصار , وبكلمات من مدير الجلسة الأستاذ أحمد غماري أختُتِمَ النشاط الذي يُحسب لهُ أنهُ حظيَ بمتابعة وتغطية إعلامية جيدة بحضور بعض القنوات التلفزيونية والصحفيين.